ضدّ القومية، لم تُعنَ الثقافتان الماركسية والليبيرالية بالموت والخلود.في كتابه الجماعات المُتخيلة يتوقف بندكت أندرسن عند المغزى الثقافي للنصب التذكارية؛ إنه لمن الصعب تخيل ضريح الماركسي – أو الليبيرالي - المجهول. يعتبر أندرسن أن ثمة ألفة مترابطة بين طرفي الفكر الديني والقومي. يشترك الاثنان في افتراض وجود جماعة مُتخيلة، ويتفقان على فهمهما الخاص للزمن؛ ثمة وحدة متطابقة بين التصور الكوني للزمن والتاريخ بحسبهما، لكنهما يختلفان في رسم حدود الجماعة، وتخيل أدوات سيادتها.

لم تقرأ الماركسيةُ القومية بمعزل عن كونها مرضاً من أمراض التطور التاريخي، وبالمثل لم تقرأ القوميةُ الماركسية بمعزل عن كونها ثقافة فاقدة للمعنى. كان الجدل النظري حاداً رغم امتزاج الفكرين في غير موضع ومسألة. في الحقيقة، لم تُبتنَ الشيوعية ولا القومية في بيئة خالية من جماعة متخيلة. لقد ظل الاتحاد السوفياتي يستصدر قرارات الأممية من قلعة القياصرة «الكريملن» ومن عاصمة القيصرية «موسكو»، حتى في أكثر أزمنة تطرفه الماركسي. في الصين أيضاً، وحتى بعد ثورة ماو، ظل القادة الشيوعيون يجتمعون في مانشو، مدينة أبناء السماء المحرّمة. العالم العربي بدوره كان حاضناً لأنماط أخرى من الإيديولوجيات المتخيلة. أواخر السبعينيات كان يمين البعث سنياً ويساره علوياً، القومية بدت أقرب لثقافة المنشأ «الأرثوذوكسية»، فيما الشيوعية – وتحديداً في مشرقنا العربي - لم تكن لتستوطن بغير ضواحي المدن، حيث الثقافة الشيعية. من بيروت لبغداد، يستنه محمد جابر الأنصاري تلازم البيئتين الشيعية والشيوعية؛ لماذا لم تستحضر بيئة الشيعة أياً من أشكال القومية بدلاً من الشيوعية؟
مع انحسار الإيديولوجيا في النصف الثاني من السبعينيات، عاد سؤال الهوية مداهماً الجماعات المتخيلة. كان الشيعة تحديداً عند مفترق من الرؤى. مثّل الإمام السيد موسى الصدر اتجاهاً بدا أقرب «للشيعية السياسية». برأيه، كان على الشيعة حماية وجودهم كجماعة من خلال عناوين ثلاثة: إعادة استجماع الطاقة الجهادية المشتتة، وفتح المجال السياسي بتشكيل مشروع وطني جامع عنوانه الحرمان، ومقصده تدعيم حضور الجماعة وطنياً، والابتعاد من العناوين الخاصة في الخطاب العام، كيما تُستفر الهويات الأخرى. لم يلتق الإمام الصدر وتيارات واتجاهات إسلامية أخرى. رفض حزب الدعوة كمثال تشخيص واقع الشيعة كجماعة سياسية، هو لم يكن ليرى في التشيع مائزاً «هوياتياً». إن حماية الواقع الشيعي يتحقق أولاً من خلال العمل المقاصدي للدعوة، وامضاءً لأهداف الرسالة النبوية. عبّر عن الدعوة، بشخص مثقفه السيد محمد باقر الصدر بشقين: الدعوة في المجتمع سعياً إلى الهداية، والتمكين في السياسة طلباً للحكومة.
لم تتوالد المسألة الطائفية
من حواف المؤسسة الدينية أو أي من حواضرها

«إن الحكومة الإسلامية هي الهدف الأصلي لنشاط المسلمين الفكري وتحركهم الجهادي»، يقول الشهيد الصدر. بهذا المعنى لا يمكن اغفال دور الشهيد في دفع الحوزة للتطلع للحكومة كضرورة عقلية في زمن الغيبة. وبهذا المعنى أيضاً لا يمكن إغفال دور الشهيد الصدر وحزب الدعوة في بلورة رؤية الحركة الإسلامية بعيداً من السلطة. في لبنان كان آية الله السيد محمد حسين فضل الله يؤسس رؤية حركية مستأنفة. لم يكن آية الله مرحّباً بانشاء المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، ولم يجد في تمكين الشيعة من السلطة في لبنان أولوية شرعية ورسالية. وحده قتال اسرائيل وعداؤها سيحفظ للشيعة ونهج التشيع رسالته وتوهّجه.
مع انطلاقة حزب الله، بدا الحزب أقرب لمنطق الدعوة منه لتصورات الإمام الصدر. هو اعتبر نفسه جزءاً من الصحوة الإسلامية وانشغالاتها. متأثراً بالتجربة الإيرانية التي أولت السياسة على ما سواها، أعلى حزب الله من شأن السياسة في نهجه ومسيرته. كان العداء للاستكبار الأميركي والصهيوني في أولى سلم الأولويات التي افترضها. يفسر هذا العداء تاريخاً من سياساته ومسلكياته. لم ينتهج الحزب خط الإمام موسى الصدر في علاقته والنظام السوري. لم تكن علاقة حزب الله بالنظام في سوريا على أحسن حال لحظة انطلاقته، وبالمثل لم تكن علاقته بمنظمة التحرير وقيادتها أحادية الوجهة والمستوى. شكّل «أوسلو» منعطفاً في علاقته وموقفه من الطرفين. بعد توقيع أوسلو باتت المقاومة خيار سوريا الموضوعي، مثلما بات السلام خيار المنظمة وقيادتها. اقترب الحزب شيئاً فشيئاً من سوريا وابتعد بالمثل من سياسات المنظمة. حتى نهاية الألفية الثانية لم يهتم حزب الله – أكبر حركة إسلامية شيعية في المنطقة - بوضع أي من أولويات وجود الشيعة كجماعة في حساباته ووجدانه البتة.
شكل غزو العراق مفصلاً آخر من مفاصل ولادة المسألة الشيعية. بعد عام 2003، بدا أن ثمة جملة من العوامل الخارجية والداخلية التي أسهمت في إزكاء المسألة الطائفية. مع تولي بول بريمر إدارة المرحلة الانتقالية، أرادت القيادة الأميركية تأمين الحد الأدنى من استقرار العملية السياسية والأمنية. كانت أميركا تتطلع لتقديم العراق نموذجاً لشعوب الدول المارقة. لم ينفك دونالد رامسفيلد يومها، في اجتماعات قيادة أركان الجيوش الأميركية، من تكرار مقولة أن «إسقاط بغداد سيحمل إلينا طهران ودمشق وطرابلس الغرب دونما قطرة دم واحدة». لقد وجدت أميركا في استقرار العراق خطوة لازمة تمهد للاجهاز على خصومها، خلافاً لحلفائها الذي استشعروا عمق الهزة التي ستصل أرضهم لا محال. حاولت السعودية، ومن اللحظة الأولى، ضرب استقرار العراق دفعاً لتغيير قد يصل عبر حدودها. هي كانت تخشى «الدمقرطة» خشيتها صعود حركة إسلامية ثورية سدة السلطة. تقاطعت المصالح السعودية يومها وتوجه روسيا، المتطلعة بدورها لاستنزاف الولايات المتحدة ومنع السوق العراقية من دخول نظام السوق العالمية. بعد سقوط بغداد دخل المقاتلون من كل حدب وصوب أرض العراق من بوابة سوريا. تقاطعت المصالح في غير اتجاه يومها، أرادت إيران مقاومة واضحة السياسة والنهج، وعملية سياسية تنهي الحضور الأميركي وتملأ فراغ المرحلة المقبلة، مختلفة عن سوريا التي بدت ملتزمة تطلعات روسيا. فيما فتحت المملكة السعودية عنابر المال والإعلام لخلق واقع ووعي جديد، كانت المسألة السنية - في قبال المسألة الشيعية - موئلها في وأد أي تحول يتهددها. حاصرت المملكة التغيير من خلال خلقها وتضخيمها مظلومية أهل السنة.
للمسألة الطائفية في العراق عوامل داخلية أخرى أسهمت بدورها في انجاح سياسات السعودية. مخطئ من يستقرأ مآل العراق بعيداً من صيرورات الثقافة المجتمعية العراقية الخاصة. مطلع الخمسينيات، كان علي الوردي قد تنبّه لما هو أبعد من شقاق المثال والواقع في شخص العراقي. رأى الوردي أن ثمة قبَليّة دُفعت إلى الواجهة وتجذرت منذ أواخر فترة السلطنة العثمانية. مع العثمانيين برأيه، أعادت المدينة العراقية تعريف ذاتها على أسس من العشائرية المركبة، لقد باتت المدينة العراقية تطلب الثأر وتنتخب شيوخاً لها. ليست المسألة العشائرية، بهذا المعنى، طوية من طوايا التاريخ، ولم يكن من الصدفة البتة إعادة الحكومة العراقية مسمى العشيرة – لا الطائفة - في الأحوال الشخصية، كأولى القرارات بعد الاحتلال. تشكل المرجعية العشائرية مدخل الجماعة الأولية للفرد في العراق، ينتظم انتماء الفرد السياسي والثقافي من خلالها. في الحقيقة لم تتوالد المسألة الطائفية من حواف المؤسسة الدينية أو أي من حواضرها. لقد فقدت المؤسسة الدينية في العراق فاعليتها منذ ما يقارب العقدين بشكل شبه كلي. لم تعد الحوزة في موقع القيادة للمجتمع، وتكاد تجهد للحاق ركب مجتمعها اليوم من موقع المتأثر لا المؤثر والمستلحق لا الفاعل.
سينتظر شيعة العراق على ما يبدو ردحاً من الزمن كيما تتضح رؤية المؤسسة الدينية لواقعهم، وكيما تتضح رؤيتهم - هم أنفسهم - لموقعهم ومحيطهم. وحتى آنذاك، سيظل المستقبل مرجأ وناءٍ عن المساءلة والجدة. لم تستهد «الشيعية السياسية» في العراق لضالتها الثقافية بعد، وبالرغم من تمظهرها في غير موضع، هي لا تزال مفتقرة اليوم لأدوات وعيها والسلطة المؤسسة لها. شبيه هو العراق بلوحة الملاك الجديد لبول كلي، اللوحة التي خطها عام 1920 فيها الزمن بهيئة ملاك التاريخ المعرض عن واقعه، وهو يتلفت إلى الماضي، الحوادث تكوم الأنقاض وتلقيها عند قدميه، وهو يودّ لو يبقى ويحيي الموتى، لكن عاصفة الفردوس تأبى إلا أن تدفعه للمستقبل.

من عقائديات الثقافية إلى اجتماعية الثقافة

تعتبر الثقافة إحدى أبرز المؤسسات السلطوية للجماعات المتخيّلة. تعبّر أدواتها عن طبيعة الفضاء المنتج لوعي هذه الجماعات. مع تبدّل الأدوات تعيد الجماعات بناء رؤى ذاتها ومحيطها. كمثال، شكّل صعود الحركة الإسلامية في البيئة الشيعية، وانتقال فضاءات الثقافة من الإيديولوجيا للثقافة الشعبية، إيذاناً ببدء زمن الصمت. لم يُبد النص الثقافي لإسلاميي الشيعة في العالم العربي عناية واهتماماً كافيين بملمات الزمان وتحدياته الخارجية. لقد ظل السؤال مداهماً، حتى بعد مرور عقود ثلاثة من نهضة هذا التيار، ما هي رؤيته لمحيطه، وما هي الإضافة التي سيمليها لمدونة الثقافة العربية؟
في نقده الحركة الإسلامية يتنبّه عزيز العظمة لما يعتبره قاسماً مشتركاً عند الإسلاميين – سنة وشيعة -، لم يبتدع الإسلاميون نظرية ثقافية في أسلمتهم مجتمعاتهم، ويكاد جل مقولهم يعيد تكرار أدبيات المسجد وتشريعاته الفقهية. باستثناء مالك بن نبي ومحمد باقر الصدر، تبدو المسألة الثقافية الإسلامية راهناً منشدة للعقائديات الثقافية أكثر منها لاجتماعيات الثقافة. في الحقيقة، لم يولد الإنسان في حقل الثقافية الإسلامية بعد. وتكاد المسألة تُختصر بالنزاع في المثل لا في الوقائع، وفي الهوية لا في الموضوعات أو القضايا. ثمة حاجة إذاً إلى إعادة ترسيم المسألة الثقافية ودورها، كما والنص الثقافي وموقعه. لقد شرّع حيّز الفراغ التشريعي في النص آفاق الاجتهاد الفقهي. وبالمثل، بإمكانه اليوم تشريع آفاق الاجتهاد الثقافي والقيمي، لكن ذلك يتطلب أولاً رؤية توحيدية – قبل فقهية - في الثقافة، وقناعة أن بإمكان الثقافة بحكم طبيعتها، جسر كلٍ من فضاءي الفقه والعقيدة. إن شيعة العالم العربي مدعوون اليوم، أكثر من غيرهم، لحركة اجتهادية ــ ثقافية، تضع في حساباتها الإجابة عن مصائر الهوية ومبادئها، مثلما تضع في أولوياتها مراتب النهوض الاجتماعي وموقع القيم فيه. هل يجد الشيعة بأنفسهم اليوم جماعة تاريخية متخيَّلة أم جماعة قيمية - رسالية؟ ثمة صعوبة في الإجابة عن مثل هذا السؤال، وهي صعوبة تتأتى من مصدري وعي الجماعة الشيعية لنفسها، الحكاية والتاريخ. ما هي حكاية الشيعة عن أنفسهم؟ وماذا أراد التاريخ ويريد لهم؟ للتاريخ سلطان القهر، وللحكاية سلطان القول. ما بين القهر والقول كابد الشيعة تاريخاً من أليم السرد كيما يسدوا للأمة موقفهم. أمّا اليوم، وقد نحى عنهم القهر، أجد ثمة متسعاً في مدونة الزمن لفصل جديد، كل الجدة، من السرد عن الشيعة «كجماعة متخيلة».
* باحث لبناني