في نص صدر عام 2011، قدم هينبوش عرضاً لموقع «الشرق الأوسط» في التراتبية الدولية، تحت عنوان «الإمبريالية والمقاومة»، مستخدماً في ذلك المقاربة البنيوية في ميدان العلاقات الدولية، بعد إضافة اقتباسات وعناصر من نظريات أخرى. وقد استخدم هذه المقاربة البنيوية «المحدثة» لتعيين موقع بلادنا، كأرض مستهدفة بالعدوان الخارجي الدائم، منذ التاسع عشر وحتى الآن.

تعريف التراتبية

بيّن هينبوش أن النظرية الواقعية التي ترى العالم والعلاقات الدولية كناية عن فوضى عارمة، لا تعكس واقع العالم الفعلي، بل إن هذا الأخير ينم عن وجود تراتبية داخل الفوضى تتمثّل بالتحديد في وجود بلدان مسيطرة تقود العالم كما سبقت الإشارة، مثّلتها بريطانيا من التاسع عشر إلى الحرب العالمية الثانية، ثم الولايات المتحدة مذ ذاك. تعتمد «البنيوية» مفهوم الإمبريالية ونظرية المركز والأطراف ونظرية التبعية، لفهم الطريقة التي تم بها استيعاب مناطق الاطراف ومنها المنطقة العربية ضمن منظومة التراتبية الدولية (هينبوش، 2011: 213). ويعود لها استخدام مفهوم التراتبية لإظهار حالة عدم التكافؤ الجوهري بين الدول على المستوى العالمي، التي تعود إلى عدم تكافؤهم في التحكم بالفائض الاقتصادي الذي يحقّقه العالم (هينبوش، 2011: 214). حالة عدم التكافؤ هذه تعود إلى الاختلاف الحاسم على صعيد اكتساب المقدرة التكنولوجية وتطوير القدرة الإنتاجية بين دول المركز ودول الأطراف. وقد نجم عن ذلك انعدام توازن فادح على الصعيد العسكري بينهما. أتاح انعدام التوازن هذا لدول المركز أن تسيطر على المجتمعات التقليدية وتنهبها. عيّنت «نظرية المنظومات العالمية» مع فالرشتاين دور الدولتين المسيطرتين اللتين كانتا تباعاً إنكلترا والولايات المتحدة، في استيعاب مناطق الأطراف ضمن المنظومة الرأسمالية، بالقوة العسكرية أولاً، وباستقطاب (cooptation) النخب المحلية. تم ذلك على أساس تقسيم دولي للعمل، احتكرت فيه دول المركز إنتاج السلع المصنّعة وفرضت على الأطراف التخصّص بإنتاج المواد الأولية التي تحتاجها. نجم عن ذلك تفاوت فادح في الثروة بين الطرفين.
رأى هينبوش أن ضعف المقاربة «البنيوية» جاء في السابق من أنها، مثلها في ذلك مثل النظرية الواقعية، جعلت الخارج العنصر الوحيد المحدّد لمصائر بلدان العالم النامي، وتجاهلت الدور الذي تلعبه القوى المحلية، أي النخب والدول المحلية وسياساتها في رسم صورة الواقع. اقتضى بالتالي إيلاء العنصر الآخر في التراتبية على المستوى العالمي، أي ارتباط نخب ودول العالم الثالث بعلاقة استزلام تجاه القوى العظمى (client state) والأدوار التي تلعبها هذه النخب (client elite) الأهمية التي تستحقها (المصدر نفسه: 215). احتاجت هذه النخب التي جعلها استتباعها من قبل القوى العظمى تفقد شرعيتها عند شعوبها، إلى الحماية التي توفرها لها دول المركز. أصبح بقاؤها في السلطة منوطاً بذلك. ولجأت الدولة المسيطرة إلى استخدام القوة على الدوام لحماية هذه النخب، وللتصدي للقوى التي تناوئها، ولمنع تشكّل قوى إقليمية تتحدى سيطرتها (المصدر نفسه: 216). تسارع إلحاق دول الغرب لمناطق العالم الأخرى بها خلال التاسع عشر، إن كمصادر للمواد الأولية أو كأسواق لتصريف منتجاتها، أو كدول تستوعب رأس مالها الفائض على شكل قروض. كان المشرق العربي ضحية عملية الاستتباع هذه. استعرض هينيوش الأدبيات التي تختصر تجربة هذا الأخير تحت عناوين ربطه بالغرب كاقتصاد تابع وتجزئته وتعريضه للعدوان الخارجي الدائم. وبرزت في عرضه للأدبيات أسماء لامعة كـ روجر أوين وشارل عيساوي وسمير أمين وعباس النصراوي وغيرهم.

ربط المشرق العربي بالغرب كاقتصاد تابع

فرضت إنكلترا والدول الأوروبية الأخرى على السلطنة العثمانية اتفاقيات تجارية فتحت بموجبها أسواق هذه الأخيرة أمام الواردات الغربية، وجنّدت منتجي المواد الأولية الزراعية فيها لخدمة أسواقها. ضرب تحرير التبادل المفروض قسراً إمكانية تشكّل سوق داخلية والشروع بعملية «تصنيع متأخّر» على مستوى السلطنة، لأنه ترك المنتجين تحت رحمة المستوردين، وحال دون دعم الدولة لهم، بالحماية الجمركية على الأقل. تبعت ذلك مرحلة استغلال السلطنة وأقاليمها بواسطة القروض التي وفرها لها الأوروبيون. كان فلاحو مصر هم من يسدّد القروض. وحين انتفضوا على ذلك الواقع، احتلّت إنكلترا بلادهم عام 1882. كانت نسبة 80 % من الضرائب التي تحصّلها السلطنة من بلاد الشام تذهب لخدمة الدين العام العثماني، التي كانت تبتلع نصف الموازنة السنوية للدولة (المصدر نفسه: 218).
ثبّتت الدول الأوروبية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى طابع المشرق العربي كاقتصاد زراعي تقليدي، يُنتِج مواد أولية للتصدير. وربطت أفراد النخب المحلية بها من خلال تثبيت ملكية الأرض لهم. وربطت لاحقاً نخب المناطق التي ستصبح منتجة للبترول بها بالطريقة ذاتها.

التجزئة

كان التطور الأكثر خطورة بعد الحرب العالمية الأولى، تجزئة المشرق العربي إلى دول عدّة ورسم حدود مصطنعة بين مناطقه. أدى ذلك إلى إلغاء إمكان نشوء سوق إقليمية، وربط كلّ دولة بمفردها بالأسواق الغربية. خلقت تجزئة المشرق العربي على يد الدول الاستعمارية دولاً صغيرة تستحوذ على منابع النفط وآباره، ودولاً كبيرة وفقيرة، ذات إمكانات وموارد بشرية تتيح لها بناء اقتصادات منتجة حديثة. سوف تتكفّل حالة التجزئة هذه بتبديد الثروات النفطية من خلال تصدير الرساميل المتولدة عنها إلى الغرب، وحرمان بلدان المنطقة التي تحتاجها منها. وهي خلقت حالة غبن وضعت على طرفي نقيض المستفيدين من التجزئة من أثرياء النفط، والدول التي حرمت من مداخيله. لا يتضّح مقدار سلبية التجزئة التي تمّت وطابعها التدميري إلا بالمقارنة. ذكر هينبوش كيف استطاعت الهند والصين أن تصونا أرثهما كإمبراطوريتين شاسعتين، وأن تمنعا تقسيمهما وتجزئتهما على النحو الذي حصل في المشرق العربي (المصدر نفسه: 221).

التدخّل العسكري المباشر

سوف يجعل وجود النفط وخلق دولة إسرائيل عام 1948 من المشرق العربي ساحة تدخّل دائم فيه من قبل الدولة المسيطرة، مدعومة في ذلك من قبل الدول الكبرى الغربية. أحصى هينبوش 11 تدخّلاً عسكرياً مباشراً في مناطق الشرق الأوسط المختلفة بين 1956 و1973، وأحصى 17 تدخلاً عسكرياً بين 1985 و1995 (المصدر نفسه: 222). واستعرض أشكال التدخّل الأميركي المختلفة ضد المشرق العربي. وهي اتخذت شكل الإتفاقيات المفروضة على الدول المستزلِمة لها، كـ «حلف بغداد»، وإثارة الخلافات وإشراع حرب باردة بين الأنظمة المحافظة التابعة لها وبين الجمهوريات الراديكالية التي حملت لواء الوحدة العربية والخروج من التراتبية المفروضة على المشرق العربي، بدءاً من 1952. كما اتخذت شكل إثارة الخلافات في المنطقة بين من هم عرب ومن هم غير عرب.
كانت ذروة التدخّل العسكري المباشر، الحرب ضد العراق عام 1990، التي أطاحت إمكان نشوء دولة إقليمية قوية (regional hegemon)، تُظهِر التجارب المختلفة أن وجودها هو شرط انتظام دول المنطقة في مشروع يُخرِجها من التخلّف والتبعية. اقترفت الولايات المتحدة بحربها على العراق عام 1990، الجريمة ذاتها التي اقترفتها إنكلترا قبل 150 عاماً، حين قادت حلفاً غربياً ضرب عام 1840 مشروع محمد علي باشا في تحويل مصر إلى دولة حديثة وقطب إقليمي (المصدر نفسه: 223). أنزلت إنجلترا جيوشها على الساحل اللبناني، وهزمت إبراهيم باشا في معركة بحر صاف، وجعلته ينكفئ إلى مصر، وفرضت على محمد علي باشا التخلي عن عمليتي التصنيع وبناء الجيش اللتين كان قد حققهما على مدى ثلاثين عاماً من ذلك التاريخ. وأجبرته على اختصار دور مصر إلى دولة منتجة للمواد الأولية الزراعية المخصّصة للتصدير إلى الغرب.
أحصى هينبوش 17 تدخّلاً عسكرياً مباشراً في الشرق الأوسط بين 1985 و1995

استطاعت الدولة المسيطرة بعد حرب 1990، أن تبسط أيضاً سيطرتها على منابع النفط في الخليج بشكل مباشر، كما في عز الحقبة الاستعمارية، وأن تُعيد الكيانات المصطنعة القائمة هناك إلى وضع محميات فعلية.
حفلت حقبة الحرب الباردة بأشكال من تدخّل الولايات المتحدة في المشرق العربي غير التدخّل العسكري المباشر. اعتمدت الولايات المتحدة العمليات السرية (covert actions) التي تعاطت بها مع العالم العربي بدءاً من خمسينيات القرن العشرين، واستراتيجيات الثورة-المضادة التي دفعت الأنظمة المستزلمة لها لاعتمادها، وخيار «التقسيم الإيديولوجي» لحماية الأنظمة والنخب التابعة لها.

حروب أميركا السرية

استخدم المؤرخ الأميركي دوغلاس ليتل وثائق الخارجية الأميركية التي اُفرِج عنها لاستعادة تجربة العمليات السرية التي قامت بها الاستخبارات المركزية الأميركية في أرجاء الشرق الأوسط والعالم العربي بدءاً من الانقلاب على مصدّق في إيران عام 1952. لم تكن السي آي إيه مجرد وكالة لجمع المعلومات، وإنما خاضت على مدى ستة عقود حتى نهاية الحرب الباردة وبعدها، حرباً سياسية غير معلنة (undeclared political warfare) في أرجاء الشرق الأوسط للتصدي للنفوذ السوفياتي والدفاع عمّا اعتُبِر مصالح لأميركا (ليتل، 2005: 664). تراوحت عملياتها السرية بين محاولات تغيير الأنظمة القائمة بواسطة الانقلابات العسكرية، أو بافتعال انتفاضات ضدها، وباللجوء إلى تخويف أو شراء الرؤساء المعارضين لسياساتها، واغتيالهم أحياناً. لا شك في أن الأنظمة العربية التي لم تكن مستزلمة عند أميركا، كانت تخاف منها وتتحسّب لمؤامراتها أكثر مما تخاف من شعوبها. يرجّح ليتل ضلوع السي آي إيه في اغتيال عدنان المالكي في سوريا. وقد جعلت محاولات الولايات المتحدة المتكرّرة خلال الخمسينيات إحداث تغيير في سوريا لمصلحتها، النخبة العسكرية تلجأ إلى عبد الناصر لتحقيق الوحدة (المصدر نفسه: 677). وكانت السي آي إيه على علم مسبق بكل الانقلابات ومحاولات الاغتيال التي تعرّض لها عبد الكريم قاسم في العراق. وهي قرّرت منعه من الانعطاف أكثر نحو المعسكر السوفياتي، وأرسلت له محارم يؤدي استخدامها للشلل (المصدر نفسه: 695). ووفّرت لفرق البعثيين في مناسبة الانقلاب الدامي على قاسم عام 1963، لوائح اسمية بالشيوعيين، مستغلة مناسبة الانقلاب لتصفيتهم (المصدر نفسه: 696). وحين توصلت إيران الشاه عام 1975 إلى اتفاق مع العراق، أوقفت السي آي إيه دعمها للبشميركة بعد أن كانت قد حرّضتهم على الثورة على الحكم في بغداد، بطلب من الشاه. وحين سألت لجنة من الكونغرس كيسنجر عن مصير 300 ألف كردي هربوا إلى العراء على الحدود الإيرانية بعد تحرّك الجيش العراقي، أجابهم بأن العمليات السرية أمر مختلف عن البعثات الإنسانية، وأنه لا ينبغي الخلط بين الاثنين (المصدر نفسه: 698). ولم تتوقف السي آي إيه لحظة بعد حرب الخليج عن محاولة إسقاط صدام حسين. وكلّفت محاولة الانقلاب الفاشلة التي كانت تعدها، توقيف 800 ضابط عام 1996، أُعدِم ثلاثون منهم. واستخدمت مجدداً الأكراد لتشكيل ائتلاف ضد صدام فشل هو الآخر، وأدى إلى اعتقال 150 من أعضائه، وتهريب 600 آخرين إلى المنفى في الولايات المتحدة (المصدر نفسه: 700).

الثورة المضادة للتصدي لموجة القومية العربية

استعاد بول تشامبرلن في دراسة شيقة واقع الإدارة الأميركية في ظل نيكسون وكيسنجر مطلع السبعينيات (تشامبرلن، 2008). رأت تلك الإدارة نفسها معنية بالتصدي لموجة الراديكالية، التي وجدت تعبيراً عنها بين الطلاب الجامعيين وفي الحركات الاجتماعية التي عمّت أنحاء العالم الثالث. ورأت «عقيدة نيكسون» وخطة هوستون» اللتين تمت بلورتهما أن استخدام الدين للتعبئة هو السلاح الأمضى في وجه الراديكالية على المستويين المحلي والدولي (المصدر نفسه: 453). وكان في تفكير نيكسون وكيسنجر المشترك، أنه لا ينبغي الفصل بين ما هو محلي وما هو دولي، وأن حركة التحرّر الفلسطينية مثلاً والطلاب اليساريين الأميركيين مظهران للتحدي نفسه الذي يواجهه النظام الدولي وتواجهه سلطة الدولة داخل الولايات المتحدة (المصدر نفسه: 456). ورأت الإدارة الأميركية أن الثورة-المضادة (counter-insurgency) هي الوسيلة لمواجهة التحدي الداخلي الذي تطرحه هذه الحركات الاجتماعية في كل دولة بمفردها، وذلك بالتزامن مع مواجهتها للتحدي الداخلي في بلادها بالذات (المصدر نفسه: 451). وقد جعل كيسنجر من «عقيدة نيكسون» مبدأً ناظماً للسياسة الخارجية لأميركا (المصدر نفسه: 450).
أظهرت قراءة تشامبرلن أن صعود الحركات الأصولية الدينية المحافِظة في الولايات المتحدة وفي مصر بدءاً من مطلع السبعينيات، جاء ردة فعل اعتمدتها الدولة ووفرت لها شروط نجاحها. وهي وجدت تعبيراً عنها في السياسة التي بدأها الرئيس السادات لجهة التحالف مع القوى المحافظة وفتح الباب لعودة «الإخوان المسلمين» من الخارج وتكوين مجموعات من الطلاب المنتمين إلى هذا التنظيم للتصدي بالسلاح للناصريين واليساريين داخل الجامعات (المصدر نفسه: 460). وقد استمرّت هذه السياسة وترسّخت على مدى عقد السبعينيات. وهي كانت مرادفاً للدور الذي أعطاه نيكسون للمسيحيين الإنجيليين، وللصعود اللاحق الذي حققه هؤلاء في الولايات المتحدة (المصدر نفسه: 466). رأى تشامبرلن أن «صدام الحضارات» الذي طغى في قراءة الواقع الدولي لحقبة ما بعد الحرب الباردة، لم يكن نتيجة أحقاد أملتها الاختلافات الثقافية العميقة بين الشرق والغرب، بقدر ما كان نتيجة لاستراتيجية الثورة-المضادة التي اعتمدت، ووفرت في بلدين كمصر والولايات المتحدة، نفوذاً كبيراً للقوى التي تستخدم الدين في السياسة (المصدر نفسه: 469).

أميركا وتجربة «التقسيم الإيديولوجي» في لبنان

تقاطعت مصلحة الولايات المتحدة في ضرب حركة التحرّر الفلسطينية مع مصلحة نخبة الستاتيكو في لبنان في الحفاظ على النظام القائم، لإشراع الحرب الأهلية عام 1975. استمرّت هذه الأخيرة 15 سنة من دون أن تجد أميركا نفسها محرجة بسبب ديمومة تلك الحرب من دون طائل أو تجد مبرّراً لديها لوقفها. كانت انتفاضة ضحاياها من اللبنانيين خلال 1988-1990 هي ما أجبر الفرقاء الخارجيين الذي افتعلوا الحرب قبل 15 سنة على وضع حد لها. كان المشترك بين تدخَلي الولايات المتحدة في حربي لبنان الأهليتين في 1958 و1975، هو عمل هذه القوة العظمى على حماية النخبة الموالية لها، لتستخدمها في ما بعد في تنفيذ أجنداتها الخاصة. عام 1958، تدخّلت أميركا بإنزال عسكري دام ستة أشهر، لمنع انتصار المعارضة، والإبقاء على النخب المستفيدة من النظام القائم على التقاسم الطائفي لمواقع السلطة. فهم الأميركيون منذ نهاية الأربعينيات أن الإبقاء على النظام القائم يحفظ النخبة المرتبطة بهم (غندزير، 1998). الأمر نفسه تكرّر في 1975. صانت الولايات المتحدة النخبة التي ستتولى تنفيذ الأجندات العائدة لها ولحلفائها.الأرجح أن النخبة المحلية لم تكن لتذهب إلى خيار الحرب الأهلية، لو لم توفر لها الأفكار المجرمة التي حملها كيسنجر والإدارات الأميركية المتعاقبة، مسوغات إيديولوجية من نوع الانحياز إلى أحد معسكري «الحرب الباردة» والتصدي لـ»اليسار الدولي». أشار المؤرخ كمال الصليبي إلى «أن الأكثر عقلانية بين الزعماء المسيحيين كان يمكن أن يقبلوا بإعادة صوغ «الميثاق الوطني» بحيث يتضمّن تنازلات في ما يخص الانتماء العربي للبنان، لكنهم كانوا يفضّلون «التقسيم» على إعادة صياغة له تتضمّن الأخذ بمطالب الراديكاليين»، أي «اليسار» (الصليبي، 1976: 145). وفي أول عدد لها صدر في باريس عام 1977، نشرت «النهار العربي والدولي» مقابلة مع رئيس حزب الكتائب، كان فحواها أن النصر المحقّق هو نصر ضد قوى «اليسار الدولي»، وهو نصر مُهدى إلى العرب أولاً (العمل الشهري، 1977: 9-22).
في كتابها الرائع الذي خصصته لحرب البوسنة والهرسك واتفاقية دايتون التي أنهت الحرب بالتقسيم، وضعت الباحثة رادا كومار تجربة التقسيم تلك، ضمن سياق طويل من تجارب التقسيم التي حصلت خلال القرن العشرين، وطاولت بلداناً كالهند وإيرلندا وقبرص وفلسطين (كومار، 1997). بيّنت أن تجارب التقسيم على مدى ذلك القرن، كانت وراءها على الدوام القوى العظمى، خصوصاً انكلترا، وخضعت لقاعدة «التقسيم قبل الانسحاب» (divide and quit)، بعد أن كانت تلك القوى قد حضّرت الأرض لـ «التقسيم الاثني» خلال فترة استعمارها لتلك البلدان، وفقاً لقاعدة «فرّق تسد» (divide and rule). برّرت القوى العظمى الذهاب إلى التقسيم بطريقتين مختلفتين، الأولى مستوحاة من مقاربة الرئيس الأميركي ويلسون تحت عنوان «حق تقرير المصير»، والثانية باعتبار أن التقسيم هو الحل الأقل ضرراً (a lesser evil)، لأنه ينجز بطريقة سلمية ما سوف يصل إليه المتنازعون، الذي يُفترض أنه لا يمكن التوفيق بينهم، بالحرب. أي لم تكن تجارب التقسيم التي حصلت مرّة نتيجة إرادة شعوب تلك البلدان في»تقرير المصير»، ولو أن القوى التي كانت وراءها تحجّجت بذلك. وهي كانت نتيجة إرادة القوى الاستعمارية في الإبقاء على مناطق نفوذ لها في تلك البلدان. وكما خضعت تجارب التقسيم خلال حقبة تصفية الاستعمار القديم لمصالح القوى الاستعمارية السابقة، فإن تجارب التقسيم خلال حقبة الحرب الباردة، خضعت لمنطق «التقسيم الإيديولوجي» (ideological partition)، الذي كانت وراءه الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة. وهو ما عكسته على وجه الخصوص، تجارب كوريا وفيتنام وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. وقد تم تقسيم هذه البلدان لأسباب إيديولوجية، في ما اعتبرته الولايات المتحدة تصدياً من قبل «العالم الحر» للتمدّد الشيوعي.
إلى هذه الفئة يمكن نسبة «التقسيم» التي تحقّق في لبنان عبر «حرب السنتين» (1975-1976)، والذي ضمنت الولايات المتحدة من خلاله بقاء النخبة المرتبطة بها. وهي حفظت نفوذها في لبنان من خلال تأمين استمرار نخبة الستاتيكو، ونظام الحكم القائم. عبّر كيسنجر عن ذلك الإنجاز بعد حرب السنتين في آخر لقاء له مع الرئيس فورد قبل الخروج من الحكم، في 4 تشرين الأول 1976، بالقول أن لبنان «كان نجاحاً كبيراً آخرَ» (رايت، 2013: 174).
أظهر الدكتور غالب أبو مصلح في تأريخه لـ»حرب الجبل» بعد 1982، آخذاً في الاعتبار المعلومات الاستخباراتية التي تضمنها كتابا ألآن مينارغ، أن هدف الولايات المتحدة آنذاك كان إرساء واقع سياسي يسمح لها بإنشاء قاعدة عسكرية عملاقة على ساحل لبنان، تكون «مقراً للقيادة الاستراتيجية الأميركية للمنطقة الممتدة من الخليج إلى لبنان» (أبو مصلح، 2014: 9). ولا ينسى اللبنانيون السفير الأميركي رافعاً سبابته أمام شاشات التلفزيون ومستهجناً تأخّر دخول الميليشيات عام 1990 في الصدام مع الجيش. كلفت تلك الحلقة الأخيرة من الحرب هجرة ما بين 200 إلى 300 ألف مسيحي وفقاً لتقديرات فالونيه (فالونيه: 1995: 369).
(المراجع منشورة على الموقع الالكتروني)
(هذا النص هو الجزء الثاني من مادة أمس،
الولايات المتحدة والمشرق العربي: بيان للاستنهاض القومي، على أن يتبعه لاحقاً الجزء الأخير)

المراجع:

Hinnebusch R., “Empire and after : toward a framework for comparing empires and their consequences in the post-imperial Middle East and Central Asia”, Journal of Historical Sociology, Vol. 27, n. 1, 2014, pp. 103-131.
Hinnebusch R., “Hegemonic Stability Reconsidered: Implications of the Iraq War”, in Rick Fawn, Raymond Hinnebusch (eds.), The Iraq war: causes and consequences , Boulder : Lynne Rienner Publishers, 2006b , pp. 283-322.
Hinnebusch R., “Identity in International relations: Constructivism versus Materialism and the Case of the Middle East”, Review of International Affairs, Vol. 3, n. 2, 2003, pp. 358-362.
Hinnebusch R., “The Iraq War and International Relations: Implications for Small States”, Cambridge Review of International Affairs, 19, 3, 2006a , pp. 451-463.
Hinnebusch R., “ The Middle East in the world hierarchy: imperialism and resistance”, in: Journal of International Relations and Development , vol 14, n. 2, 2011, pp. 213 - 246.

Gendzier Irene, Notes from the Minefield: United States Intervention in Lebanon and the Middle East, 1945-1958 , N.Y., Columbia univ. press, 1997.
Kumar Radha, Divide and Fall: Bosnia in the Annals of Partition, U. K., Verso, 1997.
Little Douglas, “Mission Impossible: The CIA and the Cult of Covert Action in the Middle East”, Diplomatic History , (2004) 28 (5), pp. 663-701.
Salibi Kamal, Crossroads to civil war: Lebanon, 1958-1976 , Delmar NY: Caravan Books, 1976, 178 pages.

Valognes Jean-Pierre, Vie et mort des chrétiens d’orient, éditions Fayard, 1995 .
Wight David M, “Kissinger’s Levantine Dilemma: The Ford Administration and the Syrian Occupation of Lebanon”, in Diplomatic History , Vol. 37, Jan., 2013, pp. 144-177.

غالب أبو مصلح، " الفشل الأميركي" ، فصل من كتاب سيصدر قريباً عن "حرب الجبل " ، 28 صفحة .

* أستاذ جامعي