إن كنت بلداً يشكّل النّفط (أو أي مورد واحد) النسبة الكبرى من صادراته، ثمّ حصل انهيارٌ في السعر العالمي لهذه السلعة، فإنّك تتعرّض مباشرةً لتحدٍّ مزدوج، يضغط على قيمة عملتك الوطنية ومصاريف الدولة. والخيار الذي تسلكه في الاستجابة لهذا التحدي (أو "استراتيجية البقاء" في مرحلة الأزمة) سيكون حاسماً، لا في تحديد فرصك بتجاوز السنين العجاف فحسب، بل قد يساهم في تشكيل مستقبلك السياسي والاقتصادي الى أمدٍ بعيد.
لأن النفط هنا هو المورد الأساسي للعملة الصعبة، وقيمة العملة تتحدّد عادة عبر ميزان التجارة الدولية للبلد، فإنّ انخفاض سعر النفط يعني مباشرةً أنّ كلّ شكل العلاقة مع السوق الدولية قد تغيّر؛ فقيمة صادراتك، بصرف النظر عن عدد براميل النفط الذي تنتجه، قد انخفضت الى النصف أو الثلث، ومعها قيمة العملة وقدرة المواطنين على الاستيراد والاستهلاك (بمعنى تشبيهي: التصدير يساوي طلباً على عملتك، والاستيراد من الخارج يعني بيعاً لها؛ والعملة، كأي سلعة سوقية، تخضع لقانون العرض والطلب). لهذه الأسباب، نجد أنه في الدول النفطية ذات العملات "الحرة"، ككندا والنروج، ينخفض سعر الدولار الكندي والكورون النروجي ويرتفع بشكل شبه تلقائي في السوق بالتوازي مع حركة النفط (بالمقابل، الدول المستوردة للنفط، كتركيا والهند، يدعم عملاتها انخفاض أسعار النفط، لأنّ فاتورة استيرادها تقلّ ويتحسن ميزانها التجاري).
مع بداية الأزمة النفطية الأخيرة، اكتشفت السعودية وروسيا أن قيمة صادراتهما الطاقوية (التي تغطي الاستيراد، وتعطي العملة قوتها، وتشكل مردوداً رئيسياً للدولة) انخفضت فجأة بمقدار يقارب الثلثين. هنا، أمام الدولة ثلاثة سيناريوات ممكنة: 1 ــ أن "يعمل السوق عمله"، فينخفض سعر صرف العملة بالتوازي مع سعر النفط، ويصير الاستيراد من الخارج أكثر كلفة على المستهلكين والشركات، فينكمش الاستيراد والاستهلاك الى حدٍّ يتناسب مع الميزان التجاري الجديد؛ 2 ــ أن يقوم المصرف المركزي، كسياسة، بالدفاع عن سعر العملة الوطنية، باعتبار أن أسعار النفط سترتفع ــ لا محالة ــ في المستقبل، ومن الأفضل حماية الاقتصاد والمستهلكين خلال هذه الفترة من خفض سعر الصرف وتأثيراته السلبية، فيشتري العملة الوطنية بالسعر (المرتفع) الذي يحدده، ويغطي ــ من احتياطه ــ الفارق بين الاستيراد والتصدير؛ 3 ــ الاحتمال الثالث، وهو الأسوأ، يحصل حين يفشل رهان الدفاع عن العملة، فيستنفد البلد احتياطاته ولا يعود قادراً على تمويل الاستيراد ولمّا يرتفع سعر النفط، فيقع انهيارٌ في العملة والاقتصاد يصعب التحكم به، وهو ما أصاب روسيا في أواخر التسعينيات، ويجري اليوم في فنزويلا ــ أول ضحايا الأزمة النفطية.
في روسيا، حين واجهت الحكومة الأزمة مقترنة بعقوبات غربية تشبه الحرب الاقتصادية، قرّرت أن تسمح للروبل بالانزلاق، وأن لا تحرق احتياطاتها المالية في الدفاع عن عملتها. فهبط سعر صرف العملة الروسية من مستوى يقارب الأربعين روبلاً للدولار ليلامس الثمانين روبلاً خلال فترة وجيزة، ومن دون تدخل من المصرف المركزي. هكذا، حافظت روسيا على احتياطاتها المالية، وصار تمويل الميزانية أسهل (لأن الرواتب والأكلاف بالروبل الرخيص، فيما العائدات النفطية بالدولار)، ولكن على حساب إضعاف القدرة الشرائية للمواطنين، وارتفاع الأسعار، وهزّ قطاعات كبرى في الاقتصاد.
السعودية، من جهةٍ أخرى، كانت خياراتها مختلفة. سعر صرف الريال السعودي، منذ أواخر الثمانينيات، رُبط بالدولار الأميركي بقيمة ثابتة (3.75 ريالات للدولار). وقرّر المصرف المركزي الدفاع عن هذا السعر مهما كان. شكّل هذا أحد أهم أسباب اتساع العجز في الميزانية السعودية (وهي، كالاقتصاد السعودي كله، ظلت مدولرة)، ولو استمرّت الأسعار على حالها هذه السنة، فقد تفوق قيمة الواردات السعودية صادرات البلد للمرة الأولى منذ بداية عصر النفط فيه. الكلفة الهائلة للحفاظ على الربط بالدولار دفع بعدد من المؤسسات المالية الى المراهنة على انخفاض العملة السعودية في المستقبل القريب، وهذه المراهنة تجري عبر عقود بيع "مستقبلية"، أي أنّك تبيع الى تاجرٍ ريالات بسعر اليوم، ولكن البيع ينفّذ بعد أشهر، فإن انخفضت قيمة الريال تكسب الفارق ــ فقامت السلطات السعودية الشهر الماضي، بمنع هذا النوع من العقود وتحريمه.
النظرية في روسيا تقول بأنّ انهيار العملة، وإن كان قاسياً على المواطنين وأدى الى انكماش الاقتصاد وحدّ من الاستيراد، إلا أنه سيوجه الاستهلاك الى الصناعات المحلية، وأن الزراعة والصناعات الاستهلاكية الروسية قد انتعشت بالفعل بعدما صارت قادرة على منافسة السلع الأجنبية، في السوق المحلية وتصديراً. بمعنى آخر، ستكون هذه المرحلة اختباراً لفكرة أن روسيا ليست مجرّد إمبراطورية ريع، وأن السنوات الماضية قد حضّرت البلد لتأسيس اقتصاد متنوع يقدر على الإنتاج والصمود، ويستغني تدريجاً عن الريع النفطي الأوحد.
أمّا في السعودية، فالهمّ الأول هو في الحفاظ على العقد السياسي الذي يربط النظام بالشعب. والمسؤولون في الرياض يقولون إن خفض العملة سيؤدي الى إفقار المواطنين (لأن جل استهلاكهم استيراد)؛ ولأن البلد لا يملك صناعات مهمة خارج قطاع الطاقة، فهو لن يستفيد حتى من عامل "التنافسية" في تصدير السلع.
حين تحلّ الأزمة وتفرض قواعدها، تظهر كل نقاط الضعف التي أخفتها سنوات الازدهار. من موسكو والرياض الى بيجينغ وطهران، تقوم الحكومات بتحديد أولوياتها ومَن سيحظى بحماية من عنف السوق ومَن سيدفع الثمن. كما في القرن التاسع عشر، تضع هذه الحكومات رهانات مختلفة: روسيا تراهن على بناء اقتصادٍ إنتاجي تحت ضغط الأزمة، فيما السعودية تأمل أن أموالها المكدسة (وقدرتها على الاستدانة) ستكون جسراً يسمح لها بعبور المرحلة بلا تضحيات حقيقية، وإيران تعتمد على أنّ سنوات الحصار والتضييق قد حمتها من الانفلاش المالي وأجبرتها على إجراء إصلاحات عميقة لخفض أهمية النفط في الموازنة.
إن صحّت تقديرات الوكالات الغربية بأن سعر النفط، حتى عام 2020، لن يزيد على السبعين دولاراً للبرميل، ستكون السنوات المقبلة مسرحاً لاختبار من يملك الرؤيا الأصح، والخزائن الأثرى، والقدرة على إدارة الأزمات. أما ثمن الرهان، فقد يكون بلا مبالغة، وإن بدت المسألة اقتصادية بحتة، سقوط ممالك وانهيار أنظمة وانكفاء مشاريع.