الكتابة عن جوليا تعتريها محاذير عدة، أهمها أنه ينبغي احترام خيارها، الذي كررته في حفلتها الأخيرة، بأن تستغني بالغناء عن الكلام، وهي التي تجنبت الدخول في أي سجالات منذ بداية مشوارها الفني، وحرصت على عدم الدخول في ساحة التكهنات بشأن مقاصد أغانيها.
قيل إن «أشرف الناس» نحتت كلماتها للسيد حسن نصر الله، وإن «طل وشرّف» كرست نغماتها للرئيس ميشال عون، أو أن الأغنيتين معاً لزوجها الوزير إلياس بوصعب، لكن لا تأكيدات بهذا الشأن: أغاني جوليا مهداة إلى كل أحد يشكل مصداقاً لمضامينها. بيد أن جوليا لا تخفي محبتها للسيد، ولا للعماد. في عالم جوليا تنوع في الإطار الإنساني الطبيعي، لا يضر وحدة الوطن ولا محبة الإنسان لأخيه الإنسان.
في عالم جوليا، يحترم الإنسان لذاته، فهو قيمة في حد نفسه، لا بناء على طائفته، وحقه في حرية الاعتقاد مصون مع سائر الحقوق الطبيعية الأخرى. قدمت جوليا نموذجاً لافتاً للعلمانية المؤمنة، التي تعلي من شأن الدين وتحاصر الطائفية، إحقاقاً لإنذار جبران خليل جبران بالويل للأمة التي تكثر فيها الطوائف ويقلّ فيها الدين. طرحت جوليا في ألبوم «ميلادك» أجمل وأصدق مما قدمه كثير من المرنّمين والمرنّمات المحترفين.
حفلتها الأخيرة جاءت مع سقوط الشهيد الثاني من العسكريين المخطوفين، ليضاف إلى الشهداء المغدورين، وانقطاع أخبار باقي الجنود، فكان السؤال المزمن يطرح نفسه مجدداً: هل ينبغي أن تقام حفلات في ظل هذا الوضع؟ يحاجج كثيرون بأنه واقع عربي متلبد بغيوم الموت والمآسي لم تغادره منذ عقود، وما من وضع استثنائي.
كيف لإنسان أن
يجمع في نص واحد حديثاً عن جوليا وعن طيور الظلام؟

الواقع أنّ لدى جوليا - وقليلين غيرها فقط - يطرح جواب السؤال المزمن، فهي تغني داخل القضية وهواجس الناس، لا خارجها، عندما تغني للحب والمقاومة والحياة، وترفع الصوت رفضاً للموت.
هي التي ردد المقهورون في الثمانينيات، أيام تلويث غربان الموت الصهيوني لأرض لبنان، أغنيتها «غابت شمس الحق»، فأخذوا من كلماتها جذوة الرفض وشعاع الأمل، وحسم الخيار بأن شهادة الكرام أفضل من عيش اللئام.
كيف لإنسان أن يجمع في نص واحد حديثاً عن جوليا وعن طيور الظلام؟ لكنه زمن داعشي يحتّم ذلك، كما حتّم بالأمس الزمن الإسرائيلي جمعاً في الحديث عنها وعن غربان موته. وكلا الزمنين وقت مستقطع من التاريخ لسيادة عنصرية في الإقليم.
في زمن القتل العام والإجرام المستشري، والحقد المقيم والبشاعة الواسعة والتفرقة العنصرية، تقدم جوليا رسالة إيمان وحب وأمل أكيد بالنصر.
يوم 2 أيار 1945، يوم سقوط برلين والنازية، حمل الروس المقاتلة ماريا ليمنسكايا، بحضورها الرقيق إلى قبالة بوابة براندنبورغ، رمز العاصمة الألمانية، أسفل الرايخستاغ، مبنى برلمان الرايخ، لتنظم سير المركبات وسط برلين، وتخلد بصورها ذكرى ما يسميه الروس «النصر العظيم في الحرب الوطنية العظمى».
أراد الروس تسجيل رمزية حضارية ترفع الحرب من مرتبة العنف الساذج إلى مقام المقاومة الإنسانية، حيث المدنية قائمة، والثقافة حاضرة، وموقع الفن مصون، وقيمة النظام محفوظة.
للروس تراث عريق في هذا المضمار، كاتيوشا ليست بالأصل اسماً لصاروخ، بل اسم لأغنية بديعة تفيض حباً لوطن ولإنسان، أطلق اسمها على الصاروخ في ما بعد.
«يوما ما»، سنحمل السيدة جوليا في هودج النصر إلى قلب فلسطين، لتنظم مواكب العشاق إلى المسجد الأقصى وكنيسة المهد وقبر داود، مسلمين لا دواعش، ومسيحيين لا متصهينين، ويهوداً لا صهاينة.
يومها، ستكون المقاومة قد فرغت من العبور إلى الجليل ومن تحرير فلسطين، وستكون الجيوش العربية قد استراحت من إطلاق نيران لم ترحم جموع الإرهابيين التكفيريين، الذين يشربون مع الصهاينة من ضرع العنصرية نفسه.
يومها، ستكون نون الموصل قد أنهت رحلة تهجيرها، وعادت إلى نينوى، وانقلبت إلى قبة شاهقة يطاول أعلاها عنان السماء، وينغرس طرفاها في عمق الأرض، بقوة رسوخ أهلها في هذا الوطن. أما نقطتها فتغوص عميقاً في ترابه، بحثاً عن رفات الأحبة الذين تعاقب الغزاة على أرضهم، ولكنهم لم يرحلوا.
يومها، سيعود مقام النبي يونس، ذي النون، كما كان شامخاً في أرض نينوى، يستقبل الزوار المحبّين.
يومها، سيكون خيار آمرلي الصامدة في المقاومة قد تكرس عقيدة قتالية بوجه الإرهاب، واستطاع تحقيق وعد الشهيد يحيى عدنان شغري بمحو كيانه، وخلّد ذكر الشهيدة أمية الجبوري أبد الدهر.
يومها، ستكون العودة قد تحققت ليزيدي سنجار، والعدل قد أقيم لمغدوري سبايكر، والحصار قد رفع عن حلب الجريحة، وتحققت القوة للأمة، وشاعت المحبة بين الناس، بفضل ثورة شعب بلادي الحقيقية.
يومها، ستكون الثورة الأصلية قد قامت، جامعة بين تحرر الوطن وحرية (يتنفسها) المواطن. في الغد الأحلى، حين نمضي وننتصر، لن تكون هناك ديكتاتورية تترك حال حفظها لطريق مقاومة المحتل، مساحات هامشية ينمو فيها الفساد مع التطرف، ويطيح في اليوم التالي قلعة الممانعة من الداخل.
يومها، لن تناقض حرية المواطن تحرر الوطن، بل ستكون واحدة من أهم لوازمه.
تقدم السيدة جوليا للمقاومة رصيداً فنياً لا غنى عنه، وللناس أملاً في زمن اليأس لا تعويض عنه. كان ناهض حتر قد تحدث في هذه الجريدة عن «محبة مسلحة» لها أقنومان: فيروز ونصر الله. ترى جوليا أن فيروز ملكة لا يوضع بجوارها فنان آخر. لكن تحت هذين الأقنومين، يجدر وضع أقنوم ثالث اسمه جوليا، هذا كلام لا بد من قوله.