لا شك أن خطاب الوزير نهاد المشنوق في ذكرى اغتيال اللواء وسام الحسن فاجأ المؤيدين لخطّه السياسي والمعارضين له. فمنذ تأليف حكومة «المصلحة الوطنية» لم يرق مناصري تيار المستقبل وفريق 14 آذار خطاب وزير الداخلية الذي فصل «الاشتباك السياسي» مع حزب الله عن الأداء الحكومي. واعتقد البعض بأن الرجل انتقل من فريق «الصقور» الى فريق «المسايرين» في السياسة على الطريقة اللبنانية «لغاية في نفس يعقوب»! أما المعارضون لخطه السياسي، أي فريق 8 آذار، فاعتقدوا لوهلة أن وزير الداخلية «خضع» لمعادلة فائض القوة العسكرية والأمنية والسياسية لحزب الله.
أما العارفون بنهاد المشنوق، فقد فهموا أسرار وأبعاد خطابه الهادئ في الأشهر الماضية. ولم يفاجأوا بخطابه اليوم. فالرجل براغماتي، لكنه ليس من «جماعة اليوميات» (أي من جماعة ردود الفعل). ولا يُعميه الانهماك باليوميات السياسية عن الرؤية الاستراتيجية. وبالتالي، فما تضمنه الخطاب يجب قراءته على المستوى الاستراتيجي المحلي والإقليمي. من هنا السؤال لماذا هذا الخطاب اليوم، وفي هذه المناسبة بالذات؟
أولاً، لا شك أنّ نهاد المشنوق أراد بهذا الخطاب إعطاء المناسبة بعداً سياسياً كبيراً يتخطى ذكرى الاغتيال. فصداقته لوسام الحسن كانت كبيرة منذ كانا في فريق الرئيس رفيق الحريري. وصاحب الذكرى كان قائداً أمنياً استثنائياً على مستوى الوطن، وركناً أساسياً من أركان فريق 14 آذار. كما أراد التأكيد على أن تيار المستقبل لا يساوم على شهدائه، وبالتحديد الرجل الذي حاول أن يحمي على مدى سنوات مكتسبات ثورة الأرز وقيادات 14 آذار، كما باقي قيادات البلد، من موجة الاغتيالات.
اعتقد البعض أن الرجل
انتقل من فريق «الصقور» إلى فريق «المسايرين»



ثانياً، إن الشارع السنّي اللبناني يواجه تيارات أصولية تكفيرية غير مسبوقة في المنطقة وعلى حدود مناطقه. ويواجه في الوقت ذاته اتهامات بأن بيئته حاضنة لهذه الأصولية. لقد أصبح نوعاً ما بين «مطرقة» الأصولية «وسندان» التخوين بدعمها واحتضانها. ولا يمكنه الاستمرار بهذا الوضع. فهو رفض حالة الشيخ أحمد الأسير في صيدا وواجهها. وتعرّض لحملات من قبل شارعه نتيجة موقفه هذا، وخاصة بعد العملية الأمنية والعسكرية التي انتهت بها حالة الأسير وما رافقها من تدخّل لعناصر من حزب الله، وثّقته وسائل الإعلام. وفي طرابلس خسر من شعبيته خلال جولات القتال بين باب التبانة وجبل محسن. فاتهمه خصومه بتمويل قادة المحاور وبدعمهم عسكرياً ومالياً. وفي الوقت نفسه، كان عناصر المحاور وسكان مناطق القتال يلومون تيار المستقبل ويتهمّونه بعدم قدرته على حمايتها من نيران «الجبل».
بالرغم من ذلك، شارك تيار المستقبل في الحكومة ووضع وزيره في «الداخلية» خطة أمنية شاملة. وأراد أن تبدأ في طرابلس، على أن تشمل في ما بعد كل «مربعات الموت» على مساحة الجغرافيا اللبنانية. انطلاقاً من هنا، دعم تيار المستقبل انتشار الجيش في بلدة عرسال، ذات الغالبية السنية، في قلب البقاع الشمالي - الشرقي، ذات الغالبية الشيعية.
وإذا به يفاجأ بعجزه عن حل مشاكل أمنية أقل بكثير من هجوم فصائل «داعش» و«النصرة» على الجيش اللبناني، وبعدم تمكّن الأجهزة الأمنية من تعقّب خاطفين لبنانيين لتحرير مخطوفين لبنانيين (وهي أزمة مزمنة في البقاع الشمالي)، وبانتشار الجيش في جرود دون أخرى.
ثالثاً، لقد أعلن وزير الداخلية، صراحة، أنه وفريقه السياسي يرفضون أن يكونوا «قادة صحوات» على الطريقة العراقية. والسبب عدم تطبيق الخطة الأمنية على من «ينعم بالحصانة الحزبية»، بالرغم من إخلاله بالأمن. ولكن لماذا الكلام اليوم؟ لا شك أن حزب الله أخذ الكثير من تأليف «حكومة المصلحة الوطنية» ومن الخطة الأمنية، وفي المقابل لم يقدم شيئاً. على المستوى السياسي، أخذ خطاباً أقل حدّة حول مشاركته العسكرية في القتال في سوريا الى جانب نظام الأسد.
واقتصر انتقاده في المناسبات. كما حصل على قرار «مستقبلي» بوضع «الاشتباك السياسي» جانباً والعمل معاً لمواجهة موجة التفجيرات التي كانت تتعرّض لها مناطقه من الضاحية الجنوبية الى أقصى البقاع في الهرمل. ونجح التضامن الحكومي في إيقاف مسلسل التفجيرات. كذلك حقّق الحزب انتشار الجيش اللبناني في عرسال وجرودها وإحراج أهلها تجاه الرأي العام اللبناني، وخاصة بعد خطف الجنود من قبل المجموعات الأصولية. وها هي «مشكلة عرسال» تزداد تأزماً يوماً بعد يوم.
وفي المقابل، ماذا قدّم الحزب؟ لا شيء يذكر. فهو يستمر في القتال في سوريا ويصرّ على ذلك. وقام بعملية عسكرية ضد القوات الإسرائيلية، مؤكداً استمراره في اتّخاذ قرار الحرب والسلم في لبنان (ولو أن الرسالة الأولى للعملية كانت باتجاه إسرائيل). أما على مستوى الانتخابات الرئاسية فتستمر كتلته وكتلة حليفه الجنرال عون بمقاطعة جلسات الانتخاب.
رابعاً، لا بد من قراءة إقليمية في خطاب المشنوق، لأن الرجل، كما أسلفنا، استراتيجي في فكره ولا يرتجل. وهو قارئ جيّد للأحداث إقليمياً ودولياً. إن في الإقليم «صحوة» سنية ضد النفوذ الشيعي المرتبط بإيران. ففي العراق، وأبعد من الدور العسكري لداعش ووحشيته، هناك «صحوة» سنية ترفض استئثار الشيعة العراقيين بالسلطة وسياسة التهميش والإقصاء، وتطالب بالمشاركة «الفعلية» في الحكم على قدم المساواة. من جهة أخرى، إن مشاركة الدول العربية «السنية» في التحالف الدولي لقتال «داعش» هي أيضاً بمثابة «صحوة» لاستعادة المبادرة في أزمات المنطقة، وسيكون لهذه الدول دور أكبر في مستقبل العراق وسوريا. أما على المستوى الدولي، فهناك «صحوة» أميركية لترميم العلاقات التاريخية مع العالم السني، وتحديداً دول الخليج. فهذه الأخيرة مُحبطة من السياسة الأميركية منذ أحداث 11 أيلول 2001، التي أدّت الى زيادة النفوذ الإيراني في العراق (بعد سقوط نظام صدام حسين) وفي لبنان (بعد عودة الحرارة الى العلاقات السورية – الأميركية ابتداء من العام 2008) وفي سوريا (بعد انطلاق الثورة وإحجام واشنطن عن دعم معارضة الجيش السوري الحرّ). واستطراداً، هذا ما دفع بالمملكة العربية السعودية الى محاولة نسج علاقات جديدة مع روسيا والصين، وتمتين علاقاتها الاقتصادية والسياسية مع الاتحاد الأوروبي. انطلاقاً من هذه المستجدات والمتغيرات الجيوسياسية في الإقليم، ما قبِله السنّة في الأشهر الماضية على مضض، لن يقبلوه اليوم.
إن خطاب نهاد المشنوق ليس بـ«صحوة» غافل عن مجريات الأحداث، كون الرجل يدرك جيداً تاريخ سياسة حزب الله وتعامله مع المتعاونين معه وحلفائه. فمنذ سنوات يأخذ ولا يعطي، من موقع القوّة. وهو لم يتوان عن استعمال هذه القوة عسكرياً في بعض المحطات المفصلية. هذه السياسة زادت الوضع الداخلي تأزماً، وتزيد من شعور فئة كبيرة من اللبنانيين بأنهم مواطنون «درجة ثانية». كما تساهم في زيادة الحقد في النفوس والحدّة في الخطاب السياسي والتطرّف في الانتماء الديني والمذهبي. فهلا يقرأ الحزب جيداً «أوّل الكلام» ويتعامل معه إيجاباً بهدف الحفاظ على «المصلحة الوطنية» وعلى ما تبقى من وحدة وطنية وسلم أهلي هش، لعله بذلك يسهم في إطفاء حرائق المنطقة التي طاولت الأطراف الشرقية – الشمالية، وربما ستهدّد الأطراف الشرقية – الجنوبية، وقلب لبنان؟!