أسعد أبو خليل، كعادته في كل سبتية (التعبير لحازم صاغية) في جريدة «الأخبار» لديه لائحة ثابتة من ضحايا الخبط العشوائي يتشتت التصويب فيها على أسماء كثيرة تتكرر في غالبيتها، ويركّز في كل مرة على بعضها أو على إحداها، في مقالة مفككة الاوصال، لا يربط بين أفكارها رابط غير شتائم مرصوفة تتناول الاتهام بالعمالة لممثلي الحريرية والوهابية ومرتزقة الأموال الخليجية النفطية والغازية، وحاملي الأفكار السيادية (اللبنانية)، وأدوات الامبريالية والصهيونية، وأتباع السوفياتية واللينينية والستالينية، والرجعية العربية والشيوعية البكداشية والحاوية، واليمينية واليسارية الفوضوية، والرأسمالية والبنوك الغربية، والمطواعية الايديولوجية للحملات الدعائية التي تقوم بها الأبواق ضد اليسار، الخ.
لم يكن موفّقاً في شن هجومه الشتائمي، لأنه لا يركز تصويبه على فكرة أو على شخص، بل سرعان ما يوسّع حقل الرماية فتطوش سهامه في كل اتجاه ويتشتت موضوعه. أول كلمة في المقالة هو اسمي «كان محمد علي مقلد...»، ليوهم القارئ بدقة التصويب، لكن بعد سطر واحد أخذت اللائحة تطول لتضم «يساريين سابقين... من بينهم قدري قلعجي»، «أول من لعب دور المساعد لليمين في حملاته الدعائية ضد اليسار»، إضافة إلى رفاق سابقين من بينهم عبد الكريم مروه ناسباً إليه وإليّ معاً من غير سند القول: «بأن الدولة... هي الطرف الذي يحل مشكلة عدم المساواة»، ثم يعود فيستفرد بمروه متهماً كتبه بأنها تضمنت «تشويهاً فظيعاً للفكر الماركسي»، تشويهاً استند فيه إلى «المعلم ستالين الذي هدى ورعى فكر ولغة مجلة «الطريق» العقيمة في سنواتها السوفياتية الستالينية» ثم عرج على «أمثال فؤاد السنيورة» وعاد القهقرى إلى يسار اليمين... ثم إلى الفكر الفوضوي، ثم إلى لينين الذي هو «أبعد ما يكون في فكره من الفكر الفوضوي، وحتى من الفكر الماركسي».
حتى لو كانت العمليات فردية فالمهم أن نؤسس عليها وطنيّاً ونجعلها تراكمية

ورأى في كتابه ما العمل «تحقيراً للطبقة العاملة» إلى أن «اقترب (لينين) من التلاقي الماركسي الفوضوي في كتابه الدولة والثورة». ثم عاد إلى مجلة «الطريق» وجريدة «النداء» اللتين تخلوان من أية إشارة إلى مصطلح «هربرت ماركوز عن الماركسية السوفياتية» لأنهما من أتباع السوفياتية. وتنتهي اللائحة الاتهامية بالدولة الحريرية و«البنك العربي (الذليل) في نيويورك المرتهن للمعايير السياسية الاسرائيلية، «وهذا كله» ما يبطل للمرة المليون وهم نظرية الرأسمالية الوطنية التي صدّرتها لنا الماركسية السوفياتية».
لكل معركة أدواتها وتكتيكها. قد لا يجيد أسعد أبو خليل معرفة التكتيك الصالح في المعارك العسكرية فيعذر. أما أن يدخل إلى مساجلة فكرية بتكتيك عسكري، وكيف إذا كان لا يجيده، فهذه خطيئة بحق الفكر، لأنه في مقالاته كل نهار سبت لا يساجل بقدر ما يرشق، والأدهى من ذلك أنه في رشقه العشوائي يفضح عجزه عن التركيز. ولذلك نراه يأتي من كل واد بعصا، ويرمي في كل بحر حصى، فيبدو شارد الذهن ضائعاً، ويصير حقل رمايته شاسعاً فتتبعثر جهوده وتتشتت.
يتضاعف حجم الخطيئة لأن مرتكبها يزعم انتماءه إلى حقل العلم والبحث العلمي، فيما تخلو مقالته من أي منطق علمي. فهو يأخذ عليّ، في مقالته مآخذ ثلاثة: جهلي الماركسية وحاجتي إلى «نسخة من الكتاب الاستهلالي المصور، (ماركس للمبتدئين)»؛ وتحولي إلى يساري سابق يقدم الخدمات لليمين في حملاته الدعائية ضد اليسار، وسعيي وراء المال الخليجي النفطي والغازي، والتحاقي بالحريرية واختياري جريدة «مدن، الملح» تلميحاً إلى روايات عبد الرحمن منيف التي تحكي حكاية النفط السعودي.
حول النقطة الأولى، كنت أكتفي، إن سئلت عن ثقافتي الماركسية، بجواب ينطبق علي أقلّ بكثير من انطباقه، بالتأكيد، على حضرة الجامعي الاميركي الماركسي، وهو جواب اقتبسته من ماركسي ظريف هو الدكتور حسن قبيسي رحمه الله، (المتن والهامش، ص249) اقتبسه بدوره عن «اسحق دويتشر... الذي روى تجربته في قراءة كتاب رأس المال، قائلاً على لسان ماركسي آخر: الحقيقة أنني لم أقرأ رأس المال، لكن كاوتسكي قرأه ووضع له تلخيصاً، غير أني لم أقرأ تلخيص كاوتسكي هو الآخر، بل إن كراوس قرأه ولخص تلخيصه، وأنا لم أقرأ تلخيص كراوس، لكن خبيرنا المالي هرمان ديامند قرأ كراوس وأخبرني بكل ما ينبغي أن أعرفه حول الموضوع».
وإن كنت لا أزعم معرفة عميقة بالشأنين الاقتصادي والمالي، فلأنني دخلت حقل الفلسفة الماركسية، في حقل اختصاصي من الباب الأدبي، وكان أول كتاب «ماركسي» قرأته هو «الفن والمجتمع عبر التاريخ» للكاتب الألماني أرنولد هاوزر، وربما كان هو سبب نجاتي من الوقوع، في نقل قوانين المادية التاريخية والمادية الجدلية نقلاً ميكانيكاً من حقل الفلسفة إلى حقل السياسة، وبالتالي من ربط الحقلين ربطاً مغلوطاً، لأن من فعلوا ذلك أغفلوا أي تميز أو خصوصية لكل من الحقول المعرفية والعلمية. لقد علمني هذا الكتاب أن أهمية الماركسية تكمن في منهجها لا بالأفكار التفصيلية التي يستلذ صغار الماركسيين بالعودة إليها واقتباسها بمناسبة وغير مناسبة، أسوة بأي مستزلم فكري يستعين بالنصوص القديمة ويتباهى بالقراءات الاستعراضية، ويكثر من الاقتباسات وأسماء المراجع. هذا هو بالضبط معنى المصطلح الماركسي، البراكسيس، الذي لم يحسن أبو خليل استخدامه في موضعه الصحيح، بل حشره حشراً حين أراده دليلاً على براعته، فخذله جهله بالمعنى الحقيقي للمصطلح، وخصوصاً جهله بالمستويات المتعددة التي يمكن أن يحيل عليها. ولو كلف نفسه عناء العودة إلى مقدمات كتبي لكان تأكد أنه مصطلح عزيز عليّ معزّة من تتلمذت على يديه في الماركسية وتعلمت منه أهمية المصطلح كأداة معرفية، وكان يحلو لي دوماً أن أصوغ رأيه بعبارة: قل لي ما مصطلحاتك أقل لك من أنت. عنيت به الشهيد مهدي عامل حسن حمدان.
استند أبو خليل إلى مقطع من مقالتي عن محنة الديمقراطية مع اليساريين، وأورده بنصه الحرفي، وأخذ عليه وعليّ الاساءة إلى المفاهيم الماركسية عن الدولة. خلاصة فكرتي عن الدولة وردت في مقالة سابقة نشرت في جريدة «النور» الناطقة باسم الحزب الشيوعي السوري منذ خمسة عشر عاماً، وأعدت نشرها في كتابي «اغتيال الدولة» (2006) وقد ورد فيها ما يلي:
«اضمحلال الدولة هو المفهوم الأساس الذي بنى عليه الشيوعيون أخطاءهم اللاحقة. لقد اعتقد ماركس أن الحرية التي تحدث عنها هيغل هي الحرية الممكنة في الحضارة الرأسمالية، أي حرية رأس المال، حرية الفلاح في أن يعمل أو لا يعمل في أرض الإقطاعي. أما الحرية الحقيقية فلن يبلغها البشر إلا في المجتمع الاشتراكي. ورداً على هيغل القائل بأن الدولة (الرأسمالية) هي التي تجسد الحرية، قال ماركس إن البشرية لن تعرف الحرية طالما الدولة موجودة، ومنه انطلق في استشرافه ليقول إن التاريخ الحقيقي للبشرية يبدأ بالاشتراكية وأن ما قبل الاشتراكية هو مما قبل التاريخ... أما سياسة النيب اللينينية فقد وضعت الشيوعيين أمام تحد آخر، تحدي أن يقودوا بناء دولة رأسمالية أو أن يشاركوا في بنائها، إسهاماً منهم في تحضير التاريخ للانفتاح على حضارة جديدة كان ماركس قد استشرف معالمها وسماها الاشتراكية... خصوصاً أن الدول التي نالت استقلالها في منتصف القرن الماضي مهددة اليوم بالعودة، على صعيد الدولة والمؤسسات السياسية، إلى مرحلة ما قبل الحضارة الرأسمالية، أي إلى تفتيت الدول القائمة والرجوع بها إلى مرحلة الدولة العشيرة أوالدولة القبيلة... كل ذلك ليس من قبيل الاعتراض على الاستشراف الماركسي، بل من قبيل تأكيده. ذلك أن البشرية لم تكن في حاجة إلى مثل هذا الاستشراف حاجتها اليوم إليه».
كان على الباحث الكاليفورني ألا يتسرع أولاً في أحكامه، لأن التسرع عدو العلم. وكان عليه ثانياً أن يكلف نفسه عناء البحث عن السياق الوارد في كلامي عن الدولة، وعناء البحث عن سياق الاقتباسات الماركسية التي استند إليها ليدحض فكرتي. إذ لا يحتاج الأمر كبير جهد ليكتشف القارئ العادي أن باحثنا لم يجد في مصادره الماركسية إلا ما يؤكد وجهة نظري القائلة إن الماركسيين وقفوا ضد قيام الدولة الرأسمالية وعملوا على تدميرها ولم ينتظروا «اضمحلالها» الذي استشرفه ماركس بعبقرية خارقة، وفسّره الماركسيون تفسيراً أحمق أخرق لا يستوي أمام أي عقل ابتدائي في الماركسية أو في سواها. كما كان عليه ثالثاً أن يتمهل في قوله «لم تكتب نظرية ماركسية خاصة بالدولة في المجتمع العربي». لعله، لو عمل كباحث، لعثر في كتاب فالح عبد الجبار (ما بعد ماركس، الفارابي، 2010) على حكم مدعوم بالأدلة والقرائن، خلاصته أن الماركسية (العربية وغير العربية) بنصوصها الأصلية أو تلك التي أنتجت بعمليات التأويل والاجتهاد والتزوير والتشويه، خلو من أيه نظرية خاصة بالدولة، وأن ماركس أكمل من نظريته الجانب المتعلق بالاقتصاد الرأسمالي فحسب، تاركاً لنا أن نستكمل في السياسة ما أنجزه في الاقتصاد؛ أو لكان عثر على الفكرة ذاتها على لسان سمير أمين القائل: لقد اختصر ماركس، في نظريته الاقتصادية، وصف الرأسمالية بشعار «السلعة صنم» وعلى الماركسيين أن يكملوا مهمته على صعيد السياسة بإثباتهم صحة الشعار: «السلطة صنم».
أما كلامه عن الحريرية واليسار السابق والنفط والخليج وما إلى ذلك فهو يحيل على التفكير الذي ساد، حين كان يعتقد الشيوعيون بأنهم يعيشون في مرحلة الانتقال إلى الاشتراكية. ربما كان عليه أن يستفيق ويتنبه إلى ان الاتحاد السوفياتي انهار وأن الصين اختارت اقتصاد السوق الاشتراكي بديلاً من الاقتصاد الموجه، وأن التجربة الاشتراكية سقطت، وأن إعادة بنائها تحتاج إلى تأهيل النظرية أولاً في ورشة فكرية عالمية لا يجوز لباحث واحد أن يصادرها ويطلق الاحكام بشأنها.
كان عليه أن يطلع على كتاباتنا في نقد التجربة الحزبية والسياسية التي خضناها بالعرق والدم والكفاح، فيما اختار هو الهجرة، معفياً نفسه من تبعات النضال اليومي. وقد توصلنا في نقدنا، غداة انهيار التجربة الاشتراكية، إلى أن النضال لحماية الدولة في بلادنا من الانهيار هو أفضل وسيلة لمواجهة النظام العالمي الجديد الأحادي، الذي اتجه الاقتصاد فيه للاستئثار بإدارة شؤون البشرية على حساب دور السياسة والأحزاب والقوانين والدول. واستخلصنا من تجربتنا في الحرب الأهلية اللبنانية، أن نضالاتنا، التي لم تكن تفتقر إلى أية ذرة من الصدق والتفاني، لم تكن مضبوطة على إيقاعات المصالح الوطنية للشعب اللبناني بقدر ما كانت مرهونة لتوازنات القوى الخارجية ومصالحها، وأننا كنا نفهم الصراع الطبقي بتفسيره السوفياتي، صراعاً بين الجبارين ونلتزم بموجباته الدولية حتى لو كانت في غير صالح وحدتنا الوطنية. كان ذلك حال اليسار على نحو خاص الذي ارتضى لنفسه التحالف مع كل أنظمة الاستبداد التي قمعت شعوبها وحكمتها بالحديد والنار. وانتهينا من مرحلة النقد الأولى باستنتاج حاسم وجازم مفاده أن أحزاب الأمة العربية كلها القومية والدينية واليسارية والتقدمية هي أحزاب أصولية، تشبه بعضها بعضاً في اعتمادها الاستبداد شكلاً وحيداً للعلاقة فيما بينها وللعلاقة بشعوبها، وأن الاستبداد هو آفة الانظمة والأحزاب وهو المعيق الأساسي للنهضة العربية في كل مراحلها، وهو السبب الأساسي في هزائم الأمة أمام الصهيونية والاستعمار والرأسمالي العالمي. من هذا المنطلق وجهت النقد لقيادة الحزب و لرئيس الحكومة في حينه رفيق الحريري في مقالة نشرت على حلقتين في جريدة «النهار» (1995) بعنوان أزمة الديمقراطية في مشروع الحريري وفي مشاريع اليسار، ثم أعدت نشرها في كتابي، اغتيال الدولة. وفي المقالة نقد شديد واتهام للطرفين، يسار استبدادي وحكومة ميليشيات، وكلاهما يقف بالمرصاد ضد دولة القانون والمؤسسات.
موقفي هذا من كليهما لم يمنعني من البقاء حريصاً على الحزب أميناً على تاريخه راغباً في تجديده وإعادة بنائه يساراً يماشي العصر، أو في الأقل يقبل بالتحدي الذي طرحه لينين على حزبه في أواخر حياته، ولم يمنعني من النظر إلى مشروع الحريري بعين أخرى غير تلك العين «الطبقية» العوراء التي لم تقرأ ما قاله البيان الشيوعي عن الرأسمالية حين وصفها بأنها ثورة تقدمية بكل معنى الكلمة، قائلا بالحرف»: لقد لعبت البرجوازية في التاريخ دوراً في منتهى الثورية». وهو ما ينطبق، في اعتقادي، على البرجوازية اللبنانية التي كانت أكثر حرصاً على الوطن من قوى السلطة وقوى الثورة على حد سواء، وأنها، أي البرجوازية، وفي مقدمتها رفيق الحريري، هي التي حمت البلد من الانهيار الاقتصادي في اللحظات العصيبة، لكن من ضمن الآليات التي تحمي السوق الرأسمالية وتحافظ على معدلات الربح العالية والتراكم المريح.
كل هذا لا يعرفه أبو خليل، ولم يكلف نفسه عناء البحث عنه على الأقل في ما ينشره موقع غوغل. لو فعل ذلك لعرف أنني وقفت بحزم ضد أي انشقاق عن الحزب الشيوعي، وضد كل الانشقاقات العزيزة على قلبه وقلوب كل الفوضويين والمغامرين بمصائر أحزابهم، وبقيت حريصاً على القول إن اليسار حاجة اليوم للوطن ولكل الأوطان أكثر من أي وقت مضى. وكان لسان حالي هو ما قاله الراحل العزيز جوزف سماحة: لا يمكن بناء يسار جديد من دون الحزب الشيوعي كما لا يمكن بناء اليسار مع هذا الحزب الشيوعي القائم. نعم نحن نحتاج إلى تغيير جذري، لا إلى فكر محنط يجتر ما قاله السابقون من غير تمحيص ولا تدقيق.
ولو أمعن أبو خليل النظر في مواقفنا لأيقن أننا رفضنا الالتحاق بأي فريق سياسي لبناني، وأننا نواصل السعي لتشكيل حركة سياسية تضم في صفوفها كل الأحزاب والجمعيات والشخصيات في إطار جبهوي يجتمع فيه الحريصون على إعادة بناء الوطن والدولة تحت سقف القانون والدستور، على أن يحافظ كل على استقلاليته، داخل هذه الجبهة التي اقترحنا أن نسميها «الجبهة المدنية» التي تنشد التغيير والتقدم، وترفض اللجوء إلى العنف والحروب أو إلى الانقلابات الفوقية. هذه هي صورة اليسار الذي نسعى إلى بنائه في الأفق المنظور، منطلقين من الاعتقاد بأن بناء الديمقراطية قد يكون أكثر كلفة من بناء الاشتراكية. أحداث الربيع العربي تثبت ذلك وتنذر بالمزيد من الأثمان إذا ما اتسعت رقعة السعي إلى بناء الديمقراطية (وليس الاشتراكية) لتشمل الأمة كلها من محيطها إلى خليجها، وتزرع في نفوسنا القلق على مصير أوطاننا في ظل إصرار الأصوليات القومية على التطرف في ممارسة استبدادها والدينية على تطرف يشد عجلة التاريخ إلى الوراء، واليسارية على تطرف ثوري مغامر.
ولو خفف أبو خليل من انفعاله الدائم وسأل عن موقفنا من الحريرية لما تكبد مرة تلو المرة مغبة اعتبارها تهمة ورماها في وجوهنا. الحريرية عينة من نظام نعيش في ظله، أنت في مركزه، في بلاد الشيطان الأكبر ورأس الامبريالة ورأس النظام العالمي الجديد، ونحن في بلاد طرفية (سمير امين) تنتمي إلى الحضارة الرأسمالية التي لا تزال قادرة على تجديد نفسها بعد كل أزمة من أزماتها الاقتصادية، وبالتالي، لم يبلغ التناقض فيها بين علاقات الانتاج والقوى المنتجة حد اسشراف ثورة اشتراكية جديدة بقيادة مستشرقين أو مستغربين أو متمركسين أو ثورجية من طراز الانقلابيين من ذوي القبعات والنياشين والنجوم على الاكتاف ولا من ذوي العمائم.
نعم نحن نعيش في صميم الحضارة الرأسمالية التي لم يخطئ ماركس في توصيف الآليات الخاصة بها، وبما أن سقوط الاشتراكية أثبت أننا لم نعد في عصر الانتقال إلى الاشتراكية، وبما أن القيادات السابقة الرسمية والشعبية ببرامجها الدينية أوالقومية التقدمية اليسارية، الفوضوية أو العاقلة وضعتنا أمام خيارين اثنين إما الاستبداد أو الحروب الأهلية، فقد صار من واجبنا اليساري والثوري والوطني والفكري والمصلحي أن نبحث عن منافذ نجاة تنقذنا من أنظمة وأحزاب الاستبداد الوراثية. لقد بدت الحريرية الظاهرة الوحيدة ما بعد الحرب الأهلية التي تملك مشروعاً لإعادة بناء الوطن، وهي من شجرة العائلة الرأسمالية التي تسعى، وهذا من طبيعتها، لإعادة الاعمار ومراكمة الأرباح في آن واحد، ولإعادة بناء الدولة والاستثمار في ظل قوانينها في آن واحد، خلافاً لكل المشاريع الاخرى المصرة على توزيع خيرات الوطن البشرية والمالية والثقافية وغيرها بالمحاصصة، وعلى تقاسم سيادة الدولة وتوزيعها على الدويلات.
صحيح أن الدولة الديمقراطية، دولة القانون والمؤسسات والحريات والعدالة والكفاءة وتكافؤ الفرص، حاجة لبناء الوطن، وأنها لن تجترح حلولاً سحرية لجميع أزماته ومشاكله، لكن ضرورتها نابعة من كونها الوسيلة الوحيدة لاستعادة السياسة من مغتصبيها، ولتأمين المناخ السليم للصراع الديمقراطي السياسي والاجتماعي، فضلاً عن كونها المناخ المناسب لعودة اليسار من جنوحه القومي ولوثته الاستبدادية إلى قيمه الجميلة وصفحات تاريخه الناصعة.
* كاتب لبناني