يعاني الفقه الدستوري في لبنان من مشكلة حقيقية ومزمنة ألا وهي هيمنة الوضعانية (positivisme) على التحليل القانوني بحيث لا نتمكن من تحليل الأزمات المتعددة التي تضرب نظامنا السياسي إلا من زاوية القراءة القانونية المعتادة. والغريب أن الأزمة السياسية هي في جوهرها قضية تتعلق بموضوع الشرعية ولا يمكن لها بأي شكل من الأشكال أن تتحول إلى مجرد مسألة قانونية خاضعة لمفاهيم جامدة فيتداولها رجال القانون كأنهم أمام المحكمة حيث ينحصر النزاع بين هذا التأويل أو ذاك للنص القانوني الواحد.
ويتجلى هذا الواقع في عدم تنبه التيار القانوني الوضعي الذي يهيمن على كليات الحقوق في الجامعات اللبنانية على معضلة أساسية يواجهها النظام اللبناني وهي تلك التي تتعلق بتحديد صاحب السلطة التأسيسية، أي الجهة المخولة بوضع دستور جديد للبلاد. فالسلطة التأسيسية لا وجود لها في لبنان لأن النظام السياسي المعمول به حالياً لا يستطيع تحديد من هي السلطة السيدة (souveraineté) التي ينبثق عنها الدستور.
وقد صدرت مطالبات عديدة من مختلف الأحزاب والشخصيات السياسية اللبنانية بغية عقد مؤتمر تأسيسي تطرح فيه مسألة إعادة النظر بالنظام السياسي القائم حالياً لكن من دون نتيجة فعلية. وليس في الأمر ما يدفع للاستغراب كون مؤتمر كهذا يتطلب مسبقاً تحديد صاب السيادة الذي يعود له اتخاذ مثل هكذا قرار.
صحيح أن الفقرة «د» من مقدمة الدستور تنصّ صراحة على أنّ «الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة يمارسها عبر المؤسسات الدستورية»، لكن هذا الإعلان يتمتع بقيمة إنشائية فقط إذ لا يوجد في لبنان طريقة تسمح لنا بإلغاء الدستور الحالي وسن دستور جديد يوافق عليه الشعب عبر الاستفتاء كما يجري في الديمقراطيات العادية حيث الغالبية هي التي تملك قدرة القرار النهائي.
ليست أزمة النظام التي يرزح تحتها لبنان مسألة دستورية أو قانونية بحتة

وهكذا يتضح لنا لماذا أصبح دستور لبنان الصادر عام 1926 من أقدم دساتير العالم التي ما زالت قيد التطبيق. فمرد هذا الواقع ليس ناتجاً من فضيلة خاصة بالدستور، وهو لا يتعلق قطعاً بفرادة نظامنا السياسي ونبوغ الشعب اللبناني، بل هو على العكس تماماً يشي بفشل مؤسسات الدولة على التطور بطريقة سلمية. فعدم وجود سلطة تأسيسية سيدة واضحة المعالم يمكن الرجوع اليها كحل أخير بغية حسم الخلافات الكبرى عبر اتباع السبل الديمقراطية يؤدي في مرحلة أولى إلى تفاقم النزاع وشلل السلطات العامة ومن ثم إلى أعمال عنف قد تصل إلى حد اندلاع حرب أهلية. والسبيل الوحيد المتاح لإحداث تغيير ما في بنية السلطة هو تعديل الدستور القائم من خلال اتباع الآلية المحددة في المادتين 76 و77 منه. لكن هذا الاجراء يخضع لأهواء الطبقة السياسية المسيطرة على الحكم في لبنان. فكل تعديل بالتالي سيعكس لا محالة تسوية ما بين القوى الطائفية والحزبية. وفي مطلق الأحوال لا يمكن إدخال تغييرات جذرية في النظام السياسي عبر اتباع الطريقة العادية لتعديل الدستور في مجلس النواب. فنظريات الفلسفة السياسية تقول صراحة إن السلطة التشريعية لا يمكنها الحلول مكان السلطة التأسيسية الاصلية. فمجرد تعديل الدستور هو اجراء سمحت به السلطة التأسيسية لكن الانتقال إلى نظام سياسي يقوم على مبادئ جديدة مسألة مغايرة تماما تتطلب تدخل السلطة السيدة. وعلى سبيل المثال تنص المادة 89 من الدستور الفرنسي الحالي بكل وضوح على منع تعديل شكل الدولة الجمهوري لأن هذا الأمر لا يمكن له بأي حال من الأحوال أن يدخل في اختصاص المؤسسات التي أنشأها الدستور بل هو يعود حصراً للجهة التي تولت وضع هذا الأخير أي السلطة التأسيسية السيدة. والأمر يزداد غموضاً مع مقارنة الفقرة «د» التي تعلن سيادة الشعب مع أحكام الفقرة «ي» من مقدمة الدستور. فالدستور اللبناني الحالي يمكن تفسيره إما بحسب مقتضيات الفقرة «د» وإما حسب الفقرة «ي» من المقدمة نفسها التي تعلن صراحة بأن «لا شرعية لأية سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك». وهكذا تكون هذه الفقرة قد أعلنت وجود مبدأ للشرعية مغاير تماماً للشرعية المنبثقة من سيادة الشعب. والسؤال البديهي الذي يطرح نفسه هو معرفة ما إذا كانت الشرعية في لبنان هي تلك التي تعود إلى اللبنانيين كشعب أو إلى مجموعة من الطوائف يتم التعبير عن إرادتهم بما يعرف بميثاق العيش المشترك.
جراء ما تقدم يتبيّن لنا أن السيادة في لبنان هي محل نزاع بين منطقين: منطق سيادة الشعب أو الأمة ومنطق سيادة الطوائف. والخطير أنّ هذه الازدواجية يتم استغلالها من قبل الأطراف السياسية المختلفة بحسب مصالحها التي تتبدل وفقاً للظروف. فالفوز بالانتخابات النيابية مثلاً يؤدي بحسب منطق سيادة الشعب إلى حكم الغالبية بينما تشكيل الحكومة لا يمكن أن يخضع لقاعدة الغالبية نظراً إلى ميثاق العيش المشترك أي وفقاً لمنطق سيادة الطوائف.
لكن الدستور اللبناني لا يمكن له أن يشرح الآلية القانونية الواجب اتباعها بغية تحويل إرادة الشعب أو اتفاق الطوائف إلى سلطة تأسيسية قادرة على ممارسة دورها بشكل منظم يجنب لبنان الأزمات والحروب. وهذا الواقع منطقي إذ لا يمكن لأي نص وضعي الحد من سلطان صاحب السيادة. فالفلسفة السياسية تعلمنا بأن السيد يملك سلطة مطلقة وهو الذي يحق له تحديد نطاق اختصاصه، أي أنه يملك صلاحية الصلاحية (la compétence de la compétence). وبالتالي، ليست أزمة النظام التي يرزح تحتها لبنان مسألة دستورية أو قانونية بحتة يعالجها رجال القانون، بل هي في المقام الأول مسألة تجب معالجتها على صعيد الشرعية (légitimité) ما يؤكد حاجتنا الماسة إلى فلسفة الحق (philosophie du droit) وضرورة عدم الاكتفاء بالمقاربات القانونية التقليدية.
وفي حال صح هذا التشخيص للواقع فإن المعضلة ستكمن أساساً ليس فقط في تحديد هوية السلطة التأسيسية السيدة بل ايضاً، وهنا المفارقة، في تحديد الجهة التي يحق لها أن تعلن هذا الأمر. ومن المعلوم أن السلطة السيدة، بما أنها تملك «صلاحية الصلاحية»، تتولى كشف هويتها بذاتها كونها لا يمكن من الناحية النظرية أن تستمد وجودها من طرف مغاير لها. فهي واجبة الوجود بحسب تعبير ابن سينا بينما سائر سلطات الدولة ممكنة الوجود لأنها تنبثق عن صاحب السيادة.
جراء ما تقدم، يتبيّن لنا بشكل جلي أن حل الأزمات السياسية الكبرى كتلك التي ترافق تشكيل الحكومات واقرار قانون جديد للانتخابات يتطلب مسبقاً وكشرط لا بد منه تحديد من يتولى السلطة التأسيسية في لبنان. حتى ميثاق العيش المشترك هو مفهوم غامض وغير دقيق: فهل الميثاق هو بين المسيحيين والمسلمين؟ هل هو بين الطوائف؟ هل يشمل كل الطوائف المعترف بها؟ وفي الإيجاب، هل يشمل الميثاق اليهود كطائفة معترف بها؟ أسئلة كثيرة لا يمكن أن تجيب عليها كتب القانون ولا التحليلات الاعلامية التي تختلف بحسب الاتجهات السياسية المتعددة. فقط السلطة السيدة يمكنها أن تتقدم بجواب حاسم، فهل من يرشدنا إليها؟
* باحث لبناني