الانهيارات المتسارعة في صفوف المعارضة المسلّحة انعكست مباشرةً على الشكل المعتمد للصراع ضدّ النظام، فبدلاً من الاستمرار في استراتيجية الاعتماد على القوى التابعة للسعودية وتركيا وقطر وجدت هذه الدول أنّ من الأفضل لها إذا أرادت إبقاء زخم «المجابهة مع الروس» أن تنخرط مباشرةً في الميدان، وتخوض معركة الاستنزاف بنفسها. هذا سيوفّر عليها ضخّ الملايين من الدولارت على مجاميع اتضح أنها مجرد هياكل عسكرية لا أكثر، إضافة إلى أنّ الاتكال على قوات محلّية (من السعودية والإمارات مبدئياً) سيسهّل عليها عملية الرقابة المالية على المصروفات، ولا سيّما في هذه المرحلة التي تعاني فيها دول الخليج انهيار أسعار النفط وعجزا كبيرا في الموازنات المالية. كلّ ذلك سيحصل بالتنسيق الكامل مع الأميركيين، الذين كانوا السبب إضافة إلى العامل الميداني في هذا التهافت الخليجي على الالتحاق بالميدان، إذ يعاني التحالف الذي أنشأته الولايات المتحدة منذ فترة حالة «عجز قتالي»، وتبدو ضرباته الموجهة ضدّ «داعش» مقارنة بنظيرتها الروسية وكأنها حرثٌ في الماء، بينما تنهار الجبهات التي يدعمها بالاتفاق مع تركيا والسعودية واحدةً تلو الأخرى تحت ضغط التقدم الميداني للقوّات السورية وحلفائها. أمام هذا الانهيار يصبح تقييد الاندفاعة الروسية أمراً ملحاً، وخصوصاً إذا جرى إدراج هذا الأمر في سياق أوسع وربطه من حيث الشكل على الأقلّ بآليات عسكرية دولية مثل حلف «الناتو» وغيره.

مسرح الاشتباك

عندما يحصل هذا الربط تصبح الجبهة التي تجري عليها المواجهات -سياسياً- بين روسيا والغرب أوسع من حدود سوريا، وتتحوّل القوات الخليجية المراد إدخالها لقتال «داعش» في سوريا إلى جنود في استراتيجية الولايات المتحدة الخاصة «بتطويق روسيا» ومنعها من تحقيق أهدافها. هذا الأمر بدأ في دول الاتحاد السوفياتي السابق، ولكنه اكتسب زخماً جديداً مع التدخّل الروسي في سوريا، فغدت المواجهة على أكثر من جبهة وإن لم تكن في سوريا بالحدّة ذاتها التي هي عليها في أوكرانيا. فهناك تخضع الأمور لحسابات مختلفة وتتدخّل في صياغتها عوامل عديدة من بينها رغبة «الناتو» في توسيع نفوذه شرقاً إلى حدود روسيا مع أوكرانيا، بينما في سوريا يبقى النزاع «في إطاره المحلّي والإقليمي»، على اعتبار أن لا مصالح مباشرة للناتو فيها، وإذا كان ثمّة مصالح فليست من النوع الذي يستدعي تدخّلاً مباشراً في مواجهة الروس. على هذا الأساس بقي الصراع يُخاض بأدوات محلّية إلى حين ظهور «داعش» في المشهد وكسره للستاتيكو القائم بين النظام والمعارضة، حيث شعرت كلّ القوى الدولية في هذه اللحظة بأن ظهور التنظيم سيمسّ باتفاقها على تنظيم القتال، وسيعرّض مصالحها في المنطقة والإقليم للخطر. عند هذا المفصل بدأت التدخّلات الدولية المباشرة في المشهد، فكان التدخّل الأميركي تحت غطاء التحالف الدولي ضد «داعش»، الذي قادنا لاحقاً إلى باقي التدخلات وأبرزها التدخّل الروسي في أيلول من العام الماضي. والحال أنّ ما ما فعله الاثنان بذريعة القضاء على «داعش» هو تحويل سوريا إلى منطقة اشتباك دولي وربط كلّ القوى التي تقاتل فيها بحدود هذا الاشتباك، فأصبح من الصعب على هذه الأخيرة القيام بأيّ خطوة من دون التنسيق مع الطرف الدولي الذي تتبع له، ودخلنا بالتالي في مرحلة من التوازن الذي يصبح كسره مدخلاً إلى المزيد من التدخّل، وهو بالضبط ما يخطّط له الأميركيون حالياً بالتنسيق مع السعودية وبعض دول الخليج.

وهم استعادة التوازن

حين يشير الأمين العام لحلف الأطلسي يانس ستولتنبرغ في كلامه أثناء انعقاد مجلس وزراء دفاع الناتو الأخير إلى التوازن الاستراتيجي الذي اختلّ بعد تدخّل روسيا في سوريا يكون عملياً قد أعرب عن مخاوف الغرب من «وضوح الرؤية الروسية» في سوريا. من وجهة نظر هذا المعسكر لا يُعد التدخّل الروسي رداً على التدخّل الغربي في أوكرانيا فحسب، بل يُنظر إليه أيضاً بوصفه تكريساً لمنهج في العمل تضع روسيا من خلاله نقاطا حمراء على الأماكن التي لا يُسمح للولايات المتحدة وحلفائها بدخولها من دون التنسيق معها. لا توازن بالمعنى الذي قصده الأمين العام لحلف الناتو هنا وإنما تنسيق بين أطراف لا يمكن اعتبارها في هذه اللحظة متساوية في التأثير، كما لا يمكن الانطلاق مما تمثّله عسكرياً أو سياسياً لتحديد الوجهة التي سيتخذها الصراع في سوريا وعليها. فبعد حصول التدخّل الروسي انتهى التوازن عملياً بين النظام والمعارضة، وانحصرت مهمّة التحالف الأميركي الذي كان يريد «مجابهة داعش والنظام» معاً في إخراج التنظيم من المناطق ذات الأغلبية الكردية، وبالتالي تسهيل عمل المجموعات التي تنتمي لهذه البيئة وتُعد صلة الوصل الفعلية بين كلّ الأطراف التي تتدخّل بهذا الشكل أو ذاك. التوازن كما يقصده الأميركيون لم يتحقّق هنا وإنما حلّت مكانه صيغة أخرى تكفل التعايش بين القوى التي يدعمها الروس وتلك التي يدعمها التحالف، وهذه القوى هي التي ستكون موجودة بفعالية على مائدة التفاوض حين ينتهي كلّ طرف دولي من تحقيق الأهداف التي وضعها لتدخّله. من مصلحة الجميع بما في ذلك الأميركيون وحلفاؤهم في الخليج أن يأخذ «التوازن» في سوريا هذا الشكل، لأن معاودة الإخلال به عبر التدخّل البري (وهو بالضبط ما قصده أمين حلف الناتو بكلامه) سيكون على حسابهم وحساب القوى التي يدعمونها في سوريا، والتي أصبحت في حالة يرثى لها بعد كلّ الانهيارات التي أصابتها. من هنا فانّ التسوية قد تكون مدخلاً لاستعادة بعض ما فقدوه في الميدان، ومن مصلحة النظام وحلفائه تقديم ذلك لهم، على الأقلّ لكي يحافظوا على الفاعلية السياسية، التي تتطلب في لحظة الانتقال من الميدان إلى مائدة التفاوض تنازلات معينة لا تطيح المنجز الميداني، وتحفظ في الوقت ذاته شرعية الوجود السياسي لموسكو وحلفائها.

خاتمة

إذا حصلت التسوية بشكل أو بآخر فإنها ستعكس شكل التوازن الذي أفضى إليه الصراع، وهذا سيكون على حساب أطراف انهزمت ميدانياً ولم تعد تملك ما تقوله في السياسة. قد لا يكون ذلك منصفاً بالنسبة إلى ما تمثّله هذه الجهة، ولكن في الحقيقة هي التي اختارت أن تكون في صفّ من يخسر باستمرار أملاً باستعادة التوازن الذي اختلّ بدخول «داعش» على الخطّ وحلولها مكان النظام كمحور للتدخّلات العسكرية الأميركية والروسية. عدم فهم هذه المعادلة هو الذي أوصل المعارضة التابعة للسعودية وتركيا إلى هذه الدرجة من الهشاشة وانعدام الوزن، ولكن لديها الآن فرصة في المسار الذي أوجده توازن القوى الجديد على الأرض، وان لم تغتنمها بشكل جيّد وفضّلت المضي وراء أوهام التدخّل البري الخليجي فستفقد آخر إمكانية لاستعادة الفاعلية السياسية في مواجهة النظام وحلفائه. المتاح الآن بالنسبة إلى الجميع ليس فقط الاستفادة من لحظة التوازن بل أيضاً ربطها بدرجة استعداد القوى التي تتفاوض لتقديم تنازلات متبادلة، وبالتالي تجنيب السوريين مزيداً من المغامرات باسم استعادة التوازن العسكري، وتثبيت حضورهم السياسي عبر ممثليهم الفعليين سواء في النظام أو في المعارضة.
* كاتب سوري