لعل الخطاب الذي ألقاه وزير الدفاع الأميركي تشاك هاغل الأسبوع الماضي، معلناً اطلاق خطة استراتيجية جديدة لضمان التفوق العسكري الأميركي على مدى العقود القادمة، كان أهمّ تصريحٍ يدلي به الوزير منذ تعيينه في منصبه.المنطلق الأساسي للخطة الأميركية تعبّر عنه جملة قالها هاغل، بمعنى أن اميركا «لا تؤمن بزجّ جنودها في عراكٍ عادل»، فالميزة الكبرى للقوة الأميركية لم تقتصر على قدرتها على هزيمة أي خصمٍ محتمل في الحرب التقليدية، بل كانت في امكانية ضرب الأعداء والانتصار في الحروب من دون بذل تضحيات وخسائر تتناسب مع حجم المعركة.

«استراتيجية التعويض» كما يسميها الأميركيون، بمعنى الغاء عناصر قوة الأعداء، هي الثالثة من نوعها منذ الحرب العالمية الثانية. جرت الأولى في عهد أيزنهاور في الخمسينيات، حين بدأت القوة السوفياتية التقليدية بالتعاظم على المسرح الأوروبي، فأطلق أيزنهاور سباقاً للتسلح في ميدان التفوق الأميركي تحديداً: الأسلحة النووية؛ فضاعف قدراته الذرية الى حد بعيد، ما شكل ردعاً حقيقياً للقوة السوفياتية استمرّ حتى أواخر الستينيات - حين وصل الطرفان الى معادلة «التدمير المتبادل المضمون»، خاصة مع تطوير الصواريخ العابرة للقارات.
امّا الاستراتيجية الثانية فقد أُطلقت في السبعينيات، وأسست للتفوّق الأميركي القائم الى يومنا هذا. اعتمدت جهود وزارة الدفاع هذه المرة على استثمار التكنولوجيا الناشئة في المجال الرقمي والحواسيب، والأجهزة البصرية، والأقمار الصناعية، ودمجها ضمن المنظومة العسكرية لخلق فئة جديدة من الأسلحة الفائقة الدقة والفعالية كان الاتحاد السوفياتي متأخراً عنها بجيل تكنولوجي كامل.
يقول هاغل إن اميركا تحاول اليوم، بعد أن بدأ خصومها بتهديد تفوّقها، انجاز قفزة تكنولوجية مماثلة بالاعتماد على المجالات التقنية الجديدة، كتكنولوجيا النانو ووسائط التحكم عن بعد وأسلحة الطاقة الموجهة. الهدف من المجهود هذه المرة ليس روسيا، بل الصين بشكل رئيسي، وهي التي عناها وزير الدفاع حين قال إن الجيش الأميركي قد يجد نفسه اليوم في مواجهات مع أعداء قادرين على تكبيده كلفةً باهظة.
شكّك العديد من المحللين الأميركيين في قدرة الاستراتيجية الجديدة على تحقيق وعودها، مذكّرين بأن الصين تختلف عن الاتحاد السوفياتي، وأنها ليست متأخرة في الميادين التكنولوجية الجديدة، بل هي واكبتها منذ ظهورها، والاقتصاد الصيني صار موازياً لنظيره الأميركي، ولن يفلسه سباق تسلّح.
منذ وصول اوباما الى الحكم، وهو يحاول اثبات أن اميركا لا تزال القوة العظمى الوحيدة، وليست مجرّد «متقدم بين متساوين». الطريف هو انّه، اثر القمة الصينية ــ الاميركية الأخيرة، لفت اميركيون حضروا الجلسات الى أن المسؤولين الصينيين لا يعتبرون أن الهيمنة الأميركية في طور الانحدار وأن العالم يتجه لأن يصير متعدد القوى، بل يتكلّمون وكأن هذا قد صار واقعاً بالفعل.