نبيل اسماعيل *
في خضم الحملة الأميركية الجوية على مواقع تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام الموجودة في سوريا والعراق، وضمن الجدال الذي رافق هذه الحملة حول أهدافها المعلنة وأهدافها المضمرة ومدتها الزمنية وإلى أين يمكن أن تودي بالمنطقة، تذكرت خبراً أوردته وسائل الإعلام العالمية منذ أشهر حول الرجل الفييتنامي الذي انتُشل من أحد الغابات. فقد هرب المدعو «فان سان» من قريته حاملاً طفله ذا العام الواحد، وذلك بعد أن شاهد ابنه وزوجته يقضيان جراء قصف الطائرات الأميركية لقريتهم.

جرى ذلك عام 1973. ومنذ ذلك الحين حتى وقت قريب عاش «فان سان» وابنه حياتهما هائمين في الغابات في عزلة تامة عن العالم. ولم يدر أحد بوجودهما حتى تم العثور عليهما مصادفة وقد عادا إلى الحالة البدائية وفقدا القدرة على التواصل مع الناس العاديين.
أربعون عاماً قضاها هذا الرجل وابنه في الادغال الفييتنامية هرباً من الطائرات الاميركية. ما الذي تغيّر يا ترى منذ أربعين عاماً الى الآن؟
انتهت الحرب الفيتنامية بعد فرارهما بعامين، وحروب اخرى شنتها الولايات المتحدة الاميركية لم تلبث أن اندلعت أو أكملت، بشكل مباشر أو بالوكالة وفي كل القارات. الأصابع الأميركية كانت في كل مكان، في لبنان بعد عام 1975 وفي الاعوام التالية، في دول مجاورة لفييتنام مثل كمبوديا ولاوس. في أفغانستان حيث بدأت أولى فصول الرواية،
أصبحت الولايات
المتحدة أكبر من المشهد العالمي بكامله!


رواية السلفية الجهادية الحديثة التي كان عليها طرد السوفيات من أفغانستان حاملة أكثر الأفكار رجعية ودموية. وطبعاً بإشراف مباشر من القابلة الأميركية التي سمعت صرخة المولود الجديد الأولى من باكستان المجاورة، التي ستعاني بدورها من هذا المخلوق المسخ فيما بعد. هذا الابن البار لوكالة الاستخبارات الأميركية. البوارج في مياه الخليج، العبث الاستراتيجي في اميركا اللاتينية ولاحقاً في أوروبا الشرقية والبلقان والعراق. البوارج الأميركية في سواحل المتوسط قبالة سوريا ولبنان في الثمانينيات، والمارينز الأميركي في بيروت.
فصل أميركي آخر من رواية السلفية الجهادية الحديثة في حرب البلقان، حيث لم يقصر الجهاديون العرب وغير العرب. طبعاً برعاية الأميركيين والأسر الحاكمة في الخليج. سلفيو الخليج الأميركي مرة أخرى في الشيشان يطرقون أبواب موسكو. الطائرات الاميركية تحرق كوسوفو. القوات الاميركية تشعل الارض تحت ابناء الرافدين في العراق. وقد ساعدت استخباراتهم في إشعال حروب أهلية في أكثر من بلد آخر. طبعاً، تفاقم الأمر بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وأصبح العالم طريقاً معبداً أمام الدبابات والمدرعات الاميركية، وأصبحت العظام الهشة وقوداً حيوياً للحاملات العملاقة والأساطيل. الشركات المتعددة الجنسيات أصبحت تزاحم البشر والحيوانات قوتهم وهوائهم...
دخلنا الألفية الثالثة. المارينز في أفغانستان وعلى صوت طائراتهم الذي محا قرى بكاملها، دخلنا فصلاً آخر دموياً من رواية السلفية الجهادية. أصبحت الولايات المتحدة أكبر من المشهد العالمي بكامله! فإذا نظرت الى صورة العالم ستجد أطرافها تتدلى خارج إطار هذه الصورة وستجد جسمها وأحشاءها العفنة تغطي كل التفاصيل. نحن اذا نعيش في أمعاء هذا الوحش الخرافي. أجهزت القوات الاميركية على ما تبقى من العراق بعد الـ 2003 وذهب بلد بكامله إلى الجحيم... دول كثيرة في آسيا عانت وتعاني من الحركات الأصولية التي اوجدتها الولايات ومن الحكومات العسكرية وغير العسكرية التي اوجدتها ودعمتها الولايات المتحدة. أصبحت الحروب الاهلية عنواناً يومياً. العالم يمشي واثق الخطوة وملكاً وأعمى كالخلد من هاوية إلى أخرى. من فوضى إلى فوضى... من دماء إلى دماء أغزر. طائرات الناتو (وطبعاً لا فرق بين الناتو ودولته الا في اميركا) زارت سماء ليبيا ودخل البلد إلى الجحيم الأميركي بشكل رسمي. ومعها المنطفة العربية بعد احتجاجات عام 2011.
بعد ليبيا دمرت سورية حجراً حجراً، نفساً نفساً. البلد الهادئ يدخل حفلة جنون غير مسبوقة برعاية معلنة من الاستخبارات الأميركية وبتغطية وتبني من الإعلام الخليجي الذي أثبت قدرة التحريض الإعلامي في تغطية العقل حتى آخر قطرة دماء. نعود إلى العراق أو سوريا أو ليبيا. أو ربما كل الشرق الأوسط. فمع داعش دخلت السلفية الجهادية كناظم رئيسي للإيقاع الأميركي إلى تفاصيل الشرق شبراً شبراً. الآن الطائرات الأميركية تعود إلى سماء سوريا والعراق وسننتظر... أي جحيم جديد سندخل؟
إذاً ، سوف يلاحظ الأخ «فان سان» الفييتنامي أن شيئاً ما لم يتغير منذ اختبائه في الغابات قبل أربعين عاماً. وأن الولايات المتحدة تشن هجوماً متواصلاً على البشرية وذلك منذ أن أعلن رسمياً انتهاء الحرب العالمية الثانية بإسقاط القنبلة النووية (little boy) وشيّ اليابانيين وتشويه جيل كامل في هيروشيما وناكازاكي...
لن ينفعنا إذاً الاختباء في الغابات والعيش كالبشر البدائيين، وربما لن ينفعنا شيء آخر. الرأسمالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة قادمة إلى كل مكان وفي كل مكان. هذا الكوكب مزرعتها الخاصة وإن ضاق... ونحن وعظامنا وقودها الحيوي... ولكن لربما يكتشف الناس يوماً ما ان هذا الوقود قابل للاشتعال. وإحراق الأرض بمن عليها.
* كاتب سوري