تروي الأسطورة القديمة أنّ الإلهة «نمو» كانت حين لم يكن أحد، وكانت هي «المياه» التي انبثق عنها الوجودُ كلّه.أنجبت «الإلهة» بعدها ولداً وبنتاً، الأوّل ذكرٌ اسمته «آن» وهو إله السماء، والثانية أنثى اسمتها «كي» هي إلهة الأرض.
لطالما كان إله السماء ملتصقاً بإلهة الأرض، إلى أن أنجبا «إنليل» إله الهواء الشاب النشيط الذي ضاق ذرعاً بهذا التلاصق الذي يُقيّدهُ ويحدّ من فورة نشاطه، فما كان منهُ إلّا أن استخدم قوّته الخارقة في فصل أبيه عن أمّه! فرفع الأوّل ليصير سماءً عالية، وبسط الثانية لتصير أرضاً دانية، وعاش ما بينهما مجدَ المساحة وحريّة الحركة.

كان الظلامُ سيّد الموقف آنذاك، فأنجب «إنليل» ابنه «نانا» إله القمر المنير لعتمة الليل، ثمّ عشق الضوء أكثر... فأنجب ابنهُ الآخر «شمش» ليكون إله الشمس المفعمة بالنور والدفء.
بعد هذا المشهد المتداخل، عقدت الآلهة جميعاً اتفاقاً قررت بموجبه خلقَ مظاهر الحياة الأخرى، وفعلت.
هكذا وُلدَ الإنسان الأوّل؛ باجتماعٍ إلهيٍّ بين السماء والأرض، وأُوجِدَ على هيئة الآلهة ذاتها، إنما بحجمٍ وإمكاناتٍ أصغرَ بكثير.
هذا ما روتهُ «ملحمة الخلق البابليّة» التي وردت في ألواح «أنوما إليش» العائدة لألفٍ وثمانمئة عامٍ قبل الميلاد. وهو ما كان معتقداً راسخاً في عقولٍ لعقودٍ كثيرة.
الغرضُ من إيراد القصّة الآنفة كنموذجٍ عن روايات الأديان التي لا تُحتسبُ «سماويّةً»، هو إبراز المستوى القاتم الذي قد يصل إليه البشر لإرضاء نهَم المعرفة لديهم وإن بشكلٍ خاطئ، وتكشف قلق الإنسان من هذه الفكرة واهتمامه البالغ بقصة الخلق، إلى درجة القبول بتبريرٍ مستفزٍّ كهذا!
لم يقتصر شغفُ الإنسان الفلسفيّ يوماً على البحث عن حكاية وجود الكونِ. هذا الكائنُ المسكون بالفضول يعيش دوماً سؤالَ الخلق المباشر لجنسه العاقل: من هو الإنسان الأوّل؟ وكيفَ وُجِد؟! ولماذا؟
وهو بالفعل سؤالٌ جديرٌ بالفضول.
مقولات الدين والعلم
من منظورٍ دينيّ، تكمن خطورة المساس «بقصة الخلق» في أنّها وردت ضمن النصوص الدينيّة «الثابتة شكلاً ومضموناً» (أي النصوص ذات التفسير الواحد ضمن الكتب المقدّسة)، وبالتالي فإنّ الوصول إلى نظريةٍ علميّةٍ ثابتةٍ ومغايرة للموروث سيؤدّي إلى التشكيك بالنصوص الدينية الأكثر ثباتاً، أو التشكيك بالدين ذاته كما قد يذهب بعض المتحمّسين.
تذهب الرواية الأكثر شهرةً بين الأديان إلى أنّ الإنسان الأوّل وجدَ بشكلٍ «دفعيّ» (أي مباشرةً وليس على مراحل).
وبالتحديد فإنّ رؤية الأديان التي توسم بـ»السماوية» تكاد تكون واحدةً في مؤدّاها، وإن اختلفت بينيّاً في بعض التفاصيل.
الإله خلق زوجين من البشر، أسكنهما جنّته، حظر عليهما بعض لذائذها لحكمةٍ أرادها، إلى أن غرر بهما المخلوق الحاسدُ المسمّى شيطاناً، فأزلّهما عن ذاك النعيم المترف، ليهبطا إلى عالم الأرض المليء بالاختبارات والخطايا، ويعيشا مع كلّ نسلهما الذي بات يُعدّ بالمليارات، امتحان النجاح أو الفشل في التزام نظام الإله على الأرض، للعودة إلى جنّته التي خسرها أبواهم ذاتَ امتحان.
وأغلب التحليلات الدينية تؤكد أنّ الكائن البشري خُلق منذ الأساس لـ»عمارة الأرض»، ولم تكن مرحلة الاختبار الأولى سوى دورةٍ تدريبيّةٍ لينضج فيه وعي الخير والشرّ.
القرآن الكريم يذكر أن خَلقَ الوجودِ المادّي (السموات والأرض) تمّ في ستّة أيّام، استوى بعدها الإله القادر إلى سماء الربوبيّة، وأطلق نظام الوجود وسننه الحاكمة.
وهو لا يفترق كثيراً عما ذكره سفر التكوين، في عدد الأيام الستّة، غير أنّ الإله «بارك اليوم السابع وقدّسه لأنه فيه استراح من جميع عمله الذي عمل».
عموماً... يُفيد مشترَكُ النظريّاتِ الدينية أنّ يد الغيب الإلهيّ المقتدرة أبدعت خلق الكائنات من طين الوجود الأوّل، ونفخت فيه حيويّة الروح وطاقة التفكير، فكانت الحياة الإنسانيّة العاقلة (آدم الذكر، وحواء الأنثى).
بينما تذهب رواية العلم الأكثر اختلافاً مع رواية الدين (المسمّاة بنظريّة «النشوء والارتقاء») إلا أنّ وجود الإنسان العاقل قد مرّ بمراحل متعددة، بدءاً من الكائنات وحيدة الخلية، ومروراً بالكثير من مراحل التطوّر البيولوجي، وصولاً إلى شكل الكائن البشريّ الأخير قبل مئات ألوف السنين.
يَعتقدُ دعاةُ هذه النظريّة أنّ «كيمياء طاقية أدت لإنتاج جُزيءٍ ذاتيّ التناسخ قبل حوالى 4 بلايين سنة، وأنّهُ تشكّل بعد نحو نصف بليون سنة سلفٌ مشتركٌ للحياة»، هو عبارة عن تجمُّع جينات أساسيّة.
وعليه فإنّ كلّ الأنواع الموجودة حالياً من الكائنات الحيّة هي من مراحل عملية التطور، وتنوُّعُها جاءَ نتيجةَ سلسلةٍ طويلةٍ من الانتواعات والانقراضات.
أحدُ الأدلّة على مُدّعى «التطوّر» هذا أنّ كل الخلايا الحية تستعملُ نفس المجموعة الأساسية من النوكليوتيدات والأحماض الأمينية، وبالتالي فهي تنتمي إلى جذرٍ كيميائيٍّ مشترك.
ومن يدري... لعلّ ثمّة مراحل من التطوّر الأحيائيّ لم نصل إليها بعد (هذا ما تفيده النظريّة من حيث الأساس).
إذاً... «شجرة الحياة» الحاليّة نتاجُ نزعة المادّة الكيميائيّة للتكيّف والثبات في وجه العوامل المحيطة، وبمعنىً آخر النزعة للاستمراريّة والبقاء.
نظريّة «الارتقاء» هذه ما زالت حاضرةً في العديد من البيئات العلميّة، وهي ليست النظريّةَ القطعيّة أو الوحيدة طبعاً.
غير أنّ هذا لا يُعفي مُنظّري البيئة الدينيّة من مناقشتها بشكلٍ جادّ، ومعالجتها في إطارٍ علميّ ناضج؛ بدلاً من نمط الخطاب التقليديّ الذي لا يروج إلا في أوساط البيئة التقليديّة، والذي يكاد يكتفي بالتهكّم على «أولئك الذين يقولون إنّ أجدادهم كانوا قروداً»!
وللإفادة فحسب، بعضُ هذا الخطاب النمطيّ روّج أخيراً إلى أن نظريّة الارتقاء قد سقطت علمياً بشكلٍ مدوٍّ، وهو كلامٌ يفتقر إلى الدقّة على أقلّ تقدير.

لو صدقَ التطوّر

ولنفترض _مجرّد افتراضٍ نظريٍّ بعيدٍ من فزّاعة «الكفر»_ أنّ نظريّة التطوّر وصلت يوماً ما إلى رتبة العلم القطعي اليقيني الذي لا يختلف عليه عالما أحياء على هذا الكوكب.
وبغضّ النظر عن السقوط المفترض حينها لرواية الأديان عن الخلق، فإنّ العقل الموضوعيّ يُدرك بوضوحٍ تامّ أنّ ثبات مفردة «الإله» في عقيدة الإنسان الملتزم لا تهتزّ كقيمةٍ عقديّة، فهي غير متعلّقةٍ بقصّة الخلق أساساً.
لم يُعرف الإله من خلال مرويّات «الكتب السماويّة»، بل العكس، فمن خلال الاستدلال العقلي الصرف الذي بحث في أدلّة «النظام والمنظّم» «العلّة والمعلول»، وسواها الكثير من أدوات العقل المجرّد، تمّ الوصول إلى معرفة الإله، وبعد ذلك بمراحل جرى الالتفات إلى أنّ الإله يبعث رسلاً ويُشرّع أدياناً.
الإله فكرةٌ عقليّةٌ تماماً، والأديان مرويّاتٌ إنسانيّة، ولا ربط عِلّيَّاً (من العلّة) مُطلقاً بين المسألتين، بحيث تنتفي الأولى مثلاً إذا خُدشت الثانية... هذا من حيث المبدأ.
أمّا ما يؤثر عليه ثبات «نظريّة التطوّر» فهو لا يتعدّى رواية الأديان عن خلق الإنسان الأوّل، لا أكثر.
إنّ التفريق الموضوعيّ في هذه المسألة ضرورةٌ علميّة، لأنّ فكرة الخالق أبعدُ بكثيرٍ من فكرة الأديان نفسها، فضلاً عن سرديّاتها حول الوجود والخلق.
والاقتناعُ بوجود «الله» أمرٌ جزم به رسول العقل قبل أيّ رسولٍ آخر.
إنّما، لنمضِ في المسألة إلى أبعد ما يُمكن، ولنحتمل وصول «نظريّة التطوّر» هذه يوماً ما لتكون «حقيقةً علميّةً» بالمعنى التامّ للمصطلح، فسنكون حينها أمام أحد احتمالات:
1- إمّا أن تكون هناك جوانب مخبوءة في النصوص الدينيّة تحتمل هذا المعنى العلمي (وهذا أمرٌ صعبٌ للغاية لأنّ النصوص الدينية صريحة في شرحها لتفاصيل قصة خلق الإنسان الأوّل).
2- أو أن تكون هناك نظريّةٌ دينيّة متينةٌ تسمحُ بتجاوز النص القطعيّ، واعتباره مقتصراً ومعلولاً لمرحلةٍ زمنيّةٍ كان فيها الوعي الإنساني على الأرض لا يحتمل أبعد من هذا المستوى في حكاية قصة خلق الإنسان (وهو أيضاً أمرٌ صعبُ المنال، لأنّ شتّى مناهج العلوم الدينيّة الحاليّة مُلزمةٌ _بشكلٍ صارمٍ_ بحرفيّة النّص، فما بالنا بإلغاء أجزاء منه بالكامل!).
3- أو أن تكون هناك منهجيّة علميّةٌ قادرةٌ على إيجاد رمزيّة بليغة في هذه النصوص الدينية، تخرجها بشكلٍ علميٍّ ناضجٍ عن معناها الذي وضع لمرحلةٍ ما، وتضعها في معنىً يتوافق مع النظرية العلميّة «الثابتة» المستجدّة، إنما من دون أن نكسر قواعد اللغة التي تحمل المعنى الصريح المعروف (وهذا ادّعاءٌ كبيرٌ للغاية، يكاد يحتاجُ إلى اجتراح معجزةٍ علميّةٍ في بيئةٍ جامدة المناهج إلى حدّ بعيد).
4- كما يُمكن بطريقةٍ تحليليّةٍ الجمعُ بين النظريتين، بأنّ حالة التطوّر تلك حصلت بدورها بمشيئةٍ إلهيّة، قبل اختبار الجنّة والهبوط إلى «العالم الدنيوي» (فالله «أبى أن يُجري الأمور إلا بأسبابها» كما ورد في النّص).
وأنّ مرويّات الأديان اقتصرت على إيراد قصّة الجنّة وما بعدها، بلحاظ أنّ الوعي الإنسانيّ لم يكن مؤهلاً لفهم الجزء الأوّل من قصّة الخلق بتفاصيلها المعقّدة هذه.
لم يقتصر شغفُ الإنسان الفلسفيّ يوماً على البحث عن حكاية وجود الكون

وهذا الاحتمالُ بدوره وقفٌ على إمكانيّة تجاوز حرفيّة النصّ الذي يُصرّح بـ»الخلق الدفعيّ» بشكلٍ شبه صارم.
بغضّ النظر عن كلّ الاحتمالات الآنفة (ولعلّه فاتنا وجود سواها)، غيرَ أنّهُ ليس ثمّة حاجةً فعليّةً لها حاليّاً؛ طالما أنّ الرواية العلميّة للتطوّر الإنساني ما زالت بعيدةً من الإثبات، وتكادُ تكون أقرب إلى الذوق أو الحدس الشخصيّ لبعض العلماء اللامتديّنين، الذي يسعون إلى إثباتها بشتى الدلائل التامّة والناقصة... وحتى المغلوطة أحياناً.
ما يُقرّه العقل الموضوعيّ في نهاية المطاف:
أنّه حتى وإن وصل العلم «القطعيُّ» يوماً إلى قصّة خلقٍ مختلفة للإنسان الأوّل (غير الجنّة والخطيئة والنزول إلى عالم الأرض...)، فهو يقتصر على إسقاط جانبٍ من رواية النص الديني عن الخلق، من دون أن يستطيع المساس بثابتة وجود الإله، التي يجزمُ بها العقل الموضوعيّ ذاته بعدّة أدلّةٍ راسخة.

تحديثُ منهج العقيدة، ومسائِلها

إنّ هذا الإشكال النموذج قائمٌ بشكل جدليّ في الفترة الأخيرة، وهو لا شكّ يستقطب شرائحَ من المثقفين الملتزمين وغير الملتزمين دينيّاً، ويثير حراكاً معرفيّاً هو أقرب إلى الحالة الصحيّة منهُ إلى تُهم الكفر والإلحاد.
وهو ما يُلزمنا بضرورة التعاطي معهُ كفكرةٍ تستلزمُ نقاشاً موضوعياً يُشبع حاجة الباحثِ إلى أفكارٍ ناضجةٍ وأجوبةٍ مقنعة.
الدينُ الكاملُ وليدُ العقل، والإنسانُ الناضجُ حليفُ الدليل... وما بين العقل والدليل تكمنُ رحلة المعرفة، والفكر الموضوعيِّ المنفتح على الحقيقة حيث وجدت.
إنّ موضوع وجود الكون، ووجود الكائن العاقل... وسواها من أسئلة الوجود الكبرى، التي قد تختلف فيها تفسيرات الأديان أو النظريات العلميّة غير المثبتة، بدأت تُعتبرُ أسئلةً معرفيّةً رئيسةً لدى الجيل الحاليّ المنفتح على تعدد العلوم والمدارس الفكريّة، وتكمنُ قوّةُ المادّة الدينية في جرأتها على التعاطي مع مثل هذه الأسئلة، ومعالجة نقاط الإشكال بخطابٍ عقليٍّ يُشبع شغف جمهور اليوم إلى المعرفة الأكثر عقلانيّةً وإقناعاً.
هذه الرحابة في طرح الأفكار هي منطق الدين الحيويّ المنفتح، الذي ابتعدت منه الكثيرُ من منابر الوعظ ومؤسسات الإعلام أو التعليم الديني.
وهي _في الآن ذاته_ أملهُ الوحيد بقيادةِ مجتمعٍ قادمٍ، مُشرَعٍ على حداثة العلم واحترام العقل في كلّ فكرةٍ يُحكم عليها بالرفض أو القبول.
غايةُ النقاش أنّ العلمَ لم يُثبت ما قالَه «داروين» بكلّ تأكيد، لكنّ الجرأة في طرح مثل هذه الأفكار الحرجة، قيمةٌ تستحقّ المبادرة.
* باحث وأستاذ حوزوي