يبدو ان الولايات المتحدة الأميركية قد أدركت، أخيراً، ان محاربة الإرهاب بفعالية في المنطقة دون أخذ مواقف سوريا بعين الاعتبار أمر مستحيل. غير انها تدرك، أيضاً، انها لا تملك ترف تغيير معسكرها وتحالفاتها العربية والإقليمية والدولية، في الوقت الراهن. ومن سوء حظ واشنطن انها تتعايش في حلفها مع دول وقوى تدعم الإرهاب بشتى الوسائل والسبل في سوريا والعراق، كما تفيد ذلك تقارير إقليمية ودولية لا يشك في انحيازها الى الولايات المتحدة واستراتيجيتها في المنطقة.
ولعل التوتر بين هذين الإدراكين هو ما يطبع سياستها تجاه التنظيمات الإرهابية التي تنشط في سوريا على أقل تقدير. وعلى افتراض ان المسألة مع العراق تختلف، الى حد ما، لأن الولايات المتحدة تدعم مبدئياً الحكومة العراقية الحالية رغم موقفها السلبي السابق من رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي، بينما هي تناصب العداء لدمشق لأسباب جيو سياسية واستراتيجية لا تبدأ بالمواقف المتناقضة من اسرائيل والقضية الفلسطينية، ولا تنتهي بتطورات الأزمة السورية، والمواقف الاقليمية والدولية المعلنة، وطبيعة الخطط المعتمدة في التعاطي معها.
وليس خافياً على أحد، في هذا السياق، أنّ مصدر التعقيد الأساسي في السلوك السياسي لواشنطن، تجاه دمشق، هو موقفها التاريخي من سوريا وبخاصة بعد اندلاع الأزمة الأخيرة قبل حوالى اربع سنوات، حيث أعلنت واشنطن مراراً وتكراراً ان النظام السوري فاقد لكل شرعية وان عليه ان يرحل. غير ان مساعي واشنطن الدبلوماسية والسياسية والعسكرية المباشرة أو بالوكالة، لم تنته الى النتائج المتوخاة منها، وفي مقدمتها إسقاط النظام. بل أكثر من ذلك فإن محاولات إيجاد بديل منه قابل للحياة في أوساط ما تسميه واشنطن المعارضة المعتدلة، قد باءت كلها بالفشل، كما تبين من خلال مصير مجلس الدوحة وائتلاف أنقرة والحكومة الموقتة وواقع الجماعات المسلحة المناهضة للنظام والتي تتقهقر أمام تقدم الجيش العربي السوري في مناطق استراتيجية، أو تبتلعها القوى الأكثر تطرفاً على شاكلة تنظيم داعش وجبهة النصرة في مناطق أخرى. وإذا أضيف إلى هذا العامل رسوخ التحالف الدولي والإقليمي المساند لسوريا (ايران وحزب الله وروسيا الاتحادية) رغم الدمار الهائل الذي أصاب البنية التحتية السورية جراء تعرضها لعدوان منهجي شامل، تبيّن حجم التعقيدات التي تواجه الادارة الأميركية في سياستها العملية في المنطقة، وبخاصة مع إدراكها ان تلك القوى المناهضة لسياستها في المنطقة لا تزداد مع مرور الوقت إلا قوة وتلاحماً مقابل الارتباك الواضح في سياسات واشنطن والدول التي تدور في فلكها تجاه سوريا.
مصدر التعقيد الأساسي في
السلوك السياسي لواشنطن هو موقفها التاريخي من دمشق



هناك من يركز على ان التصريحات الأميركية الأخيرة أصبحت تؤكد أن الحل في سوريا لن يكون الا سياسياً. الأمر تتم قراءته لدى البعض بأنه تحوّل مهم وأساسي في السياسة الأميركية.
والحقيقة، ان القول بأن الحل السياسي هو الوحيد الممكن ليس كافياً لتوصيف مواقف الأطراف المتصارعة في سوريا، وحولها. ذلك ان الخلاف الحقيقي هو حول مضمون الحل السياسي الذي اصبح عنوان ممارسة هذا الطرف او ذاك. ففي وقت تعتبر القوى المعادية لسوريا، على الصعيدين الإقليمي والدولي، ان الحل السياسي يكمن في سقوط النظام السياسي القائم والذي يرمز اليه بضرورة انسحاب الرئيس بشار الاسد من الساحة السياسية الى جانب مختلف رموز النظام السوري، الذين ليس لهم مكان في المعادلات التي يقوم عليها الحل السياسي للازمة، فإن الحل السياسي بالنسبة للدولة السورية هو نبذ العنف والإرهاب، كأسلوب لتغيير النظام السياسي واجتماع الرأي العام الوطني السوري حول محاربة قوى الإرهاب باعتبارها التهديد المباشر لكل أطراف المشهد السياسي الراغبة في بناء الدولة الحديثة بغض النظر عن المواقف السياسية الخاصة بهذا الطرف أو ذاك، ومن دون إقحام القضايا المذهبية والطائفية في الحياة السياسية وتحديد هوية النظام المعتمد في البلاد على قاعدة دستور يحدد المبادئ والقواعد التي تنتظم الدولة والمجتمع خارج كل تدخل أجنبي.
وهذا يعني ان الحل السياسي يكون بترك الأمور لنتائج الحوار الوطني السوري السوري، وان التدخل الوحيد المقبول، سورياً، هو ما يشجع هذا الحوار، وليس ما يحدد نتائجه، مسبقاً، وتبعاً لأجندات سياسية لا علاقة لها بالمصلحة الوطنية السورية، وانما هي مرتبطة باستراتيجيات معادية، تمت بلورتها في الخارج، القريب او البعيد، والتي لا تعير اي اهتمام لخصوصيات المجتمع السوري وسيادته الوطنية، بل تمعن في تجاهل الأولى، وتدمير واستباحة الثانية دون وجه حق. وبالتالي فإن القرار في مواقع القوى والشخصيات السياسية في تركيبة السلطة المنبثقة عن الحل السياسي يحددها الشعب السوري لا غيره وفق الآليات الديمقراطية المتعارف عليها في كل المجتمعات الحديثة.
وأمام هذا الواقع المعقد تجد البراغماتية الأميركية التقليدية نفسها أمام تعقيدات كثيرة، لعل أهمها، على الإطلاق، تكمن في الكيفية التي يمكن بها التوفيق بين الموقف الأميركي المسبق، والمعلن، من الدولة السورية الحالية، وبين واقع الحال الذي لا يكشف عن استحالة تطبيق هذا الموقف، على أرض الواقع فحسب، بل إنه يفرض على صانع القرار الأميركي تعليق هذا الموقف المسبق، ولو إلى حين. الأمر الذي يفرض عليه تعاوناً ما، ولو غير مباشر، مع النظام السياسي السوري باعتباره الرقم الصعب في المعادلات المرتبطة بالحرب على الإرهاب في المنطقة عموماً، وتنظيم داعش خصوصاً.
ويبدو ان الإدارة الأميركية تقوم، فعلاً، بهذا النوع من «التعاون» مع الدولة السورية، من خلال أمرين، لا يبدو أنهما منفصلان أحدهما عن الآخر: الأول، اتفاق، أو بالأصح، تفاهم «جنتلمان»، الذي يبدو انه أمر واقع، بين القيادة السياسية والعسكرية السورية، وبين الولايات المتحدة، قائدة ما سمي التحالف الدولي ضد داعش، ومفاده التعاطي السوري مع الطيران الحربي الاميركي الذي يدخل المجال الجوي لسوريا بشكل ايجابي وعدم التعرض له باعتباره قوة ضاربة للإرهاب، ولا يستهدف بأي شكل من الأشكال القوات السورية ومواقعها في أية منطقة من الأراضي السورية. وهو أمر يمكن اعتباره المقابل الضمني لهذا السلوك السوري المطلوب.
صحيح ان هذا المستوى من التفاهم، لم يرق الى اتفاق سياسي، بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ومن الصعب تصور حدوث مثل هذا التطور في الزمن المنظور، غير انه تفاهم حول «الامر الواقع» على شاكلة الموقف السوري من نشاط الطيران الحربي الاميركي في الأجواء السورية والذي عبر عنه وزير الخارجية السوري وليد المعلم، بطريقته، عندما أكد ان سوريا وجدت نفسها عند تشكيل «التحالف» أمام خيارين أساسيين هما: مواجهة قوى التحالف، وهذا غير متاح بالنظر إلى طبيعة موازين القوى السائدة، او الموافقة السياسية على التدخل الاميركي في سوريا وهو من قبيل المستحيلات بالنسبة لتوجهات سوريا وموقفها من السياسة الاميركية في المنطقة. وبالتالي، أصبح التعاطي مع التدخل الاميركي باعتباره أمراً واقعاً يفرض نفسه بحسابات البراغماتية السياسية خصوصاً ان محاربة تنظيم داعش والإرهاب هو هدف سوري قبل ان يكون هدفاً أميركياً. وفي كل الأحوال فإن الرئيس أوباما أقر بأن الادارة الأميركية طلبت من الحكومة السورية عدم اعتراض طائراتها الناشطة في الأجواء السورية في سياق تنفيذ غاراتها على تنظيم داعش ، وهو إقرار له دلالاته العملية في هذا المجال.
أما الأمر الثاني، فهو التنسيق القائم، بشكل قوي، بين الحكومتين العراقية والسورية في محاربة تنظيم داعش الإرهابي. وهو تنسيق لا يبدو ان واشنطن تنظر إليه بعين غير راضية، على اعتبار انه يندرج ضمن استراتيجية موحدة وان تكن غير معلنة بين مجموع القوى الاقليمية والدولية التي ترغب، حقاً، في محاربة الإرهاب، في كل من العراق وسوريا. والدليل على ذلك، من بين دلائل أخرى، تلكؤ تركيا ــ أردوغان ومحاولتها التهرب من أي استحقاق يضعها في مواجهة تنظيم داعش الذي استفاد سابقاً، وربما ما زال يستفيد، من أفضال تركيا السياسية واللوجستية كما تذهب الى ذلك بعض التقارير الدولية، ما شكل عامل خلاف جدي بين أنقرة وواشنطن في الوقت الحالي حتى ولو لم يرق الى مستوى التناقض التناحري بين تصوري واشنطن وأنقرة.
ان مجمل هذه العوامل المتناقضة فرضت على واشنطن نوعاً من التجاذب بين إرادتين: إحداهما العمل على إسقاط الدولة السورية باعتباره الهدف الاستراتيجي الحيوي في مواجهة التحالف الذي يقف وراء دمشق منذ اندلاع الأزمة، والثانية ارادة التركيز على القضاء على تنظيم داعش الإرهابي، المرتبط باحتمال استفادة القيادة السورية، المباشرة وغير المباشرة، في حال تم تحقيق هذا الإنجاز. وهو ما فرض على البراغماتية الأميركية التردد الذي يسمها في التعاطي مع الملف السوري بل ويمكن الحديث هنا عن ترنح حقيقي لتلك البراغماتية القابلة للسقوط في دمشق.
* كاتب مغربي