تتوالى الفضائح على مخ اللبناني أسبوعاً بعد اسبوع. آخرة هذه الفضائح، وليس الأخيرة، كانت ما كشفه وزير الصحة العامة وائل أبو فاعور تحت عنوان العبث بـ«الأمن الغذائي» للبنانيين بأشكال ومواد وأساليب قذرة ومخيفة. تشير ردود الفعل السريعة من قبل بعض المتضررين والخصوم (الخصومة لا تستثني أمراً أو حقلاً أو أحداً) إلى أن هذه الفضيحة ستمر، كسواها، من دون أن تترك أثراً لا على مستوى اتخاذ الإجراءات العقابية الرادعة والضرورية، ولا على مستوى إقرار تشريعات وسياسات من شأنها وضع حد للتلاعب بصحة المواطنين من اجل حفنة من الدولارات: هكذا كان الأمر في السابق وهكذا سيكون الآن.
رد الفعل الشعبي، كالعادة محدود ومحصور ببعض التعلقيات في وسائل الإعلام، التي يستدرج عدد منها المواطنين للإدلاء بآرائهم، بما لا يتعدى مواكبة الحدث ومن دون أن يترك ذلك أي أثر جدي في مجريات القضية المطروحة: لا من حيث الأسباب ولا على صعيد النتائج. لكأنما اللبناني قد اعتاد توقع الأسوأ والتحسب لذلك (قدر الإمكان) بما ملكت أيمانه مما هو، على كل حال، محدود وبسيط ومتضائل باستمرار، وللمواطن اللبناني تجربة مريرة في هذا الصدد. وقد علمته التجارب ألا يتوقع سوى العجز والتواطؤ والديماغوجية والمماطلة من قبل السلطات العامة.
لكأنما اللبناني قد اعتاد توقع الأسوأ والتحسب لذلك
ولذلك فقد حزم أمره، طالما أنه عاجز عن المغادرة ومجبور على البقاء في بلده، على تقليع شوك وفضائح المسؤولين وسواها مما يطاوله بيديه. هو يدرك، ضمناً، أنه لا يستطيع الاعتماد سوى على نفسه باعتبار أن «حاميها حراميها» في ظل سيادة ذهنية، بل «ثقافة»، تمجدّ «الشطارة»، ولو بأقذر الأساليب، ومنها التهاون بشأن حتى مياه الصرف الصحي في بعض المؤسسات التي يعتمد عليها أكثر المواطنين في الحصول على مشترياتهم الغذائية (أين مسؤولية الدولة في تأمين المياه الصالحة وأساساً في الرقابة؟!).
إن ثقافة تيئيس المواطنين (بأكثريتهم الساحقة) من السلطة، والدولة عموماً تتكامل، بشكل خبيث مع محاصرة هؤلاء بأولويات لا قدرة لهم على التعاطي معها إلا من موقع الغريزة والعصبيات، أو من زاوية دفع السيئ لتفادي الأسوأ. وهكذا يجرى تأجيج الانقسامات المذهبية والطائفية لصرف المواطن عن إعمال عقله في تحديد سبب أزماته وأزمات وطنه، وفي سُبل إيجاد الحلول والمعالجات الناجعة لها، وفي المقدمة منها نقد أطراف السلطة والتشكل في مؤسسات وتنظيمات وتجمعات من شأنها، تباعاً وبالإصرار وسلامة الأهداف، أن تتحول إلى مصدر قوة مؤثرة في مصائر البلاد والعباد معاً.
في مجرى ذلك يتقدم الهم الأمني إلى الصدارة في الظروف العادية والاستثنائية. وتتعاظم، بمرور الزمن، أسباب الخوف، وعدم الثقة والحذر حيال الآخر بوصفه مصدر الخطر الذي لا يمكن اللجوء، من اجل دفعه، للدولة وللقانون والمؤسسات، بل للجماعات المتشكلة في دويلات تتنامى قدراتها وحقول تأثيرها على حساب الدولة، وبشكل مضطرد. تباعاً يصبح طلب الحماية من غير الجهة المولجة بتأمينها، أي الدولة ومؤسساتها السياسية والاجتماعية والأمنية، ممراً إجبارياً لتحول طالبي تلك الخدمة وسواها من مواطنين في دولة واحدة وقادرة إلى رعايا في دويلات متعددة ومنقسمة ومتصارعة.
ينطبق ذلك أيضاً على الشأن الاجتماعي والمعيشي والخدماتي والتربوي و... ويتكفل نظام المحاصصة هنا أيضاً، وبشكل وقح ومباشر، في مصادرة معظم ميزانية الدولة ومسؤولياتها لمصلحة الميليشيات السياسية والعسكرية، بما يوفر له السيطرة على مصائر المواطنين وصحتهم ولقمة عيشهم وسكنهم... وبما يعزز بالنتيجة، من التحاقهم بالمراكز السياسية المتحاصصة على حساب ارتباطهم بالعام، كمواطنين، بدولتهم وبمؤسساتهم الشرعية. يصرفهم ذلك موقتاً،على الأقل، عن طلب الحقوق وتنفيذ الواجبات. ينخرطون إذذاك، شاؤوا أم أبوا، في معادلة التمنين والاستعطاء وبذل الكرامة والولاء على اعتاب أصحاب النفوذ والسلطة والقرار.
في هذا السياق، يعيد المتحاصصون توظيف رصيدهم الداخلي في مواقع نفوذ خارجية إقليمية أو دولية، بما يشبه نظام «إعادة التأمين»، من قبل الشركات المحلية، لدى الشركات العالمية الكبيرة، كسباً للثقة وتعزيزاً لشروط التنافس والعقد لمصلحة التاجر والسمسار على حساب الزبون (المواطن) الضعيف الذي يبحث عن الحماية وبعض الضمانات، ولو بأغلى الأثمان المادية والمعنوية.
وسط كل ذلك يدور المواطن في حلقة مفرغة من الضياع وانعدام الوزن. يصبح متعذراً عليه أن يمتلك الحد الأدنى من القدرة على الاختيار أو اتخاذ القرار. أكثر من ذلك، إنه يقع فريسة سهلة لأولئك الذين يصورون له ان ما يحصل عليه «الكبار» من مكاسب ونفوذ واموال و... إنما يعود لمصلحة «الجماعة» كلها («جماعتنا»). وفي امتداد ذلك يجرى تجنيد «المفاتيح» من السماسرة والمرتزقة والمستفيدين، باسم الجماعة الطائفية والمذهبية، بعد تأمين بعض الفتات لهم، وسط تنافس ضار على مقدرات الدولة ومؤسساتها. يشجع ذلك، حكماً، الاستزلام وبذل الولاء وذهنية الانتفاع والانصراف عن الشأن العام إلى الشان الخاص... وهو يوفر لـ«الكبار» المتنفذين، في المقابل، قدرات وميزات «شعبية» ثابتة محصنة بالعصبيات والالتزام الأعمى والمصالح الانتهازية والصغيرة.
ويمتلك النافذون في خدمة هذه المعادلة، ما هو ضروري من وسائل التأثير من اجل تعزيز موقعهم هذا. ولا بأس، بل لا بد، أيضاً من اصطناع «قضايا كبيرة» وأخطار داهمة وأعداء متربصين لرص الصفوف وتقديم التضحيات والضحايا عندما «يدق» أحد بالحقوق والمقدسات!
وسائل الإعلام، الخاضع معظمها للمحاصصة «رسمياً»، تتكفل بذلك على اكمل وجه!
يفسر ذلك ما يستشعره تجار السياسة والقيم والمقدسات من عناصر القوة وعدم إقامة أي وزن للرأي العام طالما انه منقسم وموال ومعطل ومشوه المقاييس بشكل مرضي ووفق ما يريده هؤلاء. يفسر ذلك أيضاً كيف تغيب المحاسبة: الدولة وأجهزتها معطلة. الناشط منها وفيها يعمل لحساب «الكبار» من ممثلي الجماعات والدويلات. المواطن لا يقبل أن يتعرض أحد لـ«ممثليه» طالما أنهم يعبرون عن «كرامة» ومصالح الجماعة أوالطائفة أو المذهب أو العشيرة... إننا، بالنتيجة، أمام شبكة محكمة متكاملة، رغم التنافس وبعض التناقضات بين أطرافها في مجرى الصراع على ما تسعى لأن توفره لنفسها من امتيازات، وما تقطعه من واردات، وما تختلقه من اوهام وعصبيات، وما تقيمه أو يُفرض عليها من علاقات وارتباطات والتزامات...
لكن رغم كل ذلك وبسببه، ورغم التضليل والأوهام، فالأزمات أكبر والمخاطر أعظم، والمواطن تتفاقم معاناته من الخوف والعوز والخطر والضياع: «لا يمكن خداع كل الناس في كل المسائل وفي كل الأوقات»!
من أجل وقف مسلسل الفضائح يجب الذهاب إلى مصدرها الأساسي: الفضيحة الكبرى تكمن في نظام المحاصصة نفسه. يجب إيجاد «كعب أخيل» هذا النظام المافياوي من اجل دفع ضرره وخطره عن الوطن والمواطنين، ومن أجل دفع هؤلاء إلى التخلص منه والعبور نحو بناء دولة حصينة وموحدة وعادلة ومستقرة ومستقلة (ولو نسبياً!).
* كاتب وسياسي لبناني