تعيش مدينة القدس المحتلة، ومحيطها، توترات سياسية واجتماعية واقتصادية، نتيجة وجود المستعمر الغازي، وتطويره لأشكال جديدة من القمع والاعتقال تجاوزت ألف معتقل وموقوف منذ شهر تموز/ يوليو المنصرم... وزيادة في رسوم الضرائب والغرامات المالية التي لا تستهدف ما تقرره قوانينه العنصرية الظالمة على أصحاب المحالّ العربية، فقط، بل، وعلى الفتيان المتظاهرين المحتجين على استباحة ممتلكات عائلاتهم، وهدم بيوتهم خلال دقائق.
وقد شهدت الأشهر الأربعة الأخيرة تصعيداً خطيراً من جانب قطعان المستعمرين التي توفر الحماية لهم قوات الاحتلال العسكرية والشرطية في محاولاتهم لتدنيس المسجد الأقصى، التي بلغت خلال شهر تشرين الأول/ اكتوبر 42 اقتحاماً.

كرة النار المتدحرجة

جاءت حادثة اختطاف الفتى «محمد أبو خضير» وقتله بحرقه وهو حي، في الثالث من شهر تموز/ يوليو الفائت لتشعل النار في جنبات المدينة وقراها ومخيماتها. دارت في أحياء وساحات وشوارع المدينة المحتلة، صدامات واشتباكات مع جنود وعناصر الجيش والشرطة، استخدم خلالها الشبان الحجارة وزجاجات المولوتوف، مع إدخال الشهب (المفرقعات) النارية في مواجهة العربات والتجمعات المعادية. اللافت في الشهر الفائت كان حادثة الدهس لعدد من المستعمرين التي قام بها الشهيد عبد الرحمن الشلودي. حملت العملية رسالة بالغة الدلالة: إن عنف المحتل سيواجه بعنف وطني وثوري، خاصة، أن إجراءات العدو المحتل داخل المدينة بدأت تأخذ منحى خطيراً، مع تصدر قيادات سياسية ودينية، لتلك القطعان الهائجة في محاولتها دخول المسجد الأقصى ومحاولة طرد المصلين منه، والبدء بممارسة طقوسهم وخرافاتهم داخل ساحاته بشكل شبه يومي بقيادة أحد قادة حزب الليكود «يهودا غليك» الذي لم يكن خارج دائرة استهداف المقاومة الباسلة، التي قام أحد أبطالها «معتز حجازي» بإطلاق أربع رصاصات عليه، أدخلته في وضع حرج وخطر، ليسقط بعدها، معتز، شهيداً برصاص قوات الاحتلال.
المعركة وطنية بامتياز
رغم كل ما يحيط بها ويغلفها اجتماعياً واقتصادياً وروحياً

المواجهات في المدينة، تخبو أحياناً، ثم تعود لتتفجر من جديد على وقع توجهات حكومة القتلة ومناقشات أعضائها وتصرفات كبار المسؤولين فيها، وكتابات المعلقين والمحللين والإعلاميين التي تقطر كراهية وفاشية، والمترافقة جميعها مع ارتفاع حمى العطاءات لبناء المستعمرات وتوسيع القائم منها. فما بين التوجهات العنصرية التي تستحضر أسلوب الفصل العنصري «الأبارتهيد»، عدم صعود العمال العرب في الحافلات، الذي كانت تمارسه الأقلية المستعمرة لجنوب أفريقيا، وتقسيم المسجد الأقصى «مكاناً وزماناً» بين العرب المسلمين واليهود الصهاينة المحتلين، للصلاة فيه، كخطوة حاسمة لتقسيمه الفعلي، تقليداً وتنفيذاً، لما شهده الحرم الإبراهيم في مدينة الخليل المحتلة، تمتد معاناة مئات الآلاف من المقدسيين الذين يُحرَمون الإقامة في بيوتهم، وفتح محالّهم، وتأمين تعليم أبنائهم وتطوير البنى التحتية في مدينتهم، والذهاب لإقامة الصلاة في مسجدهم. لم يكن توفير الاحتياجات الإنسانية الأساسية هو الهدف الرئيسي من وراء التحركات الشعبية ـ رغم أهميته ـ بل كان طرد الاحتلال هو المطلوب، لأن كل تلك المشكلات جاءت مع المستعمر المحتل. لهذا، فالمعركة، وطنية بامتياز، رغم كل ما يحيط بها ويغلفها اجتماعياً واقتصادياً وروحياً.

العين تواجه المخرز

لم يكن يوم الأربعاء 5/ 11/ 2014 استثنائياً في حياة المقدسيين، لكنه حمل لهم جرعات جديدة من الألم والأمل. منذ الصباح الباكر توزعت قوى التجمع الاستعماري مهمات اقتحام المسجد الأقصى من بواباته. القطعان المدنية «لباساً»، والدينية «شكلاً» مما يسمى قيادة حركة المعبد وأمناء الهيكل، والعسكرية «جنوداً وعناصر شرطة» باشرت ضرب المصلين والمصليات بالهراوات والقنابل المسيلة للدموع والرصاص بوحشية رصدتها الكاميرات، وبالتخريب الواسع لكل ما تصادفه أياديهم داخل المبنى المسقوف. وقد دافع المقدسيون والمقدسيات عن مسجدهم، بقبضاتهم وإرادتهم الفولاذية، وخاضوا مواجهة غير متكافئة مع قوى مشحونة بالحقد والكراهية ومدججة بالسلاح. لكن ابن فلسطين البارّ، الشهيد إبراهيم عكاري، مارس حقه بالدفاع عن وطنه وشعبه، فدهس عشرات المستعمرين، مدنيين وعسكريين، في حي الشيخ جراح، ثم سقط شهيداً نتيجة إطلاق الرصاص عليه. وفي مساء ذات اليوم، أقدم أحد المواطنين على عملية دهس عدة جنود على حاجز احتلالي ما بين منطقتي الخليل وبيت لحم أدت إلى إصابة ثلاثة جنود بجراح، تمكن السائق على إثرها من الهرب بسيارته.
لم تكن العملية الفدائية الجديدة التي نفذها إبراهيم عكاري في مدينة القدس المحتلة، ردة فعل آنية، بمقدار ماجاءت ضمن مسارات الهبة الجماهيرية ـ المتعددة الأشكال ـ التي يقودها أبناء المدينة والمناطق المحيطة بها. كذلك فإنها تشير إلى نهج جديد بدأت تبتدعه قوى المقاومة المسلحة في تصديها للمستعمر في ظل ظروف القمع والملاحقة والاضطهاد. السيارة أو الجرافة أو الجرار الزراعي تحولت على أيدي أصحاب الأرض إلى أسلحة متوافرة ضمن اليد، لن تستطيع قوى الاحتلال وأدوات التنسيق الأمني بعد كل حملاتها، أن تصادرها، أو تسحق إرادة المقاومة وحملة فكرها وسلاحها المتوافر، كما يتباهى «رون بن يشاي» المعلق العسكري في مقالته في صحيفة «يديعوت أحرونوت» الصهيونية قبل عدة أيام (الجيش والشاباك بالتنسيق مع أجهزة الأمن الفلسطينية في السلطة، سحقوا تماماً البنية التحتية للإرهاب في يهودا والسامرة (الضفة الغربية المحتلة). وعملية تدمير البنية الإرهابية مستمرة من أن دون أن تتوقف لبرهة واحدة منذ عشر سنوات).

شمولية المواجهة ووحدة قوى المقاومة

الهبّة الشعبية المتفجرة التي تصنعها إرادة أبناء القدس المحتلة وبناتها، راهناً، تحتاج لخطة عمل يصوغها شباب التحركات الجماهيرية وشاباتها، الذين يعرفون أن انتصارهم يأتي من خلال برنامج كفاحي وطني يعتمد على رؤية ثورية للصراع، بعيدة تماماً عن مهزلة المفاوضات التي يعمل على إعادة إنتاجها بتنازلات جديدة وشكل جديد، وفد للسلطة يقدم خطته للراعي (الذئب) الأميركي في واشنطن. رؤية تؤطر في بنيتها قطاعات شعبية واسعة من خلال لجان أو مجالس شعبية، تقوم على إدامة الاشتباك مع المحتل، بدءاً من بوابات المدن الكبرى ومداخلها، نابلس وجنين ورام الله وبيت لحم والخليل، والقرى، وصولاً إلى ساحاتها وشوارعها، وليس انتهاءً بأراضيها الزراعية. وتعمل هذه اللجان أيضاً على تنظيم أمور المجتمع وتهيئته فكرياً وتنظيمياً للمواجهة المفتوحة مع المستعمر. إن الشعار الذي هتف به المتظاهرون الغاضبون في شوارع القدس المحتلة أثناء تشييع شهيد حركة الجهاد الإسلامي معتز حجازي «يا ضفة يلّا منشان ألله» يُكثِفُ ألماً يحمله أهل المدينة المنتفضة، تجاه تقاعس أبناء شعبهم عن تفجير غضبهم بوجه المستعمر في كل الضفة المحتلة. هذا التقاعس لا تبرره حملات الملاحقة والاستدعاءات الأمنية والاعتقال، أو سياسات تضليل «السلام الاقتصادي» وتكبيل «الرهن البنكي والقروض المسمومة». فالاحتلال وإفرازاته وسياساته يعاني منها الجميع، والأماكن المقدسة ليس حماتها أبناء وبنات القدس، فقط، بل كل الشعب والأمة. لم يكن الهتاف وليد اللحظة، بل كان يتردد بأكثر من مظاهرة إنطلقت دعماً للمقاومة المسلحة في غزة، ولحرية الأسرى على مدى الأشهر الماضية. ما يحتاجه الأهل في القدس ليس سلسلة بشرية، متضامنة (؟!) مع شعبها، تمتد بالشوارع، وليس استدعاء لسفير أو توجه لهيئة دولية، رغم أهمية كل ذلك، معنوياً. لكن ما تحتاجه الأرض المحتلة والشعب المحتل هو أكثر فعالية من ذلك بكثير. ربما سمع أولئك القادة في أكثر من مدينة وعاصمة وتنظيم، صرخات تلك المرأة المقدسية داخل المسجد الأقصى المستباح، أو كلمات «أنس» ابن الشهيد إبراهيم عكاري؟
بصرخاتهم وقبضاتهم وشهدائهم، يعملون على هدم جدران الاحتلال والعزل والتفرد... فهل من دعم يرتقي لجدارة الحياة؟
* كاتب فلسطيني