خبرٌ مرّ منذ أسبوعين ولم يحظَ بتغطية اعلامية وافية، ولكن المختصين والمعنيين قرأوه باهتمامٍ بالغ: أعلنت إيران قيامها بأوّل تجربة حيّة لنظام الدفاع الجوي «بافار-373»، الذي يُقال انّه يوازي - أو استنساخ عن - نظام «اس 300» الروسي. في الوقت نفسه، عرضت وسائل الإعلام الايرانية أوّل صورة لأحد الصواريخ الخاصة بنظام «بافار»، وهو يشبه الى حدّ بعيد الصاروخ المستعمل في «اس 300». تمثّل التجربة بدء اكتمال الحلقة الأخيرة في منظومة الدفاع الجوي الإيرانية، والتي تتكوّن من أنظمة عدّة تعمل على مديات عدة، بعضها تطويرٌ لأسلحة اميركية قديمة، وبعضها الآخر استنساخٌ لرادارات وصواريخ اجنبية، ومنها ما هو مزيجٌ بين الاثنين.
تقدير القوّة العسكرية في إيران مهمة صعبة إلى حدٍّ بعيد، فالعديد من المشاريع تحاط بالسرية، ولا يكشف عنها الا بعد اكتمالها، فيما تزيد دعاية وزارة الدفاع من الغموض، فيتمّ عرض بعض النماذج البحثية والتجريبية على انّها أنظمة قد دخلت طور الانتاج، ويتمّ الخلط بين المنجزات الفعلية والدعاية التي تهدف الى التضليل. وكثيراً ما تفسّر الصحافة الايرانية بيانات الجيش بصورةٍ خاطئة (والاعلام، بشكل عام، معروفٌ بجهله في القضايا العسكرية وتغطيته القاصرة لهذه المواضيع)، فتساهم في تغذية الالتباس.
ما نعرفه هو أنّ الولايات المتحدة وإسرائيل كانت تخطّط جدياً لحربٍ ضدّ إيران، أو أقلّه حملةً جوية لضرب البرنامج النووي الإيراني وأهداف عسكريّة اخرى، منذ أيّام غزو العراق. حتّى أنّ إحدى كبريات شركات الطاقة في العالم تلقّت تقاريراً من الاستخبارات الروسية، عام 2006 تؤكّد أن الحرب حاصلة في الأشهر المقبلة، فما الذي أجّل المواجهة طوال هذه السنين حتّى أصبحت سيناريو مستبعداً وغير محبّذ بالنسبة للجيش الأميركي، على الرغم من الاحتجاجات الإسرائيلية؟

شروط اللعبة

لو كان الهدف هو عقد مقارنة عسكرية بين قدرات إيران والقدرات الأميركية، لكانت الإجابة سهلة وواضحة: لا يوجد أيّ نوعٍ من التكافؤ بين موارد وامكانيات البلدين، لا من ناحية الميزانية ولا المستوى التكنولوجي ولا التجهيز والمعدّات.
أكثر الدبابات الإيرانية قديمة، عمرها أكبر من عمر الثورة، والأمر نفسه ينطبق على سلاح الطيران. آخر صفقة عسكرية جدية عقدتها إيران مع الخارج لتحديث الجيش كانت في بداية التسعينيات، حين اشترت عدداً من دبابات «تي 72» وطائرات «ميغ 29» من روسيا - إضافة الى غواصتين - هي «أحدث» الأسلحة المستوردة في ترسانة إيران التقليدية اليوم.
تملك إيران رادارات تسمح بتتبّع الطائرات الخفيّة والأقمار الصناعية المنخفضة المدار

من ناحيةٍ أخرى، فإنّ المواجهة مع إيران لا تنطوي على حربٍ مباشرة عبر حدود البلدين، بل إنّ على المهاجم ارسال قواته الى منطقة تبعد آلاف الكيلومترات عن البرّ الأميركي، ونشرها على مسافة طيران من إيران، وتأمين طرقٍ آمنة للتزويد الجوي بالوقود، والسيطرة على بحيرة ضخمة - هي الخليج العربي - يقلّ عرضها في كثير من الأماكن عن المئتي كيلومتر وعمقها عن الخمسين متراً. دخلت البحرية الأميركية الخليج في الثمانينيات، مستغلّة ظروف الحرب بين العراق وايران، وفرضت نفوذها بالقوة بعد سلسلة مناوشات تحوّلت الى حربٍ خاطفةٍ ضدّ البحرية الإيرانية، كسبتها القوات الاميركية بسهولة («عملية فرس النبي»). والعراق نفسه لم يكن راضياً عن هذا التمدّد الاميركي، وإن كان موجّهاً ضدّ عدوّه، فضربت طائرة عراقية عام 1987 الفرقاطة الأميركية «ستارك» بصاروخ «اكزوسيت» فرنسي الصنع، موقعة اكثر من 35 قتيلاً أميركياً.
قالت الحكومة العراقية إنّ الهجوم قد حصل بالخطأ، ولكنّ العديد من المحللين اعتبروا الصاروخ رسالةً عراقية لثني أميركا عن التواجد العسكري في تلك المنطقة الاستراتيجية - خصوصاً مع وجود ادعاءات بأن الطيار لم يعاقب، بل تمت ترقيته اثر «الحادثة» (فرضت الولايات المتحدة على العراق عام 2011 انشاء صندوقٍ بقيمة 400 مليون دولار مخصّص لدفع تعويضات لضحايا «ستارك» وأسرى الحرب الأميركيين خلال الغزوات المتعددة التي شنتها واشنطن ضد العراق). أثناء حرب الخليج عام 1991، صار الوجود العسكري الأميركي مكرّساً وله قواعد دائمة وبنية دعم متكاملة، بعد عقد اتّفاقات «حماية» شبه استعمارية مع كلّ دول الضفة الغربية للخليج.
بهذا المعنى، فإنّ هناك تشابهاً ما بين حالتي إيران والصين، إذ إنّ البلدين يضعان نصب أعينهما هدفاً عسكرياً محدداً: مواجهة هجومٍ غربيّ، يرفده حلفاء محليون، ومنعه من بسط السيطرة الكاملة على المجال البحري الذي يحيط بالبلد وحصاره وضربه.
الفارق هو أنّ الصين تتوقّع مواجهة محدودة وعنيفة في بحر الصين الجنوبي، في اطار التنافس على النفوذ، ولكنّها تعرف ايضاً أنّ هكذا اشتباك لا يمكن أن يتطوّر الى اجتياحٍ لبرّ الصين أو الى هجومٍ يهدف لقلب النظام وتدمير اقتصاد البلد، نظراً الى عامل الردع النووي الّذي تحوزه الصين ولا تملكه إيران – بعد، وهو تحديداً السيناريو الذي تريد أميركا منعه.
لو كانت ظروف المواجهة مختلفة، ولم يكن الخليج ساحة الحرب المحتملة، لما شكّلت أغلب أنظمة التسليح الإيرانية تهديداً للقوات الأميركية. إيران، مثلاً، ركّزت على استيراد الصواريخ الحديثة المضادة للسفن من الصين (من فئات «سي-801» و«سي-802») وتطويرها وبناء نسخ جديدة منها يفوق مداها الـ200 كيلومتر وبنظم توجيه متعددة.
هذا لا يعني شيئاً كثيراً لو كانت المواجهة تجري في عرض المحيط، حيث تقوم حاملات الطائرات والمدمرات التي ترافقها بإنشاء منطقة تحريم تمتدّ على أكثر من 400 كيلومتر في كلّ الاتجاهات، لا يمكن أن يعبر ضمنها زورق أو طائرة، ناهيك عن اطلاق صواريخٍ باتجاه السفن الأميركية. في الخليج، الوضع يختلف، فالمسافة بين البرّ الايراني وقاعدة الأسطول الخامس في البحرين تقلّ عن 190 كيلومتراً، ما يعني أن أية قطعة اميركية في الخليج تقع ضمن مدى الصواريخ التي تطلقها الزوارق السريعة والطائرات، اضافة الى عددٍ ضخمٍ من المنصات الأرضية المتحركة التي تُنشر على طول الساحل الشرقي للخليج.
بعد حرب يوغوسلافيا
ذهب الروس خطوة أبعد في
تطوير الرادارات

بالمعنى نفسه فإنّ الغواصات الصغيرة، التي تنتجها الأحواض الايرانية بالعشرات، لا قيمة لها اطلاقاً في المياه الزرقاء، حيث تجول الغواصات الاميركية مع الطائرات في «فرق صيد» لقمع هذا النوع من التهديدات، ولكنّها - كالألغام البحرية - تصير سلاحاً مخيفاً في الخليج الضحل، الذي يعجّ بالأهداف ولا يعمل فيه السونار بكفاءة - اضافة الى أنّ الغواصات الاميركية الضخمة لا تقدر اصلاً على العمل والغطس في أغلب أجزاء الخليج.
هذه المعادلة تنطبق ايضاً على القواعد الاميركية في الدول المجاورة وترسانة ايران الصاروخية. يقول بعض الايرانيين إنّ صاروخ «فاتح 110»، الذي يمتاز بالدقة وقد صدرت منه ثلاثة اجيالٍ على الأقل حتى الآن، يسمّى «صاروخ لبنان» بين الإيرانيين، لأن مداه ومواصفاته تناسب الساحة اللبنانية بشكلٍ كبير، كأنّه صُمّم لأجلها، غير أنّ «الفاتح» يضع ايضاً القواعد الاميركية في قطر والامارات والسعودية تحت تهديده (اضافة، بالطبع، الى المنشآت النفطية ومرافق التصدير التي تجاور هذه القواعد)؛ وايران تحتفظ، اضافة الى الفاتح، بأعداد هائلة من صواريخ «شهاب 2» و«شهاب 3»، بعد سنوات من تراكم الانتاج، والتي يمكن استعمالها في موجات كبيرة لإغراق الدفاعات الصاروخية - سواء في الخليج أو في افغانستان.

حربٌ بلا حدود

يوجد عاملان يلخّصان أسباب التردّد الأميركي في خوض المغامرة العسكرية ضد إيران: أوّلاً، صعوبة حصر الحرب وابقائها ضمن الحدود التي تريدها اميركا. وثانياً، لأنّ الحرب ضدّ إيران تهدّد بأن تكون المواجهة الأولى التي يخوضها الجيش الاميركي ضمن شروط «الحرب الحديثة»، بمعنى وجود خصمٍ لا ينتمي جيشه للقرن الماضي، بل يعرف مسبقاً نقاط القوة الاميركية ويحضّر الوسائل التقنية لإبطال مفعولها. بتعبير آخر، فإنّ حرباً ضد إيران لن تكون ميداناً مفتوحاً لاستعراض التكنولوجيا الأميركية المتفوّقة، بل إنّ الجيش الاميركي يعرف انّه سوف يدخل الى ساحةٍ يتمّ التشويش فيها على نظام «جي بي اس»، وقد لا تتمكن الطائرات من دون طيار من الاتصال بقواعدها عبر الأقمار الصناعية، بل إنّ اميركا قد تُحرم من الاستطلاع الفضائي والالكتروني - وهذه كلّها أركان أساسية في عقيدة الحرب الأميركية اليوم (من شبه المستحيل، مثلاً، استعمال الذخائر بعيدة المدى في غياب نظام الجي بي اس، فيصير البديل الوحيد هو التوجيه باللايزر أو عبر الكاميرات، ما يستلزم أن تكون الطائرة القاذفة، أو طائرة من دون طيار، في جوار الهدف وضمن مدى الدفاع الجوي).
هذه المخاوف ليست مبالغات أو تقديرات، بل هي كلّها مبنيّة على التجربة، وعلى قدراتٍ تمّ اثباتها في الميدان. على سبيل المثال، في الشهر نفسه الذي تمكّنت إيران فيه من التحكّم بطائرة تجسس أميركية «خفية» وانزالها وأسرها العام الماضي، تفاجأ الأميركيون حين قام الإيرانيون بـ«اعماء» قمر صناعي للتجسس كان يمرّ فوق إيران، عبر شعاع لايزر ضرب عدسته على الأرجح. العبرة من الحادثتين هي في أنّ إيران صارت تملك رادارات ووسائل استطلاع تسمح لها بتتبّع الطائرات الخفيّة والأقمار الصناعية ذات المدار المنخفض، وهذا - لمن يخطّط لحرب - يثير الكثير من المخاوف. قاذفات «البي-2» الأميركيّة، التي تعتبر رأس الحربة في أي حملة جوية، بطيئة وغير قادرة على المناورة، وتعتمد بشكلٍ شبه كامل على ميزة الخفاء حتى تنسلّ الى الأجواء المعادية وتضرب الدفاعات الجوية؛ وحين تثبت إيران قدرتها على قهر تكنولوجيا الخفاء، تصير أغلى قاذفة في العالم - تملك اميركا أقلّ من عشرين نسخة منها - هدفاً سهلاً للدفاع الجوي.
من جهةٍ أخرى، فإنّ اميركا اعتادت على جيوش «عالمثالثية» تهدّد وترغي وتزبد، ثم يتبيّن انّها هيكلٌ هشّ قائمٌ على الدعاية ويخلو من الفعالية العسكرية، إلّا أنّ انتشار الميليشيات المدعومة من ايران، واداءها في لبنان وغزة والعراق، يرسمان الحدّ بين الدعاية والجدّ، ويعطيان صورةً لا يمكن دحضها عن المستوى القتالي الذي ستواجهه أية قوة غازية. حين ضُربت البارجة الإسرائيلية «هانيت» عام 2006 بصاروخٍ ايراني الصنع، يقول العديد من الخبراء، تأجّلت الحرب على إيران لأعوام. كان العرب أوّل من أدخل الصواريخ المضادة للسفن الى التاريخ العسكري، حين تمكّن زورقا صواريخ مصريان من اغراق المدمّرة الاسرائيلية «ايلات» بصواريخ «ستيكس» الروسية القديمة في تشرين الأول من عام 1967. ضرب «ايلات» هزّ العقيدة العسكرية للقتال البحري على مستوى العالم، بعد أن فهم المخططون أنّ هذه الصواريخ الجديدة تمكّن قارباً صغيراً من تدمير سفنٍِ تفوقه حجماً بأضعاف، إلّا أنّ العرب لم يتمكنوا من تكرار الانجاز ضدّ اسرائيل لأربعين سنة، حتى عام 2006. الفكرة ذاتها تنسحب على العبوات التي أرعبت القوات الأميركية في العراق، والتكتيكات التي أثخنت الاسرائيليين في غزّة ولبنان، واداء القوى المدربة إيرانياً في سوريا.
أخيراً، فإنّ ظروف المواجهة تمنع اميركا من التخطيط لضربةٍ محدودة أو احتوائية، تُعجز إيران عن الردّ، كما كتب سيمور هيرش في تحقيقٍ عن الموضوع منذ سنوات، اكتشف العسكريون الاميركيون أنّ حصر الحرب ضدّ إيران - كما جرى مع العراق عام 1991 - مستحيل. لا يمكن ضرب المواقع النووية الايرانية من دون تأمين القواعد الجوية في المنطقة، وهذا يستلزم ضرب منصات الصواريخ الايرانية، ولا يمكن تنفيذ ذلك بينما الخليج يعجّ بالصواريخ المضادة للسفن... هكذا، رويداً رويداً، بدأت أهداف الحملة الأميركية بالاتّساع لتتضمن غزواً للسواحل الايرانية وتدميراً لعدد كبير من المنشآت العسكرية في البلد، فتحوّلت الحملة الجوية الخاطفة الى خطّة حربٍ شاملة بمئات وآلاف الأهداف، حتى وصل الجنرالات الاميركيون الى التفكير جدياً في استعمال القنابل النووية التكتيكية لاخماد دفاعات إيران، بحسب مصادر سيمور هيرش.
هكذا، تصير الحرب ضدّ إيران رهاناً خطيراً، وبعض الباحثين الاميركيين (خصوصاً اولئك القريبون من اسرائيل) حاولوا تشجيع الحكومة الاميركية على ضرب ايران، مؤكّدين أنّ الدفاعات الايرانية لن تشكّل خطراً على الاسطول الاميركي المتفوّق، ولكنّ أية دولة في العالم لن تغامر بحربٍ حين يكون ثمن الخطأ وسوء التقدير فيها اغراق حاملات طائرات، أو تدمير قواعدٍ تحوي آلاف الجنود الأميركيين، فارتفاع كلفة الرهان يسبب التردد. كلّ تأجيلٍ للحرب على ايران أدّى الى زيادة صعوبتها وتعقيدها، فضرب ايران عام 2004 كان أسهل من ضربها عام 2007، وحربٌ ضدّ ايران عام 2007 لا تُقارن بحربٍ قد تجري اليوم، بعد أن طوّرت ايران أسلحة وقدرات جديدة، وعملت خطوط انتاجها لسنوات على انتاج ومراكمة الصواريخ، التي يزداد مفعولها ودقتها مع كلّ سنة (في الأعوام الأخيرة، صار الايرانيون يستبدلون الرؤوس الحربية القديمة في صواريخ «شهاب 3»، مثلاً، برؤوس جديدة أكثر دقّة وفاعلية). من هنا كان الاسرائيليون يستعجلون الأميركيين لضرب إيران، محاججين بأنّ كلّ تأخير للمواجهة سيزيد من صعوبتها وتعقيدها، الى أن تصير غير ممكنة - والإيرانيون بدأوا بعرض الصواريخ الجوالة التي يصممونها، وهي كالتطورات السابقة، ستدخل عنصراً جديداً يغيّر المعادلة بأكملها ما أن تصير في الخدمة.

مثالٌ عن تحضيرات إيران: كشف طائرات «الشبح»

بإمكان دول العالم الثالث أن تشتري أفضل تكنولوجيا يصنعها الغرب أو روسيا، وهي لن تُقلق اميركا بمقدار رادارٍ (أقلّ كفاءة) ينتجه البلد بقدراته الذاتية، فكلّ الأنظمة التي تُصدّر معروفة المواصفات والمزايا، والوسائط الالكترونية على متن الطائرات مبرمجة مسبقاً لرصد موجات الرادار المعادي وتقليدها والتشويش عليها. ما يخيف الجيش الغازي هي الأمور التي لا يتوقّعها، والرادار الذي لا يعرف بوجوده، والوسائط الدفاعية التي لا يتحضّر لها. في الحرب الحديثة، بإمكان بطارية دفاع جوي، لو عملت بحرية، أن تسقط سرباً كاملاً في دقائق، والعروض العسكرية الإيرانية تلعب دائماً على فكرة التخويف من المجهول وعرض أنظمة مختلفة ومتنوّعة - وان كانت تؤدي المهمة ذاتها.
تكنولوجيا الخفاء مثالٌ واضح على كيفية الاستثمار العسكري في إيران. تمكّنت اميركا، عبر حروب عدّة، من تحويل طائرات «الشبح» الى عامل تفوّقٍ نوعي لا رادّ له، فقامت طائرات «اف 117» (النموذج الأول لطائرات التخفي) بضرب الرادارات العراقية في الغارات التي أطلقت حرب الخليج الثانية، ولعبت الطائرات نفسها - اضافة الى قاذفات «بي 2» - دوراً محورياً في حملات يوغوسلافيا والعراق 2003، من جهةٍ اخرى، جرى تطوير وسائل تكنولوجية عدّة لإبطال ميزة الخفاء، وايران ركّزت بحوثها وتصنيعها في هذه المجالات تحديداً.
الوسيلة الأولى تتعلّق بنوع الرادار: اكتشف الروس سريعاً أنّ تصميم طائرات الشبح مخصّصٌ لتلافي نوع محدّد من الرادارات، هي الرادارات عالية التردد ذات الموجة الرفيعة (اكس-باند)، وهي التي تستعمل على متن الطائرات المعادية وفي رادارات توجيه الصواريخ، هذا التردّد ينتج شعاعاً رادارياً «ضيّقاً»، عرضه بالسنتيمترات، وهو مثاليّ لكشف الأهداف بدقّة ولتوجيه الذخائر.
فبدأ الروس بالبناء على تقنية الموجات العريضة (ك-باند والـ -باند وفي اتش اف - والأخيرة «موجة مترية»، أي أن عرضها يفوق المتر) التي يستعملها الروس منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ولكنّ عيبها كان في نقص الدقّة وعدم امكانية استخدامها للتوجيه (كلّما عرضت الموجة تشتّت على المسافات البعيدة، وأعطت احداثيات غير دقيقة عن الهدف). ميزة الموجة العريضة هي أنّ حجمها الكبير يجعل تصميم طائرة الشبح من دون فائدة، فأسطح الطائرة مخصّصة لتشتيت وحرف وامتصاص الموجات السنتيمترية الصغيرة، ولكنّها لن تمنع شعاعاً عريضاً من الارتداد الى المصدر وكشف الهدف.
حين أُسقطت طائرة «اف-117» فوق يوغوسلافيا، عزا العديد من الخبراء الأمر الى استعمال اليوغوسلاف رادارات روسية قديمة (الـ-باند - وهي موجة ديسيمترية) في نظام «سام 3» الذي أسقط الطائرة. بعد حرب يوغوسلافيا، ذهب الرّوس خطوةً أبعد في تطوير جيلٍ جديد من الرادارات المترية الحديثة تُقارن دقّتها برادارات التردّد العالي، وصار هذا النظام يدمج في كلّ بطارية «اس 300» تشغّلها روسيا. ايران أظهرت، منذ سنوات، أشكالاً مختلفة من رادارات الموجة العريضة، أشهرها «مطلع الفجر 1» و«مطلع الفجر 2»، والأخير يشبه الى حدٍّ بعيد رادار «النيبو» الروسي الذي يعتبر «كاشف الخفاء» في بطاريات «اس-400».
ويدّعي جنرالات إيرانيون أنّ هذه الرادارات أضحت منتشرة الى درجة تغطية المجال الجوي الإيراني بشكلٍ شبه كامل.
التيار الثاني في محاربة تقنيات الخفاء يدعو الى اعتماد المعدّات البصرية بدلاً من الرادار، فمع تطوّر الكاميرات الحرارية الحديثة، اكتشف الطيارون أنّها تمثّل بديلاً ممتازاً من الرادار في الكثير من الحالات، فهي وسيلة رصد هامدة (لا يعرف العدوّ انّها تلاحقه)، وقد اختبر الروس، منذ الثمانينيات، أنّ الكاميرات الحديثة أضحت قادرة على رصد القاذفات الأميركية من مسافاتٍ بعيدة - تفوق الـ90 كيلومتر - من دون الحاجة الى تشغيل الرادار، خصوصاً على الارتفاعات العالية حيث يكون الفارق الحراري كبيراً بين الطائرة والجو البارد المحيط بها. لا توجد دولة في العالم اليوم تعتمد الأنظمة البصرية كإيران، فهي تدمجها بمختلف أنظمة الدفاع الجوي، وتطوّر باستمرار أنظمةً جديدة وخفيفة، قادرة على التقاط الأهداف وتوجيه الصواريخ والمدافع الرشاشة (وهنا ابتكارٌ ايرانيّ آخر، اذ إنّ المؤسسة الدفاعية انتبهت الى أنّ المدفعية المضادة للطائرات، التي اعتبر الكثيرون أنّ زمنها قد ولّى، بإمكانها أن تصير بالغة الفعالية اذا ما أوصلت برادار حديث وعملت ضمن مجموعة، باستعمال برامج كمبيوترية تقدر على توجيه الموجة النارية وتشكيلها بدقّة بحيث تصنع «حائطاً» - أو، بالأحرى، مربّعاً - من الشظايا في السماء حول الهدف، فتصبح هذه الوسائط مثالية لإسقاط الصواريخ الجوالة وطائرات الاستطلاع وحماية النقاط الحساسة).

خاتمة

بنت إيران قدرتها الردعية على تجنّب منافسة اميركا في مضمارها، فهي تعرف سلفاً انّها لن تتمكن يوماً من مواجهة قوة غربية في الجوّ أو في البحر، ومن هنا انبثقت تقنيات الحرب اللامتكافئة التي ترمي الى استغلال الثغرات وضرب العدوّ بوسائل غير تقليديّة، كالصواريخ مثلاً. انهمكت اميركا، منذ سنوات، في تطوير وسائط دفاعية في محاولة للوقاية من صواريخ روسيا والصين وكوريا وايران، لكنّ تقريراً نشرأخيراً في مجلة «الايكونوميست» يشرح صعوبة هذا الهدف. الولايات المتحدة ملأت العالم ضجيجاً بأخبار «الدرع الصاروخية»، ولكن قلة من الناس تعلم أنّ برنامج GMD، الذي كلّف أكثر من 40 مليار دولار، قد فشل في كلّ التجارب الاعتراضية الخمس التي أجريت على النظام منذ عام 2008. تقول الـ«ايكونوميست» أنّ حوالى الـ100 مليار دولار انفقت في العقد الأخير على برامج مماثلة لم تقرّب اميركا من الغاء خطر الصواريخ، بل أثبتت أنّ الهدف بحدّ ذاته قد يكون مستحيلاً - وهي الخلاصة التي عبّر عنها العديد من الجنرلات الاميركيين الذين عملوا في هذا الميدان. المسألة لا تقتصر على الصعوبة التقنية (اعتراض رأس حربي - أو رؤوس متعددة - بحجم خزانة صغيرة يسبح في الفضاء بسرعة ماخ-8 وما فوق)، بل هي مرتبطة ايضاً بسهولة تضليل الأنظمة الدفاعية المعقّدة بوسائل بسيطة، فالصواريخ الروسية مصممة اليوم كي تطلق عشرات الأهداف الوهمية حين ينفصل الرأس الحربي عنها في الفضاء الخارجي، كلها تماثله في الحجم وتسير بالسّرعة نفسها، ما يجعل التمييز شبه مستحيل، وكلّما طوّرت اميركا وسائل اعتراض جديدة، تطلق روسيا اجراءات مضادة تلغي مفعولها.
هذا النقاش العسكري والتقني يمثّل «البنية التحتية» لتطوّر العلاقات بين إيران والغرب، وهو ما يحدّد، إلى درجة كبيرة، ديناميات المواجهة والعقوبات، والحوار والتوافق، والتنافس والصفقات؛ ومن يجهل هذه الخلفية يصير من السهل عليه تصديق نظريات المؤامرة التبسيطية والسرديات عن «اللعبة» التي يلعبها الإيرانيون والأميركيون في الكواليس، بينما يتظاهرون بالعداء في العلن، والهدف – بالطبع - هو خداعنا نحن العرب!
نظراً الى حجم الاقتصاد الاميركي وقدراته التكنولوجية الهائلة، لا يمكن لأحدٍ في العالم أن يخيف اميركا بحجم جيشه أو عبر بناء أساطيل جوية وبحرية على النمط الاميركي، ما يخيف اميركا هي الجيوش التي تملك خبرةً قتالية، والتي لها عقيدة خاصّة بها، تستفيد من الميزات المحلية والجغرافية، وتصمّم نمطها القتالي خارج الاطار الغربي التقليدي. في هذا المجال، يمكن لنا أن نتعلّم الكثير من تجربة إيران.
* من أسرة «الأخبار»