بالرغم من أن «داعش» قد احتل، هذا العام، صدارة مشهد الأزمة السورية، ما دفع كثيرين إلى الاعتقاد أن بقية قوى المعارضة قد خرجت من اللعبة أو أصبحت بلا تأثير في الوضع الميداني، إلا أن الواقع الميداني يشير إلى أنه لم يحصل تغيير كبير في الجبهات الرئيسية، في شمال غربي سورية وفي جنوبها وفي محيط العاصمة دمشق، حيث لا تزال القوى القديمة نفسها تحافظ على مواقعها، ولعلها لم تزدد سوى قوة في الفترة الماضية، بعد سلسلة من التحالفات والاندماجات فيما بينها.

وبعد أربع سنوات من عمر الأزمة السورية، لا تزال علاقات التحالف والخلاف بين القوى المختلفة في سورية محكومة بعاملي الإيديولوجية ومصادر التمويل أكثر من أي شيء آخر، مع تقدم العامل الثاني على الأول في بعض الأحيان. وبالرغم من أن القوى الآخرى «غير القاعدية» في سورية تغلب عليها سمتا السلفية والسلفية الوهابية، إلا أن جماعة «الإخوان المسلمين» السورية والمحسوبين عليها، قد تكون صاحبة النفوذ الأكبر بين تلك القوى، وإن لم تكن هذه الحقيقة واضحة تماماً أو معترفاً بها. ويعود ذلك بالدرجة الأولى إلى حرص الجماعة على البقاء في خلفية المشهد بعيداً من الأضواء مع حرصها على إنكار أية علاقة بأي من الجماعات المسلحة على الأرض السورية. وكثيراً ما تدخّل القادة الأعلى مرتبة في الجماعة لينفوا كلام القيادات الأدنى حول تشكيل تنظيمات مسلحة تابعة للجماعة، كما فعل مرة «زهير سالم» مع «ملهم الدروبي» وكما فعل «محمد رياض الشقفة» مع «زهير سالم» لاحقاً. إلا أن الجماعة تصر على الدفاع عن «مشروعية العمل المسلح». كان هذا انسجاماً مع سياسة الجماعة للظهور بمظهر اللاعب السياسي البراغماتي والابتعاد ممّا يجلب لها الإدانة ويذكر بإرث الثمانينيات الدامي.
جماعة «الإخوان»
أحد أكثر الأطراف نفوذاً في الصراع الدائر في سوريا

إلا أن سنوات الأزمة الطويلة كشفت أن للجماعة بالفعل صلات مع العديد من المجموعات السلفية المسلحة في سورية. ويمكن القول إنّ نفوذ جماعة الإخوان المسلمين قد تحقق من خلال عاملين رئيسيين: دور بعض منتسبيها القدامى، تحديداً نشطاء الطليعة المقاتلة (الجناح العسكري للجماعة) في إنشاء جماعات سلفية متطرفة ومن خلال التحكم ببعض الجماعات الأخرى عبر التحكم بمصادر التمويل والتسليح والرعاية الإعلامية. فمن بين منتسبي الجماعة السابقين، العائدين إلى النشاط على الساحة السورية تبرز أسماء بعض أهم رموز الحركة السلفية مثل «لؤي الزعبي»، «عبد المنعم مصطفى حليمة» (أبو بصير الطرطوسي)، «محمد بهايا» (أبو خالد السوري)، و«مصطفى عبد القادر ست مريم» (أبو مصعب السوري). وجميع هؤلاء كانوا في صفوف الطليعة المقاتلة في آخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات واعتقلوا لفترات متفاوتة، خلال مراحل مختلفة، في سجون الحكومة السورية. وبعد فشل تمرد الإخوان المسلمين ضد الحكومة، غادروا سورية وتنقلوا بين ساحات الجهاد العالمية، وعلى رأسها أفغانستان. والجدير بالذكر أن أيّاً من هؤلاء لم يعلن انسحابه من صفوف جماعة الإخوان المسلمين السورية في الماضي، ولم يصدر عنهم أي تصريح يدين الجماعة خلال الأزمة السورية الحالية.
وقد اشتهر هؤلاء ـ أبو مصعب السوري وأبو خالد السوري على وجه الخصوص ـ بأنهم عملوا بالقرب من قيادات «المجاهدين» في أفغانستان مثل «عبد الله عزام» و«أسامة بن لادن» و«أيمن الظواهري». وخلال الأزمة السورية، قاموا بإنشاء أو قيادة عدد من أبرز التنظيمات السلفية. فقد أنشأ لؤي الزعبي حركة «المؤمنون يشاركون» السلفية، والتي وإن كانت تطرح نفسها كحركة سياسية إلا أن قائدها لؤي الزعبي أكد مطلع عام 2013 أن حركته تسيطر بالفعل على عدد من الجماعات المسلحة الفاعلة في الميدان وطالب بإحداث «المكتب الميداني» للتنسيق بين الفصائل العاملة على الأراضي السورية. إلا أن لؤي الزعبي قد اشتهر أكثر بدوره في تقديم الفتاوي التي تحض على التظاهر ضد الحكومة السورية وعلى دعم المنشقين عن الجيش العربي السوري. إلا أن دور الزعبي كمفتٍ لا ينافس دور زميله السابق أبو بصير الطرطوسي، الذي يجمع كثيرون على تلقيبه بـ «مفتي الثورة السورية»، والذي لم يقتصر دوره على تقديم فتاوى فقهية بل امتد لتقديم تعليمات تنظيمية، تستفيد من تجارب الطليعة المقاتلة في سورية في الثمانينيات ومن تجارب الجهاديين العرب. فقد نشط أبو بصير في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وهو يعتبر «الأب الروحي للتنسيقيات». كما أنه اطلق بعضاً من أشهر الحملات من قبيل المطالبة بوقف العملية الدراسية، فأطلق المقولة الشهيرة «لا دراسة ولا تدريس حتى يرحل الرئيس»، وطالب السوريين بالامتناع عن دفع فواتير الخدمات للحكومة السورية، لتشكيل عامل ضغط اقتصادي. كما أن أبو بصير افتى ودافع عن ضرورة العمل المسلح ضد الحكومة السورية.
أما العمليات المسلحة الأكثر خطورة فنجد أمثلة عنها لدى أبو خالد السوري الذي يوصف بأنه رفيق درب بن لادن والظواهري وهو القيادي الأشهر في صفوف حركة «أحرار الشام الإسلامية» السلفية والمسؤول عن جبهة حلب في الحركة. أهمية أبو خالد السوري تكمن في علاقاته مع القاعدة، والمنظمات التي خرجت من رحمها، والحركات السلفية الأخرى. فقد لعب أبو خالد دوراً مهماً في المفاوضات التي قادت إلى ولادة «الجبهة الإسلامية»، وهي التجمع الأكبر للقوى الإسلامية السلفية على الأراضي السورية. كما أن أبو خالد لعب دوراً مهماً في محاولة الوساطة بين «داعش» و«جبهة النصرة»، وذلك تنفيذاً لتوصية أيمن الظواهري الذي سماه مندوباً عنه في رسالته في أيار 2013 لحل الأزمة بين فرعي القاعدة في سورية: «داعش» و«جبهة النصرة». ما كان أبو خالد ليكلف بهذه المهمة لولا تاريخه المهم مع القاعدة، هذا التاريخ كان يشكل خطراً على سمعة حركة «أحرار الشام» التي فضلت ألّا تكشف أن أبو خالد يقاتل في صفوفها أساساً ناهيك عن كونه أمير فرعها في حلب. ففي فترة نشاط أبو خالد السوري، في الشمال السوري، تجنب كشف هويته واتخذ لقبي «أبو عمير» و«بهايا». ولم تكشف «أحرار الشام» أن أبو خالد هو نفسه أميرها أبو عمير إلا بعد اغتياله على يد انتحاري تابع لـ«داعش». أما أبو مصعب السوري، «مهندس الجهاد العالمي» كما يلقب في الغرب، فهو لغز أكثر غموضاً من أبو خالد. فحتى الآن لا يوجد دليل أكيد على وجوده على الأراضي السورية، سواء في السجون أو في صفوف الجماعات المقاتلة هناك، وإن كانت التقارير الاستخبارية الغربية تجزم بأن أبو مصعب قد خرج من السجون السورية وأنه يعمل بالفعل في صفوف المقاتلين هناك. لعلنا لن نعرف حجم دوره اليوم إلا بعد أن يلقى مصير زميله أبو خالد نفسه.
قد يستغرب القارئ خروج هذا العدد من القياديين السلفيين البارزين من رحم الطليعة المقاتلة، التابعة لجماعة الإخوان المسلمين، وقد يميل البعض إلى اعتبارهم مجرد «طفرات» أو «حالات شاذة لا تمثل التنظيم». ولكن قد يزول هذا الاستغراب، ومعه ذلك الاعتقاد، إذا ما عرف القارئ أن الجناح السوري لجماعة الإخوان المسلمين قد غلب عليه، منذ عقود، التأثر بالسلفية الوهابية، والسلفية الجهادية، على عكس الفروع الأخرى لتنظيم الإخوان. إذ تظهر حميمية العلاقة مع الوهابية في أن اثنين من أبرز قادة الجماعة، «حسين الهويدي» و«عبد الفتاح أبو غدة» اللذان عاشا في المملكة السعودية، كما أن العديد من القادة الحاليين لا يزالون يتنقلون بين المملكة ودول العالم الأخرى. كذلك إن تنظيم الإخوان في سورية حظي منذ الأيام الأولى لنشأته أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، بعلاقات ممتازة مع التيار السلفي في سورية ممثلاً بالأب الروحي لهذا التيار، الشيخ «محمد ناصرالدين الألباني»، الذي كانت له لاحقاً علاقة وثيقة بالتيار السلفي ضمن الجناح الدمشقي لجماعة الإخوان، ممثلاً بمصطفى السباعي ومحمد المبارك وعصام العطار. وهو اختلف مع التيار الأشعري الصوفي للجماعة، ممثلاً بعبد الفتاح أبو غدة وسعيد حوى. وقد برز أيضاً ضمن التيار الإخواني السلفي، «مروان حديد» الذي قاد تنظيم الطليعة المقاتلة والذي يعتبر بداية بروز السلفية الجهادية في سورية، وقد خرج من رحم هذا بعض أبرز منظري التيار السلفي الجهادي، مثل المذكورين أعلاه: أبو خالد السوري وأبو مصعب السوري، واللذين يمثلان الجيل الثاني للقاعدة. أما عن صلة الجناح الإخواني السلفي، من ناحية التأثير الفكري والتنظير، ببقية المنظمات الجهادية العالمية عموماً وبالجيل الأول للقاعدة خصوصاً، فقد لعب محمد المبارك أحد أبرز أتباع الشيخ الألباني دوراً مهماً في بعض التحولات التي مرت بها السلفية الوهابية المعاصرة في الخليج العربي. ويقال أن كتابات الشيخ الألباني ومحمد المبارك كان لها التأثير الأكبر في «جهيمان العتيبي» والذي يعتبر الدارسون أن حركته كانت الولادة الأولى للسلفية الجهادية السعودية وأحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى هجرة السعوديين للجهاد في أفغانستان وولادة القاعدة، لاحقاً.
إضافة إلى هذه الأسماء القيادية البارزة، ظهر على الساحة السورية أيضاً العديد من التشكيلات المسلحة المحسوبة على جماعة الإخوان المسلمين، من دون أن يكون هناك أي اعتراف صريح بمثل هذه العلاقة، سواء من قبل جماعة الإخوان أو من قبل تلك التشكيلات. واستمر إنكار العلاقة حتى في بعض الحالات الفجة، مثل حالة التنظيم العسكري المعروف باسم «هيئة دروع الثورة» والذي حضر إعلان تأسيسه في 21 كانون الأول 2012، كل من العقيد رياض الأسد ومحمد رياض الشقفة مرشد جماعة الإخوان، ومع ذلك أنكر الجميع أن الهيئة لها أية صلة بجماعة الإخوان. وقبل «هيئة دروع الثورة»، شارك الإخوان في تأسيس «لواء التوحيد» الشهير في حلب، في 18 تموز 2012، والذي شغل فيه عبد العزيز سلامة ممثل جماعة الإخوان في شمال سورية منصب القائد العام للواء، في حين ترأس اللواء عبد القادر الصالح الشهير باسم «حجي مارع». وقبل تأسيس هذه التشكيلات الكبيرة حرصت جماعة الإخوان المسلمين على الوجود في الميدان والتواصل مع الجماعات الصغيرة الناشئة للسيطرة عليها. وقد نجحت الجماعة في ذلك عن طريقة تأسيس واجهتين إغاثيتين مدنيتين نشطتا منذ الأشهر الأولى للأزمة. الواجهة الأولى هي «الهيئة العامة لحماية المدنيين»، والتي يديرها دكتور هيثم رحمة، مساعد الأمين العام المساعد لرابطة العلماء السوريين، والتي تولت توفير التمويل والإمدادات لكثير من الجماعات المقاتلة على الأراضي السورية لتكون بذلك أول أذرع التمويل الخاصة بجماعة الإخوان في سورية. وقد شاركت الهيئة في عدد من العمليات العسكرية الشهيرة في الشمال السوري مثل عمليات الاستيلاء على مدرسة الشرطة وخان العسل والفوج 46 والراشدين. أما الواجهة الثانية فهي «مجموعة العمل الوطني من أجل سورية» بإدارة أحمد رمضان. وقد تكون هذه الواجهة الثانية أقل الأذرع الإخوانية التي تلطخت، بشكل مكشوف، بعلاقات بالجماعات المسلحة في سورية، إذ إن الصلة الوحيدة العلنية لهذه المجموعة بهذه الجماعات تمثلت في رعاية أحمد رمضان لمشروع ما عرف بائتلاف «جبهة ثوار سورية» الذي ضم أحرار الشام وبعض الفصائل الأخرى الصغيرة.

الخاتمة

لا تزال جماعة الإخوان المسلمين السورية، برصيدها من الفكر السلفي الجهادي والمفكرين السلفيين، وبما تملكه من علاقات مميزة مع السعودية وقطر وتركيا وما تملكه من مصادر تمويل وتسليح وأذرع مختلفة تدير العلاقات مع الجماعات المسلحة على الأرض، أحد أكثر الأطراف نفوذاً في الصراع الدائر على الأرض السورية. وإن ما تمارسه الجماعة من تكتّم واختباء خلف بعض الواجهات، من منظمات وأفراد، ليس سوى سياسة براغماتية متعمدة استفادت منها الحركة في تعزيز مواقع نفوذها مستفيدة من حب الظهور عند الآخرين. وسياسة التكتم التي تمارسها الجماعة تجعل من الصعب معرفة الحجم الحقيقي لوجودها ونفوذها على الأراضي السورية، خصوصاً أن بعض القيادات البارزة التي خرجت من رحمها، مثل أبو مصعب السوري، لا يزال مصيرها اليوم مجهولاً، وبالتالي يبقى جزء مهم من قطع الأحجية مفقوداً: أحجية العلاقة بين الإخوان المسلمين والقاعدة.
* كاتب سوري