هو ذلك التوق الذي لا يقاوم إلى أن لا نكون غرامشيين في الزمن الخاطئ، وإلى أن تكون الثقافة فعلُ قوة وتأثير مكتمل الأوصاف وليست مجرد مكتب حزبي يرأسه ضابط إرتباط مهمته «مكيجة» القرارات التي تصدر عن الضابط الأكبر. في مكان ما، توقف المثقف عن الاستكانة لدوره كتنويع على المقولة السلطوية المؤسِسة وأراد أن يعيد إنتاج وتوزيع هذه السلطة وأن يقتطع لنفسه حصة يراها مُستحقة.

حينها، كيلت إليه تهم المثالية والسذاجة وأحياناً التآمر. من أجل ذلك لم يعد من السهل بمكان المجاهرة بأن شغفك تشاطرته وقعُ أقدام سانتياغو في رائعة باولو كويلو «الخيميائي» والأعشابُ التي تهجم على نواحيك كلما تخللتك تعويذة غارسيا ماركيز «مئة عام من العزلة» على السواء. إنه استحقاق المثقف حين يخرج على السائد ويقترف الاختلاف أو يحاوله. أيضاً، إنه التموضع في المربع الأول للإشكالية الأم، ذلك التموضع الذي سيقول كل شيء فيما بعد. من هنا يُستأنف القول مع السيد هاني فحص وعنه، وأي بداية مغايرة ستعرضنا للتقوّل عليه وستمنح بالمجان مماحكاتِنا الظرفية انتصاراً كارثياً على ما يفترض أن يكون نقاشاً في العمق لما هو قارٌ في خلفية كل ما يساهم في تشكيل إنحيازاتنا السياسية.
إذاً، لا يؤتى تراث الرجل من حيث انتهى إليه اصطفافه في الربع الاخير من مسيرته، ولا ينبغي بالتأكيد اختزال تركته التي وثّقت لإحدى مسارات دخول الجنوب والجنوبيين في الكيان بإسقاطات لمضامينها على منحنيات اللحظة المحلية والإقليمية الراهنة عبر إقتطاعها عن سياقها وظرفها التاريخي. أن يكون هاني فحص مغايراً فذلك ليس «حادث سير» عرضي في مسيرته لأنه نظّر لفقه المغايرة والغير وذهب بعيداً في التقعيد لوجهة نظره في الشريعة كما رآها. فقط هاني فحص كان سيستقل تلك الطائرة التي قدمت ياسر عرفات إلى الإمام الخميني، وفقط عمامته كانت ستطيق المبادرة إلى لقاء بين مرونة الأول المذهلة ومبدأية الثاني الحاسمة. وحتى حين كانت تضطره الاستقطاباتُ الحادة إلى اللوذ بإحدى قطبي لحظة سياسية ما، تراه لا يستسلم للذة السُبات السياسي الدافئة بل يعمد إلى مساحات الشقاق فيفترش انقطاعاتها جسراً يتجاوز غباء الأشكال الهندسية الفجة للعقائد الحزبية المتزمتة نحو رحابة تلك الأوّليات التي لا تنفك تذكرنا بأن كلا الضفتين يمارسان «حردهما» المعرفي على الكوكب نفسه. هذه سيرته التي داوم عليها وأحب أن يُعرف بها وينسب إليها أرشيفُه، حتى حين!
من النافل استحداث الأسئلة التي تحاول أن تتلمس طريقها نحو خيط منطقي رفيع مفترض يربط بين الطائرة التي أقلته عام 1979 إلى طهران والطائرة الأخرى التي أتت به لاحقاً إلى الجنادرية (وكأن الطائرة الأخيرة صارت تقليعة إجبارية نحو الاعتدال). هذه الأسئلة التي تنهال على تجربته، شوطها الاخير بالتحديد، مطالبة إياها بالإتساق. لماذا استعصى على من كان يزوّج «بالحيل الشرعية» المختلفين في الدين أن يزاوج ماضيه الثائر مع حاضره الآذاري فيحجز لإرثه المقاوم، أو التحرري على أقل تقدير، مقعداً في «ثورة الأرز»، ألم يكن بالإمكان أن يتسع هذا الأرز لغصن يهوى النماء نحو الآخر السياسي خالقاً دينامية جسر يمتد بين فكي الانقسام السياسي الحاد. إنه سؤال هائل للسيد حول طريقة انخراطه وليس جهة الانخراط على الإطلاق. إنه توقع، مع المحبة، في أن يفد المثقف على السياسة بحمولة وازنة تقيه من شراهة أشرعتها المزمنة لبلع الرياح الأعتى، أياً تكن، وتضفي عليها مرجعيته التي تروّض نزعتها إلى الشطط. لماذا كان على السيد أن يفد عارياً من موروثه الشخصي إلى حركة سياسة أقل ما يقال فيها أنها كانت مشرعة على ما وراء البحار. استطراداً، هذا الاصطفاف نزع عنه الأهلية ليشغل المقعد المقابل للمطران جورج خضر في مائدة حوارهما المفتوحة لأنه فقد ثقة من يحاور باسمهم بشكل أو بآخر. في المقابل يحاجج كثيرون أنّ السيد هاني فحص لم يتفرّد في اصطفافه إلا في سياق تميّزه في ممارسة هذا الاصطفاف لأن الكثيرين من المثقفين الشيعة سبقوه إلى ذلك. النقاش إذا يجب أن يُقارب كلية. مثقف أم مثقف شيعي؟
المثقف الشيعي غالباً هو مثقف وحسب في التحليل الاخير، إلا أنه محكوم بعقدة غرامشي (أو «أنتي-غرامشي» على وجه الدقة) بحكم انتمائه إلى بيئة منظمة ومتماهية إلى حد بعيد مع مشروع سياسي عقائدي مُحكم. هذا المثقف الذي أتى ويأتي من الأطراف نحو بيروت لم يحمل معه حقداً طرفياً على المركز الذي استأثر بالمغانم بل طوّر استجابة انبهار يعتورها مركب نقص على الأغلب. تحضرنا هنا سلسلة مقالات جريدة «الأخبار» «شيعة السفارة» قبل عامين من الآن. كان هذا العنوان صادماً ولكنه قال الكثير من الحقائق، وبالوثائق. يفتح هذا الموضوع على ما لا يتسع له هذا المقال من مقاربات سوسيولوجية لديناميات الاجتماع المديني وحيثيات ارتطام الحواضر مع نطاقها الجغرافي والديموغرافي. ولّد هذا الارتطام تخلّياً مَرضياً للعديد من المثقفين الشيعة عن «قضاياهم» التي حملوا همها قبل انحسار اليسار والمد القومي فتلقفهم «الاعتدال» ومنحهم جوازات سفر ذمّية وفرض عليهم الجزية والانصياع لعلاقات ذيلية معه. ترى ذلك في المفارقة الكامنة في أن بعض أهم صقور الماكينة الإعلامية والصحافية للآذاريين هم من مثقفي الشيعة ونخبها وجزء مهم منهم هم من قدامي اليسار. شيعية هؤلاء المثقفين أكسبت نقمتهم طابعاً عينياً فلبست عباراتُهم، التي من المفترض أن تظل مفردات عائمة في معاجم النخبويين، كليشهات من «حواضر البيت» الشيعي اصطفت لتطلق الخطاب الذي تصدى للمقاومة. يبقى أن نُسجّل أن حضورهم فشل في أن يكون أكثر من «بهار» باهت شيعي للحالة الآذارية لأكثر من سبب وعجز عن إحداث الخرق المرجو. استئنافاً للسؤال السابق، وبالنظر إلى حصرية السيرة الاجتماعية للمثقف الشيعي مقابل مجموع المرجعيات العريض الذي يصدر عنه السيد هاني فحص، ليس بإمكان أي عاقل أن يختصر الراحل بحقيقة انكبابه على الثقافة من شيعيته لأن أداءه نتج من موقع أكثر جذرية من الهمّ الاجتماعي والاقتصادي. السيد هاني فحص ينطق عن عقل فقهي رحِب عودتنا عليه المدرسة الشيعية في أحايين كثيرة، وتجربته هي ما نتج من مقاربة أسئلة الداخل اللبناني بهذا العقل الذي حرص على أن لا يكون رتيباً. وبوضوح، أجد أنه من النزاهة أن ننحاز إلى الجزم بأن السيد هاني فحص كان مثقفاً تنطبق عليه عموماً خصائص الإنتلجنسيا اللبنانية ولا ينضوي بمطلق الأحوال تحت مجموع أعراض ما يمكن أن نصطلح عليه بمتلازمة المثقف الشيعي. يستحق هاني فحص أن نقاربه بغير الاستزلام وأن نفرد لتجربته فصلاً كاملاً يحكي قصة مثقف آخر لم يأنس بالسلطة ما يكفي ليجعله عضوياً ولم يشفَ منها ما يكفي ليتجرد فيمنح هذا الجيل اللبناني منظّره الأول.
* كاتب لبناني