لعلّه بات من الصعوبة بمكان شديد، أن يفكّر المرء فى إمكان تأسيس مشروع عربي تكاملي بالمعنى الحقيقى في الآونة الحاضرة، وربما في الأجل المتوسط ، ولا نقول في الأمد المنظور.
لقد أصبح مشروع الوحدة الاقتصادية العربية وراء ظهورنا الآن، وغدا أقصى ما يمكن أن نفكر فيه مواجهة المشكلات الإجرائية والموضوعية التي تقابل (منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى)، القائمة في كنف المجلس الاقتصادي والاجتماعي العربي بجامعة الدول العربية منذ أول العام 2005، والتي يقتصر أفقها حتى الآن على تحرير التجارة السلعية المتبادلة بين أعضاء جامعة الدول العربية المنضمّين إليها (نحو عشرين دولة) والتي لم تزد نسبتها التقريبية إلى اجمالي التجارة العربية كمتوسط الفترة 2008 – 2012 عن 13% تقريباً منها 25% للنفط والمعادن.

وبرغم مرور نحو عشر سنوات منذ بدء تفعيل اتفاقية المنطقة المذكورة فإنه لم تُتخذ خطوات فعلية جادة باتجاه إزالة الحواجز غير الجمركية على التبادل التجاري، والانفاق على «قواعد المنشأ» والولوج باتجاه تحرير تجارة الخدمات بما فيها الخدمات العلمية والتكنولوجية. ودع عنك، أنه لا يبدو من الممكن التقدم باتجاه إنشاء «الاتحاد الجمركي العربي» وفق ما تقرّر فيما سميّ «القمة الاقتصادية والتنموية والاجتماعية» في الكويت (يناير/ كانون الثاني 2009).
■ ■ ■
لقد خرج المارد من القمقم – كما يقولون – مُذْ أحرق نفسه الشاب العربي التونسي محمد بوعزيزي في إحدى مدن الجنوب التونسي ذات يوم من شهر كانون الأول (ديسمبر 2010)، وتدحرجت كرة الثلج كما يقولون أيضاً، فإذا بالمجتمع السياسي العربي يتعرض لشيء قريب مما سبق أن تعرض إليه (الاتحاد السوفياتي) يوم أن شرعت القيادة السياسية آنذاك – عام 1985 – (ممثلة فى ميخائيل غورباتشوف) في فتح الأبواب أمام تغيّر جذري عاصف، ليس المجتمع مؤهلاً لمثله في ذاك التوقيت، تحت شعارات من قبيل «الشفافية» و«إعادة البناء» (الغلاسنوست والبيروسترويكا). شيء قريب من ذلك وقع في البلدان العربية التي اشتعلت فيها شرارة «الثورة» في وقت لا تتوافر فيه المقومات الموضوعية والذاتية لتقبّل التغير الجذري الشامل، والانطلاق في معراجه نحو مستقبل عربي آمن، ضمن إطار عالمي وإقليمي متحول، بل شديد التحول.
ولما أن انفتحت أبواب التغيير المُشْرعة، على مصاريعها، إذا بالواقع العربي المّر يتكشف عن طبقات اجتماعية وشرائح جيلية فائرة في مرحلة التشكل وإعادة التكوين من دون أن يستقر لها قرار، وتعمل بدون قيادة اجتماعية وسياسية معترف بها. وإذا به يتكشف أيضاً عن نخب سياسية منهكة تاريخياً، أو بالأقل مجهدة إجهاداً شديداً، لا تقوى على حمل نفسها، ولا نقول حمل المجتمع الفائر المتشكل باتجاه التغيير المرتجى.
قد مضت تلك النخب المجهدة أو المنهكة تفعل ما وسعها الجهد، بأدواتها القليلة المتاحة بعد أن بلغ منها التعب والتهميش التاريخي مبلغه، بغير خبرة متمرسة في بناء القواعد الشعبية، وبغير تجربة يعتد بها في الحكم، ضمن دول أو أشباه دول ناشئة، يراد لها من قبل بعض القوى الدولية النافذة أن تجهض قبل أن تقوم لها قائمة، فتكون فاشلة Failed تارة، وهشّة Fragile تارة أخرى، أو معاقة Disabled حيناً ثالثاً.
تلك هي بعض معالم البيئة القاحلة مجتمعياً إلى حد كبير إذن، وواجهتها السياسة والطبقوية والنخبوية غير المؤهلة للثورة، في عالم معاد للثورة إذا صح هذا التعبير، إثر انتهاء الموجة الأولى لحركة التحرر الوطني العالمية منذ أمد غير قريب (1945 - 1975) من دون أن يكتمل تشكُّل الموجة الثانية بصورة أكيدة.
■ ■ ■
في قلب الإجداب، والبيئة المجتمعية القاحلة، والمحيط الدولي غير المواتي، كانت ثمة نبتات خضراء باسقة.
(1) أولى هذه النبتات، «الحركات الاحتجاجية» الشعبية، التي هي، وإن لم تتوافر لها مقومات الحركات الشعبية السياسية المنظمة ذات الأفق الفكري والعملي الراسخ، إلا أنها كانت من الفاعلية بحيث تركت بصماتها البارزة على لوحة المجتمع الفائر المتحول. وقد اتضح هذا بجلاء في الحالة المصرية مثلاً، التي استمدت من الحركة الشعبية لمقاومة «التطبيع مع الكيان الصهيوني» منذ آخر السبعينيات، مدداً يمكنها من مواصلة العمل اعتباراً من عام 2005 في المجال المطلبي الممتد سياسياً، وإن يكن غائماً بصورة عامة. بيد أنه كان مجالاً أو سماءً ممطراً فيما بدا، اعتباراً من تشكيل حركة «كفاية»، ثم إضرابات عمال الغزل والنسيج بالمحلة الكبرى في السادس من أبريل 2009، وما واكبها من تأسيس «حركة 6 إبريل» ثم مواقع التواصل الاجتماعي التي رافقت تصاعد نفوذ المؤسسة الأمنية-البوليسية بنفوذ متصاعد فى أجواء الفضاء الفسيح، حتى كانت الدعوة إلى التظاهرات الشعبية الكبرى في الخامس والعشرين من يناير 2011، حينما وقع «الانفجار الكبير» Big Bang إذا صح هذا التعبير.
(2) بروز الممانعة والمقاومة ضد الكيان الصهيوني والعدوان الاسرائيلي – وهو غير بعيد من تيار معارضة التطبيع ثم الحركات الاحتجاجية في مصر وعديد الدول العربية.
برز هذا التيار العتيد العنيد في ساحتين: أولاهما الساحة الفلسطينية – على امتدادها الواسع – من خلال الانتفاضة الأولى (انتفاضة أطفال الحجارة) في 1988-89، ثم الانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى والاستقلال): 2000-2002.
وقد تشابكت الانتفاضة الشعبية الفلسطينية مع الانتفاضة الشعبية التحررية ضد الاحتلال الإسرائيلي للجنوب اللبناني. وهنا تأتي الساحة الثانية، الساحة اللبنانية في شطرها الجنوبي بصفة أساسية، حيث قامت حركة تحرير ذات عمق شعبي مديد، لبنانياً وعربياً وإقليمياً، حتى تحرير الجنوب عام 2000. وقد تصدت المقاومة الوطنية اللبنانية، بقيادة حزب الله، حينها، للنزعة العدوانية الإسرائيلية المتجددة حتى حرب 2006 التي توّجت بصمود عظيم تبعه اندحار العدوان الاسرائيلي على لبنان.
■ ■ ■
من حول النبتات الخضراء في الحقل العربي القاحل والمجدبْ، كانت ثمة في المحيط الاقليمي بذور فرص، وأمل كبير، من الجانبين الإيراني والتركي. على الجانب الإيراني، كانت المواجهة على خط دعوى التحدي النووي الإيراني للغرب، مثالاً لصمود نادر في وجه الحصار الاقتصادي الغربي والعقوبات المفروضة، كإشارة لا تخطئها العين على إمكان مواجهة النزوع العدواني الصهيوني المتجذر، وحليفه الأميركي. وقد وقع ذلك، تأسيساً على توفر الإرادة السياسية والقوة النسبية للمنظومة السياسية المحلية، والتي، برغم النواقص والعيوب والأخطاء، قادرة على تحمل صدمات الانقسام والفتنة، وعلى أن تتجاوزها من دون آثار تدميرية على الكيان المجتمعي والوجود السياسي الداخلي بمعناه العام Political Universe.
أما على الجانب التركي، فقد برز نجاح حزب العدالة والتنمية في قلب المعادلة السياسية التركية قلباً، والوصول إلى سدّة قمة السلطة عام 2002، من خلال انتخابات عامة، واستخدامها في إحداث تغيير اقتصادي وسياسي وثقافي عميق.
لقد كان هذا النجاح إشارة أخرى إلى أنه بإمكان دول العالم الإسلامي أن تتجاوز حالة الركود التاريخي والإنطلاق في المعراج التنموي فى إطاره الدولي، وبالمعايير العالمية.
ومن اسف، أن التجربة التركية اعتراها ضعف وانحراف شديدان، كأثر لطبيعة عملية صنع القرار السياسي المحلي، سواء من خلال الإخفاق في مسيرة الانضمام للاتحاد الأوروبي، أو من خلال الإخفاق في بناء شبكة علاقات صحية ومتوازنة مع المحيط العربي، ما تمثل بأشدّ الوضوح في حالة التورط التركي في الأحداث السورية والعراقية، مما لا محل للتفصيل بشأنه في هذا المقام.
■ ■ ■
إنّ ما ذكرناه في توصيف حال النخبة السياسية العربية ينطبق بصورة محدّدة على ما يمكن أنْ نطلق عليه، بشكل مبدئي وموقت، تعبير «القوى المدنية». ويحيلنا هذا التحديد إلى حقيقة أخرى، وهي هيمنة تيار «الإسلام السياسي» على التكوين البنياني للنخبة العربية خلال العقود الأربعة الأخيرة، لدرجة تجعل من المبرر تعريف «بقية النخبة» سلباً، باعتبارها «غير المنتمية لتيار الإسلام السياسى». وهذا التعريف بالسلب هو جوهر التعريف بالقوى المدنية، فهي إذن القوى غير الملتزمة بإقامة «دولة إسلامية» ولو بمرجعية مدنية كما يقال أحياناً.
إن العجز عن بناء قواعد سياسية في الجذور Grass-roots، هي سمة مميزة لتلك «القوى المدنية» في المقام الأول. وكان تيار الإسلام السياسي قد اتسم، عبر عقود، بقدرة فائقة على بناء الجسور المتينة مع قطاعات حية متنوعة من المجتمع العربي، انطلاقاً من توابت ومتغيرات «الإيديولوجيا السياسة الإسلامية» إذا صح هذا التعبير.
لا ينفي هذا، أن تيار الإسلام السياسي قد برهن على بؤس فكري نسبي متفاوت المدى، بين أقسام التيار المختلفة، وبلغ هذا البؤس درجة تقارب «الجفاف الفكري» لدى جماعة «الإخوان المسلمين» مثلاً، والتي لم تنجح، خلال العقود الأخيرة، في تقديم نتاج فكري متميز بمستوى عال نسبياً من الخصوبة والعمق، في ظرف عالمي متغير، متّسم بصعود موجة «فوبيا الإسلام» في الغرب والولايات المتحدة. وفي المقابل، فقد وجد نتاج أوسع نطاقاً، وأكثر امتداداً، للتيار السلفي بتنوعاته المختلفة، داخل الفكر السنّي، والذي شهد استعادة نشطة للمفاهيم المنبثة في أعمال الأشاعرة والحنابلة والوهابية، ولمفاهيم أخرى ذات صلة، ومرتبطة بفكرة عودة «الخلافة» و«الدولة الإسلامية» و«تطبيق الشريعة».
الأولوية لاستعادة
الدولة الوطنية قبل أي تفكير في أمر آخر

إن هذه المفاهيم الأخيرة أصبحت قوة محركة لجماعات متدافعة من الشباب القابل للانتماء إلى تيار «الإسلام السياسي»، على طيف عريض ممتد من القسم الدعوى الخالص، في طرف أول، إلى ما يمكن اعتباره بمثابة «الإسلام القاعدي» أو «المتطرف» في طرف نهائي أخير، وما بينهما أقسام متفاوتة النصيب من «التشدّد» العقائدي والحركي.
وعدا عن المحصول الفكرى «البائس» لجماعة الإخوان المسلمين والذي أسهم في فتح الباب أمام التيارات السياسية الإسلامية «البديلة» وخصوصاً السلفية الجهادية أو المتشددة، و«الإسلام القاعدي»، فإن قوى الإسلام السياسي على اختلافها، قد برهنت على إخفاق في تجربة الحكم وإدارة السلطة السياسية داخل المناطق التي تولت مقاليدها السياسية، كما ظهر بخاصة في تجربة «الإخوان المسلمين» في مصر (30 يونيو/ حزيران 2012 – 30 يونيو/ حزيران 2013)، وتجارب تطبيق «الشريعة» في المناطق الجغرافية التي خضعت لولاية الجماعات المسلحة أخيراً، بدرجة أو أخرى، وخصوصاً في سوريا والعراق وليبيا.
■ ■ ■
في قلب «الفراغ السياسي» الذي أحدثه السقوط النهائي للأنظمة التسلطية (الجبارة) في كل من تونس ومصر واليمن خلال بضعة أشهر من عام 2011، من دون أن يكون المجتمع السياسي مؤهلاً لخلق البديل المجتمعي – التاريخي بصورة مناسبة، في أمد زمني ملائم، وفي مواجهة الضعف المزري لشرائح النخبة السياسية والثقافية (المدنية)، لم يكن بدّ من أن يتم ملء الفراغ، بمقتضى «قوانين الطبيعة»، وبواسطة القوة التى يتوفر لديها إمكان ذلك، وهي قوة، أو قوى «الإسلام السياسي» في البلدان المذكورة وغيرها من الوطن العربي الكبير. وهكذا كان، وتقدمت «جماعة الإخوان المسلمين» لتجربة الحكم في مصر بالذات، وجماعة «حزب النهضة» في تونس، وكان ما كان من سقوط الأولى، بعد سنة واحدة ، وصمود الثانية بعد أن تعلمت درس الأولى: التوافق، ثم التوافق (مع «القوى المدنية»).
ونتيجة لفشل الطرف الذي لم يتوافق، وهم «الإخوان المسلمون» في مصر، والنجاح – «حتى إشعار آخر» – للطرف الذي حقق نوعاً من التوافق، فقد برزت على الصدارة تلك الأطراف التي لا ترى خيراً يرتجى لمشروع بناء «الدولة الإسلامية» من العمل وفق «قواعد اللعبة السياسية الجارية».
لقد ولدت لحظة تاريخية جديدة: أفل «عصر المُلْك» وأطلّ «عصر الخلافة». وعلى أنقاض «الإخوان» و«النهضة» وأضرابهما، برزت السلفية الجهادية في تونس، و«أنصار الشريعة» وغيرها في ليبيا، و«أنصار بيت المقدس» وغيرها في مصر، و«جبهة النصرة» في سوريا، و«داعش» في سوريا والعراق، وكل من هذه وتلك في عرسال! إضافة إلى «أكناف بيت المقدس» وغيرها في فلسطين، وجماعة «القاعدة» في اليمن.
موجة إثر موجة من جميعها، أخذت تتدافع تلك الجماعات القديمة الجديدة، بل وتتسابق، باستخدام الحديد والنار، ولغة الدم القاني المُهراق، وكأنها في سباق مع الزمن ذاته، خشية من أن تفلت اللحظة، ويذهب الأوان، وفي ذلك «فليتنافس المتنافسون».
وهكذا برز إلى الواجهة التهديد الوجودي للدول «الوطنية» – السابقة، وإن شئت فقل كما قال القوميون منا: الدولة القطرية، على طريقة مركز دراسات الوحدة العربية، أو الدول «الإقليمية» على طريقة عبد الله الريماوي وساطع الحصري وعصمت سيف الدولة. فالإسلام (القاعدي) قادم!
ذاك عصر تحدي الدولة، فأين منه بناء مشروع عربي تكاملي؟!
وتتفاوت أشكال تحدي الدولة، من حالة إلى أخرى، وتتفاوت صور مقابلة التحدي: من العمل على بناء «شرعية جديدة» للنظام الحاكم الناشئ على قاعدة الإنجاز الاقتصادي واستعادة الأمن من قبضة «الفلتان الأمني» – وهذه حالة مصر وإلى حد ما: تونس، إلى العمل على استعادة المناطق الجغرافية التي فقدتها «الشرعية» القائمة وإرجاعها إلى كنف السلطة المركزية – في عدد آخر من الدول المعنية، مثل اليمن وسوريا، إلى محاولة إعادة بناء الدولة ذاتها على أساس جديد، بعد أن ذهب الغزو الأميركي بالأخضر واليابس في العراق، وأطاح التدخل «الأطلنطي» (الناتو) بشعاع أمل لبناء دولة جديدة في ليبيا.
وعلى رغم التباين، فإن القاسم المشترك قائم لا يريم: الأولوية لاستعادة الدولة الوطنية، المهددة بالفقدان، قبل أي تفكير بأمر آخر، مثل أمر قد يبدو رومانسي الطابع في الظرف الآني المطبق، كبناء مشروع عربي تكاملي!
هل يعني هذا كله ألا مكان هنالك للأمل في مشروع عربي تكاملي؟
كلا، بل ثمة موضع قابع هناك لأمل عربي تكاملي حقيقي، فأين؟
إننا نجده قريباً، ضمن ما ندعوه ببناء نواة تكاملية من منطلق العلم والتكنولوجيا بالذات.
والرأي عندنا، أنه توجد صعوبة بالغة في الآونة الحاضرة لا ريب فى غمار السعى إلى إحياء مشروع بناء جماعة اقتصادية عربية، ولو في شكلها الأوّلي المتمثل فى منطقة تجارة حرة عربية، واسعة المدى وعميقة الامتداد، كما أشرنا في البداية، وذات أفق مفتوح على «اتحاد جمركي» و«سوق مشتركة للمنتجات وعوامل الإنتاج العربية» ثم «اتحاد مالي ونقدي» و«منظومة موحّدة للتشريعات الاجتماعية»... سعياً في نهاية المطاف إلى «اندماج اقتصادي واجتماعي تام»، وفق ما تقضي به نظرية التكامل «الارثوذكسية»!
ولكن لا بأس من أن نبدأ مما يمكن البدء به وفيه: بناء نواة تكاملية، علمية – تكنولوجية، عربية.
وليكن ذلك من خلال التمهيد لإقامة علاقة تفاعلية حية بين مراكز البحث العلمي والتطوير التكنولوجي في البلدان العربية، سواء تلك التي أصابتها حمّى التغيير أو لم تمسّها من قريب، ولم لا نقول في كل من مصر وسوريا والعراق، والأردن ولبنان، وبقايا ليبيا وفي الجزائر، وكذا المغرب، وفي السعودية (كمدينة الملك عبد الله)، والإمارات (كالمؤسسة العربية للعلوم والتكنولوجيا بالشارقة)، أيضاً، وربما في بلدان عربية أخرى لم نذكرها، آملين مشاركتها الفاعلة.
لنرى آفاقاً زاهية واعدة للتعاون البحثي – التطويري بين المراكز العلمية والتكنولوجية شاهقة البنيان، في عدد من الدول العربية ذات الخبرة التاريخية في الميدان، بغرض تحقيق النفع المشترك من التكامل القاعدي في القطاعات العلمية والتكنولوجية الطليعية كالآتي:
أولاً: التعاون وتبادل الخبرات فى مجال تكنولوجيا بناء محطات الطاقة النووية لتوليد الكهرباء وبحوث النظائر المشعّة، وفي مجال تكنولوجيا الإشعاع والأمان النووي. وارتباطاً بذلك: التعاون في مجال مصادر الطاقة الجديدة والمتجددة الأخرى، وخصوصاً الطاقة الشمسية وطاقة الرياح.
ثانياً: التعاون العلمي التكنولوجي في مجال بناء الأقمار الصناعية الصغيرة لأغراض البحوث العلمية، والاتصالات، والاستشعار من بعد، ووسائط إطلاقها في مداراتها من الفلك البعيد.
ثالثاً: التعاون في مجال بناء محطات تحلية مياه البحر المالحة، وفي مجال الزراعة بالمياه الملحية، وتكنولوجيات ريّ الأراضي بالوسائل المرشِّدة لاستخدام المياه.
رابعاً: تبادل الخبرات العلمية التكنولوجية في مجال «التكنولوجيا الحيوية» وبحوث «الهندسة الوراثية» وخصوصاً لأغراض تطوير الزراعة الغذائية والكسائية، من جهة أولى، وبحوث الدواء باتجاه التحول من الأدوية المعتمدة على الكيمياء إلى الأدوية المعتمدة على البيولوجيا.
خامساً: تكنولوجيا تصنيع الشرائح السيليكونية الدقيقة وبناء الدوائر المتكاملة، بهدف تحقيق «التعميق الصناعي» في البلدان العربية، من خلال إنتاج الإلكترونيات الدقيقة والتوسع فى تطبيقاتها المهنية للأغراض العلمية والطبية وأغراض الاتصالات من بعد ، وتطوير الحسابات الآلية.
سادساً: في ضوء التوقع الاستراتيجي بالاحتمال المؤكد القريب لفرض حظر غربي وأميركي على تزوّد المنطقة العربية بتكنولوجيا الصواريخ قصيرة المدى ومتوسطة المدى، انطلاقاً من خبرة حرب لبنان في يوليو/ تموز 2006 ثم حرب غزة في يوليو/ تموز 2014، فإن من المهم، أن تتنادى مراكز البحث العربية وخاصة في إطار القوات المسلحة والكيانات السياسية المقاومة من أجل تطوير تكنولوجيا بناء الصواريخ ووسائل إطلاقها، وتزويدها بالرؤوس المتفجرة وزيادة مداها وتوسيع هوامش دقتها العملانية.
■ ■ ■
عود على بدء: من اقتصاديات السياسة إلى سياسيات الاقتصاد
بعد أن تناولنا فى الفقرة السابقة ما يمكن اعتباره الاقتصاد السياسي للتكامل العربي، من المنطلق العلمي التكنولوجي، ندلف اختتاماً إلى «الغلاف السياسي» المحيط بالمشروع العربي المرتجى، وفي رأينا أنه يتمحور حول بناء شبكة «التحالفات والعداءات» أي إعادة تعريف العدّو و«غير العدّو» و«الحليف» في المرحلة المقبلة. وذاك جهد ينبغي أن ينهض به ذوو الهمّة من الباحثين والخبراء العرب، فنكتفي بأن نشير إلى النطاقات الأوْلى بالمعالجة فى هذا المضمار. هذه النطاقات ذات الأولوية تتمثل بصفة أساسية فيما يلي:
أولاً: العلاقة بين الأنظمة الحاكمة وتيار «الإسلام السياسي»، إذ ينبغي وضع الحدود الفاصلة بين ما يمكن اعتباره «عدواً» و«غير عدّو» أو حليف، ولو بصفة موقتة، وخصوصاً من وجهة نظر الأنظمة إزاء التيار المذكور. إن «الإسلام السياسي» ليس كتلة صماء مصمتة، وإنما هو كيان حي فوّار، يمور بالتغيرات والمتغيرات، فلا مندوحة عن التفاعل مع مكوناته الداخلية الدقيقة بحرص شديد، بغية التركيز على مواجهة التناقض الرئيسي، وتمييزه عن التناقضات الفرعية أو الثانوية، مع بيان الآفاق الزمنية للمعالجة، وإنْ بصفة تقريبية توقعية.
ثانياً: العلاقة الخليجية – الإيرانية. وهنا ينبغى أن «نمشي على الشوك» هادفين إلى طي صفحة مؤلمة من النزاع غير المبرر، من وجهة النظر الاستراتيجية والمستقبلية، على ضفتي «الخليج العربي – الفارسي». إن نزع فتيل التعارض الثنائي الحاد القائم حالياً، وخاصة من جانب بعض دول الخليج، تجاه إيران، ربما تبدو مهمة مستحيلة، ولكنها تستحق بذل الجهد، لتوفير الطاقة من أجل مواجهة العدو الحقيقى للأمة العربية - الكيان الصهيوني. أما على المدى المتوسط، فلا ريب أن نزع فتيل المجابهة القائمة كفيل بتقريب مصر من التموضع في مكانها المستحق ضمن معركة المصير العربي الواحد، بعيداً من الارتهان لمواجهة عدّو غير عدّو، إذا صحّ هذا التعبير.
ثالثاً: العلاقة بين قوى الممانعة والمقاومة العربية وبعضها بعضاً، وخصوصاً من حيث ضرورة العمل على جبر انكسارات المقاومة الفلسطينية، ودعم مناعتها، انطلاقاً من أهمية وحدة القيادة السياسية والعسكرية (على غرار وحدة القيادة السياسية لحزب الله وما يسمى بجناحه العسكري)، وانطلاقاً من تعيين الحلفاء الطبيعيين بحكم الاعتبارات الاستراتيجية والجيوسياسية، ثم ارتكازاً إلى أولوية مدخل «الانتفاضة الشعبية» لمواجهة العدّو الصهيوني فلسطينياً وعربياً وأن العمل العسكري المحض فرع من الأصل، وليس بديلاً منه.
وتلك جميعاً «رؤوس أقلام» تطل من فوق الرؤوس، وتستحق العمل الدؤوب من القوى الوطنية والقومية جميعاً.
* أستاذ في معهد التخطيط القومي ــ القاهرة