حوّلت سنوات الصراع مصطلح «الربيع العربي» إلى جملة من الدسائس والمؤامرات. ومن يُدافع عنه يُتهم بالعمالة والتآمر والخيانة الوطنية والاجتماعية. واستخدام مصطلح الربيع بهذا المستوى يسيء إلى آلاف الضحايا الذين وجدوا أنفسهم رهينة صراعات بين حكّام متسلّطين ومعارضين متعطّشين للسلطة. لكن هذا يجب ألا يكون سبباً للانتقال من موقع إلى موقع نقيض، أو سبباً لاستبدال مشروع التغيير الوطني الديمقراطي بآخر محمول على جرائم أطراف ليس لها أية علاقة بالتغيير الوطني الديمقراطي السلمي.
فالحراك في سوريا وقع بين جملة تناقضات: 1) اشتغال بعض الأطراف الدولية على دعم وتمويل فكر إيديولوجي جهادي متطرف لدفع العنف الطائفي إلى حدوده القصوى. 2) اشتغال السلطة على إجهاض الحراك السلمي والضغط على حواضنه الاجتماعية. 3) نظرة بعض الأطراف الدولية والإقليمية إلى موجات الحراك الشعبي كتهديد لها ولمصالحها، تحديداً إذا استطاعت الجماهير فرض تغيير ديمقراطي حقيقي. 4) انخفاض مستوى الوعي السياسي وقصور في الرؤية السياسية وضحالة الخبرة العملية والميدانية للقوى السياسية والحوامل الاجتماعية. هذه العوامل ساهمت في إفشال الحراك السلمي وسرقته من أصحابه الحقيقيين وتشويهه، وإدخال المجتمع في مستنقع العنف والإيديولوجيا التبسيطية والتعميمية والأحادية التي تختزل الواقع في إطار مانوية قاتلة ومدمّرة. وتجلت هذه المظاهر في تأجيج صراع طائفي يراد منه إسقاط النظام السائد واستبداله بنظام سياسي آخر يقوم على محاصصة طائفية، مذهبية، عشائرية. وذلك في سياق استغلال التنوع الاجتماعي لتذرير المجتمع وتقسيمه عمودياً.
فالتدخلات الإقليمية والدولية واحتلال التنظيمات السلفية والحركات الجهادية للمشهد العام، وضحالة الفكر السياسي والوعي الثقافي وتراكم التخلف واحتكار السلطة للحقل السياسي والثقافي وإغلاقها آفاق العقل السياسي وتجفيف تربته، ساهم في تقويض أركان الحراك السلمي، وإغلاق أبواب الإصلاح والتغيير الوطني الديمقراطي السلمي، وازدياد تأثير وعي إيديولوجي يرفض الثقافة الديمقراطية، والسياسة العقلانية المنفتحة على التغيير السياسي السلمي. مع هذا يجب ألا تكون هذه العوامل إضافة إلى الخوف والعجز عن المواجهة، سبباً لطعن الضحية وتخوينها، أو سبباً لاستبدال حلم التغيير الديمقراطي بإيديولوجية السلطة أو إيديولوجيات تكفيرية، كأنّ سلبيات الواقع ومشاكله وتناقضاته بدأت لحظة الحراك، متجاهلين بذلك مرحلة كان عنوانها الأساس تغييب العدالة الاجتماعية وتجفيف ينابيع الحياة السياسية.
إن العوامل الإقليمية والدولية المتقاطعة مع أسباب وعوامل الأزمة الداخلية، تعيد إنتاج الصراع بأشكال طائفية ومذهبية تكفيرية تُجهض أي توجه سياسي وطني عقلاني. هذا في وقت يدخل المد الجهادي التكفيري مرحلة التهديد الوجودي للسوريين. فالموجة الجهادية التي يتقدمها داعش محمولة على قوى دولية وإقليمية، وتحمل خطورة متعددة الأبعاد والمستويات. فهي لا تقف عند حدود تهديد عسكري يقوم به مقاتلون يتجاوزون الحدود والجنسيات والقوميات، بل تحمل في عمقها التكويني عقيدة أحادية استئصالية تدفع إلى تعميق التطرف ضد الأقليات المذهبية والعرقية والمعتدلين من المسلمين السنّة. وهذا يؤكد أن التكفيريين نتاج واقع اجتماعي متخلف وعقائد إيديولوجية مغلقة وسلطات أحادية قهرية وعوامل دولية وإقليمية. وهذا يعني إن استئصال الفكر الجهادي والقضاء على داعش وباقي المجموعات الجهادية التكفيرية يجب أن يتعدى الآليات العسكرية إلى إصلاحات سياسية واقتصادية جوهرية تعيد تماسك مكونات المجتمع كشرط لازم لمواجهة خطر الإرهاب الجهادي وتجفيف منابعه. ومهما حاول البعض ربط القضاء على داعش بالتدخل الأميركي، سواء كان بغطاء دولي أو من دونه، بتنسيق مع الحكومة أو مع «المعارضة المعتدلة»، أو بدونهما، فإنه سوف يُدخل المجتمع أطواراً جديدة من صراع مفتوح يزيد من تفتيت النسيج الاجتماعي، وتدمير ما بقي من مقومات الدولة. وهذا يعني أن تجاوز المحنة السورية يلزمه التمسّك بالقيم الأخلاقية والوعي السياسي التشاركي وثقافة المواطنة. ويحتاج من المكونات الاجتماعية كافة وبشكل خاص المسلمين، إلى مناهضة التنظيمات الجهادية ومواجهة الفكر المتطرف، والاشتغال على مد جسور التواصل من أجل الشروع في بناء نهضة حقيقية في مجالات السياسة والدين والاجتماع والثقافة والتربية. ويجب أن يكون أساس هذا التحوّل تحقيق العدالة والمساواة، وضمان حرية التعبير واحترام الحريات الدينية وتمكين ثقافة المواطنة.
الإرهاب عموماً هو تصنيع رأس مال عالمي يقترن بأجهزة استخبارات دولية

إن العالم ينتظر تشكيل تحالف دولي يترجم واقعياً قرار الحرب ضد الإرهاب العابر للحدود السياسية. ذلك نتيجة للفوضى التي تعيشها المنطقة، والتي أصبحت تشكّل مناخاً خصباً لنمو البذرة الإرهابية. لكن بالرغم من ضرورة إقامة هذا التحالف، إلا أن مشاركة دول داعمة للإرهاب يقلل من فاعلية التحالف، هذا إضافة إلى أنه يعتمد معايير مزدوجة، ويهدف إلى إجهاض أي أمل في التغيير الوطني الديمقراطي. وهذا سيفتح سوريا على صراع مفتوح يزيد من احتمالات تفكيك النسيج الاجتماعي وينذر بتحلل كيانية الدولة والجيش. فالتحرك الدولي الداعي إلى مكافحة الإرهاب يذكرنا بالسياسات الاحتلالية والتدخلية التي قادتها أميركا في العراق وليبيا. لهذا نتوقع ألا تكون نتائج التدخل الدولي في سوريا مختلفة عما آلت إليه الأوضاع في ليبيا. هذا في وقت لا تريد غالبية الدول المشاركة في التحالف منح النظام السوري فرصة لاستعادة قوته، بل تعمل على إسقاطه. وتتجاهل أنها من أسباب الأزمة، وأحد العوامل التي حطمت حلم السوريين في التغيير الوطني الديمقراطي. إن وقفة سريعة على تركيبة التحالف الدولي الذي يقوده الأميركيون لمواجهة داعش، تكشف هشاشة هذا التحالف، والتباينات التي تتخلله. هذا إضافة إلى الشكوك حول الأهداف الحقيقية الكامنة وراء سياسات التحالف المعلنة، وجديته في محاربة الإرهاب. فهل يريد الأميركيون القضاء على داعش أم احتواءه؟ ماذا عن المجموعات الإرهابية الأخرى كجبهة النصرة؟ ما هي أسباب تلكؤ تركيا، مع العلم أن دورها في تهريب السلاح والنفط ودعم مقاتلين داعش وغيره بات واضحاً؟ ما هي المكافئة التي تنتظرها السعودية مقابل اندفاعها للمشاركة في حرب ضد إرهابيين تعود جذورهم الفكرية إلى الفكر الوهّابي؟ كيف ستُحسم خلافات أعضاء التحالف مع روسيا وإيران، في وقت يعلم الجميع خطورة وأهمية دورهما في سوريا والعراق؟ إن تاريخ الحكومات الغربية يدلل على أنها تشتغل على تشكيل مناخات تساهم في اضمحلال الهوية العربية والهويات الوطنية لمصلحة محميات طائفية وقبلية. وقد تقاطعت في هذا السياق جملة من العوامل التي حولت المجتمعات العربية إلى ركام من التخلف. وإلى شعوب ودول عاجزة عن حكم نفسها وإدارة علاقاتها الدولية، وأفقدها القدرة على حل مشكلاتها.
ومن المعلوم إن الإرهاب عموماً وداعش بشكل خاص، هما تصنيع رأس مال عالمي يقترن بأجهزة استخبارات دولية، ونتاج عوامل ثقافية، عقائدية، اجتماعية، سياسية. لكنه بات يُُقلق الغرب لاحتمالات خروجه عن السيطرة، أو لكونه أصبح يهدد مصالحها في المنطقة. ونكاد نجزم إن الهدف من إعلان جبهة دولية لمكافحة إرهاب داعش، هو إعادة توضيب وترتيب المنطقة، وفرض واقع جديد يكون فيه للأميركيين الدور الأساس والمباشر. لكن طبيعة وتركيبة التحالف الدولي يجعلانه عاجزاً ليس فقط عن القضاء على جذور الإرهاب، بل عاجز حتى عن القضاء على مظاهره. وهذا يدلل على أن آفاق التدخل الدولي ونتائجه غير محسومة. لذا فإنه قد يساهم في نشوء أزمات وتحولات جديدة. ومن الوارد أن يساهم في ظهور أشكال ومستويات جديدة من التطرف. أي إننا سنكون في مواجهة سياسات دولية تعمل على تعميق الأزمة السورية وفتحها على صراع طائفي عرقي عشائري متعدد الأبعاد والمستويات، وتركها عرضة للاستنقاع والتعفن ريثما تتم حلحلة التناقضات الدولية والإقليمية التي تُعيق التوصل إلى صيغة سياسية توافقية. في المقابل يرى البعض أن تقليم أظافر داعش وإضعاف النظام، وتمكين «المعارضة المعتدلة» لملء الفراغ الذي سيتركه داعش، سيفضي إلى فرض حل سياسي. إضافة إلى أن تحقيق هذا السيناريو دونه صعوبات كثيرة، فإنه مرهون بالمواقف المتناقضة للدول الداعمة لأطراف الصراع.
وأياً تكن السيناريوهات المطروحة. فإن التمدد الداعشي والتدخلات الدولية المتوقعة، سيكون لهما دور في القضاء على آخر أجنّة الربيع العقلانية. ومن الممكن أن يشكّلا مدخلاً إلى تفتيت ما بقي من تماسك اجتماعي، وتدمير الدولة الكيانية. وهذا يعني واقعياً ضرب عوامل القوة في الدولة والمجتمع وتركهما لمصير لا يمكن التنبؤ بمآلاته التاريخية. ومرد ذلك هو تقاطع مصالح أنظمة وممالك وإمارات وحكومات رأسمالية مع الحركات الجهادية والتنظيمات السلفية والأشكال الطائفية. أخيراً نؤكد أن استمرار الصراع يعني مزيداً من التطرف.
* باحث وكاتب سوري