في أيلول وتشرين الأول من كل عام، تمنح لجنة نوبل جوائزها لمتفوقين في حقول محدّدة، وفي الوقت نفسه تتسلّل جائزة كاذبة يقدّمها المصرف المركزي السويدي إلى أشخاص خدموا النيوليبرالية الغربية والاستعمار الجديد. والحقيقة أنّه لا وجود لجائزة نوبل في الاقتصاد، ومَن نالها كانت له يد في خراب العالم.

متى وكيف بدأت لجنتها منحَ جائزة في الاقتصاد؟ لقد تأسّست لجنة نوبل في السويد عام 1901 أي بعد 6 سنوات من وفاة ألفرد نوبل، الصناعي السويدي الثري ومخترع الديناميت. وقد حدّد نوبل في وصيته أن تُمنح جائزة باسمه من أجل السلام وفي الحدود الأربعة التالية فقط: الفيزياء والكيمياء والطب والأدب. ولم يطرح أحد مطلقاً فكرة ضم الاقتصاد إلى قائمة الحقول التي كافأتها لجنة نوبل، في وقت كان فيه الاقتصاد حقلاً بريئاً في العلوم الإنسانية والاجتماعية.
ولكن النيوليبرالية الدولية التي تقودها الولايات المتحدة أفسدت حتى جائزة نوبل. ففي أواخر الستينيات، وقد بلغ النظام النيوليبرالي الدولي مرحلة متقدّمة في توسّعه ووصل إلى السويد، بدأ مصرف السويد المركزي يمارس الضغط على لجنة نوبل لإضافة «علماء» الاقتصاد كمرشّحين محتملين لنيل الجائزة يتكلّف المصرف بتسديدها. ولكن أسرة ألفرد نوبل رفضت هذا المنحة التي ستؤدي إلى أمركة الجائزة.
«جائزة الاقتصاد» هي
حلقة من حلقات العلاقات العامة في النظام النيوليبرالي

فقرّر المصرف المركزي عام 1968 خلق جائزة بديلة موّلها من المال العام، وكانت حجّة منحها الاحتفال بذكرى تأسيس البنك. وهذا ما جعل «جائزة نوبل في الاقتصاد» الوهمية يدفع ثمنها مواطنو السويد. أما كيف خطف بنك السويد اسم نوبل، فالحقيقة أنّ الإعلام الأميركي هو الذي أطلق تسمية «جائزة نوبل في الاقتصاد»، رغم أنّ الشهادة التي يتسلمها الفائز وسائر أوراق الجائزة تذكر اسم الجائزة الرسمي والحقيقي، وهو «جائزة مصرف أسوج في علوم الاقتصاد تخليداً لروح ألفرد نوبل». نعم أقحم اسم نوبل في اسم الجائزة، ولم يعطِ هذا مسوغاً للإعلام النيوليبرالي ليختصر الاسم، بحجة أنّ اسم الجائزة الرسمي طويل، فجعل هذا التزوير منح جائزة بنك السويد وكأنّها من لجنة نوبل. عملية الخداع هذه كانت مفهومة، فقد رغبت النيوليبرالية الغربية في إضفاء شرعية على حقل الاقتصاد الذي بات يمارس النفاق ويخفي الحقائق ويخدم النيوليبرالية بتقديمه الخلفية الأيديولوجية للنهب العالمي وإفقار الشعوب.
وعلى أي حال، حتى لجنة نوبل الأصلية لم تُترك وشأنها، بل تم اختراقها مباشرة بعد ذلك. ذلك أنّها أخذت منذ نهاية الستينيات وأوائل السبعينيات تبتعد كثيراً عن مثاليات مؤسسها ألفرد نوبل.
ومقارنة بجوائزها التاريخية التي يمكن مراجعتها على مواقع البحث، فقد أخذَت اللجنة تمنح جائزة نوبل للسلام لأشرار تاريخيين شنّوا حروباً على دول أخرى كمناحيم بيغن أو باعوا بلادهم رخيصة ومارسوا الديكتاتورية في الحكم كأنور السادات أو مارسوا العدوان العالمي كبيل كلينتون وباراك أوباما، أو خدموا النيوليبرالية الغربية بانشقاقهم عن بلادهم مثل الأديب ألكسندر سولجنيتسن، أو حاربوا الصين باسم الحرية باسم الدالاي لاما. وحتى عندما حان الوقت للاعتراف بالأدب العربي واستقر الرأي على منح نوبل للآداب للشاعر أدونيس، منحتها اللجنة لنجيب محفوظ لأنّه برّر عمل السادات في خيانة مصر والعرب ووقف معه، وليس لأنّه روائي كبير صاحب ثلاثية القاهرة.
«جائزة الاقتصاد» التي ألصقت زوراً بألفرد نوبل، هي حلقة من حلقات العلاقات العامة في النظام النيوليبرالي العالمي. ولمزيد من التمويه، جعلوا توقيت منحها كل سنة مباشرة بعد منح سلسلة جوائز نوبل الحقيقية في الفيزياء والطب والكيمياء والسلام. وهذه الجائزة وتوقيتها مع منح الجوائز الحقيقية، ساعدا في إعطاء علم الاقتصاد هالة صدقية على أنّه في مستوى العلوم الطبيعية نفسه. وأخفت جائزة الاقتصاد – وهذا الأخطر – الهدف الأساسي منها وهو إضفاء شرعية على أيديولوجية مدمّرة للإنسانية هي العقيدة الاقتصادية اللاإنسانية في علم الاقتصاد واسمها المتداول «النيوليبرالية». والدليل؟ خلال السبعينيات والثمانينيات حصد «جائزة نوبل» للاقتصاد أشخاص روّجوا لنظريات وسياسات النيوكلاسيكية والنيوليبرالية، وكان معظمهم من أصحاب اختصاص في الرياضيات والإحصاء. ودعموا بكتاباتهم ونصحهم وتوصياتهم اقتصاديات السوق. كما أنّ الأشخاص أنفسهم ومن لف لفّهم من مراكز أبحاث ومعاهد ومؤسسات، حصلوا على تمويل ودعاية ومجد لم يحلموا به. أمّا مَن لم يسِر في هذه الأيديولوجيا من علماء الاقتصاد ومراكز البحث، أو انتقد هذه الأيديولوجيا ورفض ادّعاءاتها بالعلمية، فقد كان يتعرّض للتحجيم والإقصاء والحرمان من المناصب والأموال. وبات حظّه في التقدّم في مهنته الأكاديمية مقفلاً واتُهم بالاشتراكية أو الماركسية أو التخريب.
وطبعاً كانت نتيجةُ فوز النيوليبرالية فرضَ عقيدة منسجمة طيّعة للمنظومة العسكرية الاقتصادية النيوليبرالية في العالم، يطورها وينشرها فريق من علماء الاقتصاد ألغى عمليّاً أي دور نقدي بنّاء لعلم الاقتصاد. والنقد الجدي لحقل الاقتصاد اليوم هو أنّ أصحابه باتوا يشكّلون جيشاً يمارس انحيازاً كاذباً لاقتصاديات السوق الوحشية، مانحاً مسحة فكريّة محترمة للزعماء السياسيين والقادة العسكريين وأصحاب الشركات الذين يعملون معاً على تحجيم دور الدولة وإضعاف القطاع العام ومنع تدخّل الحكومة في الشأن الاقتصادي وإبقاء هذا التدخّل ضمن حدود دنيا تُسجَّل في باب خدمة أصحاب الأعمال وتنفيذ طلبات المتروبول الدولي.
وعندما تقرأون أنّ فلاناً فاز بجائزة نوبل للاقتصاد تذكّروا أنّها كذبة كبيرة.
* أستاذ جامعي ــ كندا