تميزت الأشهر الثلاثة الماضية بكثير من المفاجآت ذات العيار الثقيل، كان أهمها اعلان «الدولة الاسلامية» على جزء واسع من الاراضي العراقية والسورية. بُعيد ذلك التاريخ تحوّلت الولايات المتحدة الاميركية الى اللاعب الاول في المنطقة (ان لم يكن شبه الوحيد)، حتى الآن، فيما تراجعت ادوار الاخرين وخصوصاً الدور الروسي.
لم يكن الوضع على هذا النحو قبل ذلك التاريخ إذ كان الدور الروسي يتقدم باستمرار، خصوصاً حتى اواخر السنة الماضية. تكرس هذا التقدم في مؤتمر جنيف الثاني الذي انتهى على خيبة كبيرة للادارة الاميركية وحلفائها وخصوصاً منهم المملكة العربية السعودية. كانت قد سبقت المؤتمر تطورات ميدانية الغت مشروع اسقاط النظام السوري، او حتى مجرد فرض بعض التنازلات عليه في مجال المشاركة في السلطة، وأقفلت باب التسوية أو الحل حتى ظروف أُخرى.
استنتجت واشنطن بعد جنيف الثاني انه لا بد من «تغيير ميزان القوى في سوريا». يمكن القول انه في ظل هذا الشعار بل القرار، حصلت تطورات الاشهر الثلاثة الماضية التي لعب فيها كل من دولة قطر وحكومة اردوغان دوراً محورياً. لم تنخرط واشنطن مباشرة في دعم وتشجيع تنظيم «داعش» ومن على شاكلته. لكنها لم تتأخر في استثمار الاندفاعة الداعشية، بوجهيها السياسي والهمجي، الى اقصى الحدود. لقد وجدت واشنطن، ايضاً، ان الفرصة سانحة تماماً لإعادة ترتيب ملفاتها في المنطقة لجهة تدارك اخفاقاتها السابقة بعد غزو العراق، ولجهة استعادة زمام المبادرة حيال المنافسين، الروسي والايراني، وحيال الازمة السورية بشكل عام.
حصدت واشنطن اول نجاحاتها في العراق. هي استعادت دور المنقذ الوحيد، ليس للكرد فقط، بل للغالبية الساحقة من عربه ايضاً. استفادت بشكل كبير، من هزيمة حكومة المالكي في «الموصل» ومن اخطائها وفئويتها، لتستدرج طلباً، بل التماساً صريحاً بالتدخل (غير البري!) من كل اللاعبين في الساحة العراقية، عراقيين وغير عراقيين!
الملف السوري اكثر تعقيداً بالتأكيد. كانت واشنطن قد اعتمدت خطة استنزاف السلطة السورية ومعها كل داعميها وشركائها في «محور الممانعة» العرب وغير العرب. وهي لذلك لم تستعجل الحلول، وواصلت سياسية المماطلة بشأن مطالبة حلفائها لها بالحسم، حتى اتهمت بالضعف والعجز، وحتى كادت، ايضاً تفقد قدرتها على الاستمرار في ادارة سياسة الاستنزاف نفسها.
وجه «التعقيد» في الملف السوري، هو في الحاح إلنظامين التركي السعودي خصوصاً على اسقاط النظام السوري، في وقت لم يبق في الساحة السورية سوى القوى المتشددة وفي طليعتها «داعش» و»النصرة». انه تعقيد سياسي وميداني في آونة واحدة. لكنه يكشف في المقابل ان الادارة الاميركية تستثمر الارهاب مرة جديدة، تحت شعار محاربته! لو كان رأس الارهاب هو المطلوب فعلاً كأولوية فرضها خطره وتوسعه وممارسته، لكان على واشنطن ان تبادر أولاً، الى بحث الموضوع مع روسيا كدولة عظمى ذات قدرات وعلاقات ودور يمتد من مجلس الامن الى اللاذقية! هذا من دون ان نتحدث ايضاً عن دور كل من الجمهورية الاسلامية الإيرانية وسوريا.
بيد أن واشنطن حذرة بحكم سياسة رئيسها وبحكم تجربة اخفاقاتها السابقة. هي كذلك تواجه التعقيدات القائمة بكثير من الخبث والمرونة: هي لن تنسق مع النظام السوري، لكنها لن تستهدف قواته ايضاً. وهي لن تجعله يستفيد من اضعاف «داعش» وبقية الإرهابيين، لذلك فهي اتخذت قراراً بتدريب قوات معارضة «معتدلة» تتولى العمل على الارض لادارة المناطق التي سيخليها تنظيم «داعش» والمتطرفون.
هي أوكلت الى السعودية لتطمينها، أمر تدريب المعارضين، لكنها تدرك ان هذا الامر محدود التأثير ويستغرق وقتاً طويلاً ما يفرض التفتيش عن بدائل في مستويات وعلاقات اخرى... وواشنطن، قبل كل ذلك وبعده، تدير صلات «تحت الطاولة» او بشكل غير مباشر مع السلطة السورية: في التطمينات، في التنسيق الاستخباري، في الرسائل عبر الحكومة العراقية وسلطات كردستان (مع ايران ايضاً، وبشكل مباشر، في الحوار بشأن وبمناسبة الملف النووي الإيراني...).
بسبب هذا النوع من الصلات والحوارات والتطمينات اعلنت واشنطن، منذ اواخر الشهر الماضي، «ان الطائرات الاميركية ستدخل الاجواء السورية من دون اذن من النظام السوري» («الحياة»، 27/8). في التاريخ نفسه نسبت وكالة «فرانس برس» الى مصدر سوري «ان التنسيق بدأ بين الولايات المتحدة ودمشق وزودت الاولى الثانية بمعلومات عن («الدولة الاسلامية») عن طريق بغداد».
كررت موسكو ودمشق وطهران الاستعداد للتعاون. ذلك يجعل المهمة الاميركية اسهل رغم نزعة واشنطن للتفرد ولتحقيق مكاسب خاصة. التقاطعات موضوعية والتباينات ايضاً!
يمكن القول، في ضوء ما تقدم، ان الصراع، في الجانب السوري، سيرتكز إلى المناطق غير الخاضعة للسلطة السورية. لهذا الجانب تعقيداته الكبيرة ايضاً مع «الحلفاء» وفيما بينهم: عرباً واجانب، سعوديين وقطريين، اتراكاً واكراداً، مصريين وقطريين...
ليست المهمة الاميركية سهلة وسط هذه التعقيدات، وبسبب رغبة واشنطن بالتفرد والاستئثار والاستبعاد، ثم ايضاً بسبب ما هو متوقع من تشبث نظام «الخلافة» بمكاسبه ونجاحاته واستماتته في الدفاع عنهما، مستفيداً ايضاً من حدة التنافس والتناقضات وغياب البدائل وطبيعة مجمل المعركة حيث الأولوية ـ كما ذكرنا ـ لترتيب الأوضاع، على الطريقة الأميركية، لا لمواجهة الإرهاب...
تعود الآن واشنطن من الباب بعد ان خرجت من الشباك، لا يمكن مواجهة مخططها (اياه)، في صيغته الراهنة، من دون اعادة قراءة جديدة يجري عبرها تفادي اخطاء المعركة في كل من سوريا والعراق على الاقل...
تحدث الرئيس بشار الاسد أخيراً، عن حوار بعد دحر الارهاب. لماذا لا يبدأ الحوار منذ الآن، وخصوصاً مع رافضي العسكرة والتدخل الاجنبي والذين يصنفهم النظام نفسه «معارضة وطنية» فيما عدد من رموزهم يقبع في السجون!
لا يمكن ان يكتفي «الممانعون» بشعاراتهم واساليبهم السابقة. في مواجهة الصياغة الاميركية ـ السعودية الجديدة للمنطقة يجب ان تتبلور صياغة سليمة ومبادرة مقابلة تستند الى مصالح شعوب المنطقة في الاستقلال والسيطرة على الثروات وبرامج التنمية والعدالة الاجتماعية وتعزيز المشاركة وتوفيرالحريات والديمقراطية ونبذ العصبيات والفئويات...
هل هذا كثير؟ نعم، لكنه أكثر من صحيح ومصيري!
* كاتب وسياسي لبناني