استندت الحركة الصهيونية في مشروع غزوها لفلسطين العربية على السياسة الإمبريالية البريطانية التي سهّلت وصول أعداد متتالية من يهود العالم لفرض واقع بشري على الأرض، وعلى أنظمة عربية خاضعة للهيمنة الاستعمارية، وعلى التشكيلات المسلحة (عصابات الأرغون وشتيرن وسواها) في عمليات الاغتيال لقادة بارزين في المجتمع العربي، ولمسؤولين دوليين، وفي الإعدام الجماعي والمذابح لأبناء البلد بهدف إفراغ الأرض من أصحابها قتلاً وتهجيراً، من أجل إحلال الغزاة الآتين من قارات العالم المختلفة مكان السكان الأصليين.
بعد الإعلان الرسمي عن تأسيس الكيان/ الثكنة، على جماجم وأشلاء ودماء المواطنين العرب في أيار/ مايو 1948، تحولت تلك العصابات الفاشية المسلحة لتصبح نواة للجيش، ولتبدأ حكومة العدو المحتل بسنواتها الأولى العمل على إنشاء أجهزة أمنية متخصصة ذات مهمات محددة. لذلك، بدأت تظهر الأجهزة الاستخبارية الثلاثة وهي جهاز الاستخبارات الخارجية «الموساد» الذي برزت شهرته عالمياً بعد عمليات الاغتيال والتصفية لعدد من المناضلين الفلسطينيين والعرب والأمميين في بلدان عديدة، وجهاز المخابرات الداخلية» الشاباك»، وشعبة الاستخبارات العسكرية «امان» التي تحملت بشكل أساسي كل ما يتعلق بالأنشطة التجسسية وتزويد مراكز القرار السياسية والعسكرية بالمعلومات التي تحصل عليها. منذ ثلاثة عقود، أنشأ جهاز «أمان» قسماً متخصصاً/ احترافياً، في مجال التجسس الالكتروني، أطلق عليه اسم» الوحدة 8200». هذه الوحدة التي أصبحت كل عائلة تحلم بأن يكون ابنها أو ابنتها في صفوف تشكيلاتها لاعتبارات تتعلق ببعدها عن ساحة المعارك/ الاشتباك المباشر، ولأن من تنتهي خدمته فيها يعمل في مجال «الهاي تك»، وشركات صناعة الأجهزة التكنولوجية التي تدخل في عالم الحاسوب. الجنرال المتقاعد «اوري ساغيه»، الرئيس السابق لجهاز «امان» اعترف بوجود مثل هذه الوحدة، التي «اعتبرها من أهم الوحدات الاستخبارية في الدولة العبرية»، كاشفاً في الوقت ذاته عن بعض أهداف الجهاز الذي ترأسه «المساهمة في تقديم رؤية استخبارية متكاملة مع المعلومات التي توافرها المصادر البشرية القائمة على العملاء». لهذا تركز العمل في هذا المجال على: الرصد، التنصت، التصوير (الأفراد، التجمعات البشرية، والمدن)، تحديد بنك الأهداف، وتجنيد العملاء. ولهذا فإن كل الاتصالات التي تتم عبر محطة «أورانيم» المقامة منذ أكثر من أربعة عقود في منطقة «النقب» جنوب الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، يجري تصنيفها وتحليلها في الوحدة 8200، وتعتبر هذه المحطة من أكبر مراكز الرصد والتنصت عالمياً.
في الحادي عشر من الشهر الجاري بعث 43 جندياً ومجندة ممن خدموا في الوحدة 8200 «قوات الاحتياط» رسالة إلى كل من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ورئيس الأركان بني غانتس ورئيس الاستخبارات العسكرية آفيف كوخافي يعلنون فيها «رفضهم الخدمة في سلاح الاستخبارات لكونه جزءاً لا يتجزأ من السيطرة العسكرية على المناطق _ الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام67 _ وأنه لا توجد رقابة على كيفية جمع المعلومات الاستخبارية ولا على كيفية استخدامها ضد الفلسطينيين. عندما انضممنا إلى الوحدة 8200 كنا ننوي الدفاع عن أمن إسرائيل وحمايتها، غير أننا اكتشفنا اختلافاً في الهدف، فاكتشفنا من خلال عملنا، أن الهدف الرئيس هو ترسيخ الاحتلال للفلسطينيين، وليس للدفاع عن أمن إسرائيل، إن جمع المعلومات عن الفلسطينيين مؤذٍ للأبرياء، يُستخدم وسيلة لابتزازهم، وينتهك خصوصيتهم، ومن أجل المطاردة السياسية، وزرع الفرقة داخل المجتمع الفلسطيني بواسطة تجنيد المتعاونين، وتحريض جزء من المجتمع الفلسطيني ضد نفسه. لذا، فإننا، نحن الموقعين أدناه، غير قادرين على مواصلة هذا العمل، ونعلن رفضنا الخدمة في جهاز يلحق الأذى بمليوني شخص». ومن بين الموقعين على الرسالة ضابط برتبة رائد وضابطان برتبة رقيب في الاحتياط وعناصر استخبارية أخرى بينهم ضباط قاموا بمهمات في فرق استخبارية.

لا أخلاق لدى المحتل

صحيفة «ميدل ايست آي» الإسرائيلية نشرت تقريراً في عددها الصادر يوم الثلاثاء 16 أيلول كشفت فيه عن شهادات لبعض الجنود والمجندات الذين وقعوا على الرسالة/ الموقف من الوحدة 8200، التي تعتبر من أهم وأخطر الأجهزة في استخبارات العدو، عن كيفية تجنيد العملاء وتوريطهم عبر الابتزاز لتقديم المعلومات، «إذا كنت شاذاً جنسياً وتعرف أحداً ما يعرف شخصاً آخر مطلوب لدى الجيش الإسرائيلي، فإن المخابرات الإسرائيلية سوف تجعل حياتك بائسة، وإذا كنت بحاجة إلى علاج طارئ في المستشفيات الإسرائيلية أو في الخارج فسوف تبحث عنك المخابرات وستتركك تموت قبل أن تسمح لك بالسفر للعلاج إلا إذا أدليت بمعلومات عن ابن عمك المطلوب لديها، حتى وإن كنت شخصاً ليس لك علاقة بأي عمل عدائي لكنك تثير اهتمام الوحدة 8200 فسوف تكون مستهدفاً كذلك».
وذكرت الصحيفة في تقريرها أن «الوحدة 8200 التي عمل فيها سابقاً الجندي الذي كتب هذه الشهادة ليست مجرد أي وحدة في الجيش، فسابقاً كانت الوحدة مسؤولة عن تجميع معلومات استخباراتية عن الإشارات الخاصة بالاتصالات، ثم أصبحت أكبر وأرقى وحدة في الجيش الإسرائيلي».
اصبحت «الوحدة» اكبر
والاقى وحدة في الجيش الأسرائيلي

وأضاف التقرير «لدى الوحدة قدرة على مراقبة جميع الاتصالات الهاتفية أو المعلومات الإلكترونية في أي بقعة في الشرق الأوسط وربما أبعد من ذلك، وكذلك تخزين هذا الكم الهائل من المعلومات ومعالجته بطريقة متطورة للغاية بحيث يمكن استخدامها لإجراءات عسكرية دقيقة، من ضرب موقع سري في سوريا لعمليات القتل المستهدف في قطاع غزة».
إحدى المجندات الرافضات للخدمة قالت: «كنتُ شاهدةً على عملية اغتيال خاطئة، فقد جرى تشخيص الهدف بصورة غير دقيقة، ما أدى إلى قتل طفل بريء». مجند آخر يقول في شهادته: «إن ما نجمعه من معلومات غير أخلاقي، مثل، المعلومات المتعلقة بالأزمة المالية للشخص، ومغامراته الجنسية والعاطفية، ومرضه، وعلاجه، كل هذه المعلومات تحولهم إلى عملاء».

ردود فعل غاضبة

صباح يوم 12 أيلول نشرت صحيفة «هآرتس» مضمون الرسالة، لتنطلق على إثرها حملة رفض وإدانة لتلك المواقف التي أعلنها الموقعون على الرسالة. معظم الأحزاب والقوى السياسية وقادة الجيش ساهموا بحملة التنديد، بل إن بعض السياسيين والعسكريين والكتاب طالبوا بطرد الموقعين من الجيش ومحاكمتهم فوراً وسجنهم. نتنياهو ووزير الحرب ورئيس الأركان نددوا بشدة بالرسالة. أما وزير النقل يسرائيل كاتس، فقد اقترح: «إرسال الرافضين للخدمة كحراس للمعسكرات في النقب». رئيس لجنة الشؤون الخارجية والأمن بالكنيست زئيف الكين، يصف نتائج دعوة الرافضين للخدمة بأنها «غرس سكين في ظهر الجيش». أما القائد السابق للوحدة الجنرال (احتياط) حنان غيفن فقال: «إن الرد عليهم يجب ان يكون في التحقيق معهم من قبل الشاباك أو الشرطة العسكرية».
الكاتب حاييم شاين قرأ الرسالة بعين وعقل «المؤامرة» فكتب تحت عنوان: «في نهاية المطاف كل شيء سياسة» مقالاً نارياً هاجم من خلاله رافضي الخدمة في وحدة الاستخبارات. يرى شاين: «ان اليسار الراديكالي في اسرائيل نجح بزرع مجموعة ليست صغيرة من العملاء الصامتين في منظومة المخابرات السرية في الجيش الاسرائيلي. وهؤلاء، الذين لم يعرفوا أصلاً بأنهم عملاء، تم تفعيلهم بذكاء، وليس صدفة، ان ذلك يتم في نهاية عملية الجرف الصامد في سبيل تشويه سمعة إسرائيل ومساعدة لجان التحقيق باكتشاف نشاطات غير قانونية ظاهرياً، تم تنفيذها خلال العملية من قبل الاستخبارات الاسرائيلية. كما نجح الذين نظموا هذه الرسالة والمحرضين بإثارة الفتن والاضطرابات داخل الوحدة 8200، واثارة شك جنود الوحدة بأهمية وحيوية خدمتهم».

تشققات في جدار الكيان/ الثكنة

ليست هي المرة الأولى التي تبرز داخل المؤسسة العسكرية/ الأمنية تلك الاحتجاجات. فقد برز اسم الجنرال ايلي جيباع قائد لواء المدرعات أثناء حرب لبنان الأولى الذي رفض تنفيذ خطة اقتحام بيروت، لأنها «ستزيد من توريط الجيش»، مما أدى لفصله من الخدمة العسكرية. بالإضافة لعدد من الجنود الذين رفضوا أداء الخدمة العسكرية في الضفة الغربية، لأنها «منطقة محتلة»، وكذلك، مجموعة من الطيارين، رفضوا تنفيذ أوامر القصف لـ «مناطق وأهداف مدنية».
إن قراءة هادئة لتلك الظواهر ستكشف لنا عن أزمة أخلاقية _ ولو بحدود معينة _ بدأت تظهر لدى بعض العسكريين والأمنيين والمفكرين، محصورة بعدد محدود من «النخب» إذا صح التعبير، ما انعكس في بعض الكتابات، كما ظهر في افتتاحية صحيفة «هآرتس» تحت عنوان لنصغي للرافضين: «صحيح أن الرفض المنظم قد يقوض صورة الجيش ويجبي ثمناً ثقيلاً. فرفض شخص واحد للخدمة لأسباب تتعلق بالضمير لا يشبه التنظيم الجماعي، العلني والسياسي، الذي يهدف إلى جر المزيد من الرافضين. إلا أن الرد على هذا الرفض لا ينبغي أن يكون في المعاقبة الجارفة والكاسحة. ولا مكان لردود الفعل الكاسحة والعدوانية في مجتمع ديمقراطي. من حق خريجي الوحدات العسكرية الاحتجاج على ما يعتبرونه نشاطات عسكرية غير أخلاقية أو غير قانونية. وبدلاً من ذلك، من المفضل ان يصغي قادة الأجهزة الأمنية وقادة الدولة بعناية الى كلمات الاحتجاج الخارجة من قلب وحدة نخبوية، كالوحدة 8200. ليس رفضهم هو الذي كان يجب ان يثير عاصفة، وانما الأمور التي أشاروا اليها. إن استخدام الطرق المرفوضة لتجنيد المتعاونين، وجمع معلومات بوسائل لا تخضع للرقابة العامة، هي ظاهرة تستحق الفحص والنقاش العام».

استنتاج

من هنا فإن توظيف ما ذكره أولئك المحتجون/ الرافضون للخدمة مجدداً في وحدة 8200 كأدلة على السلوك اللاأخلاقي الذي تمارسه أجهزة الاستخبارات، سواء بالتجسس أو التنصت على خصوصيات المواطنين، أو تصويرهم من أجل ابتزازهم في نشاطاتٍ تسحق انسانيتهم، وتدمر منظومة القيم الاجتماعية التي عاشوا في ظلالها، وتؤدي إلى تخريب النسيج المجتمعي الموحد داخل الوطن المحتل، من خلال تحويل المواطن أو المواطنة، لأدوات عميلة، رخيصة، تقوم بأعمال تتناقض مع الثقافة والوعي، والأهم، مع رفض التعامل مع الغزاة تحت أي ظرف.
إن حملة إعلامية وقانونية يجب أن تركز على الوسائل اللاأخلاقية التي يلجأ لها المحتل _فالاحتلال دائماً هو نقيض الأخلاق والإنسانية_ في إدارة المناطق الخاضعة له، وعلى خطط عمله في مواجهة الشعب الرافض والمقاوم لهذا الاحتلال. إن تلك الشهادات إضافة إلى ماقامت به الحركة الصهيونية وكيانها السياسي/ العسكري في فلسطين المحتلة، يُسقط كل الادعاءات التي حاول ذلك الكيان الغاصب تسويقها من خلال أجهزة إعلامه، ومن خلال جوقة المرتزقة العملاء في بعض الأقطار العربية، على أنها «واحة الديمقراطية!».
* كاتب فلسطيني