«عربسات» وثقافة المنع

  • 0
  • ض
  • ض

الهيمنة السعودية لا تتبدى في قدرة المملكة على منع قناة "المنار" من البث عبر قمر "عربسات" الصناعي، بل في معرفتها بأن في وسعها ارتكاب هذا الفعل من غير أن يتحداها أحد، أو يحتجّ عليها، أو ــــ حتى ـــــ أن يسبب لها الموضوع احراجاً وكلفةً معنوية. "المفهوم السلبي" للحرية، كما عبّر عنه ازايا برلين وآخرون، ينطلق جزئياً من فكرة انّه ليس في وسع من يتجبّر عليك أن يجبرك على قول ما يريده هو بالتحديد، أو أن يكرهك على انتاج أفكارٍ بعينها، بل أنّ القوّة القامعة تعمل عبر منعك من قول رأيٍ معيّن، وتخويفك من مغبة أخذ انحيازٍ ما. فالحريّة هنا، تُقاس بمعناها "السالب" (أي في غياب القيود والعوائق التي تمنعك من فعل وقول ما تريد) وليس بالمعنى "الايجابي"، الذي يعتبر أنّه يجب أن تتوفّر لك ــــ بعدالة نسبة الى الباقين ــــ العناصر والشروط التي تحتاجها لفعل وقول ما تريد. هكذا، تبدّى "أثر القوة" واضحاً في صمت الإعلام العربي عن الموضوع بأسره، وقد استنكف أكثره عن مجرّد نقل الخبر. لا الدولة اللبنانية ولا الجمعيات الحقوقية ولا مؤسسات "المجتمع المدني" ولا المثقفون والصحافيون، حتى على حساباتهم الشخصية، تبنّوا قضية "المنار" و"الميادين"، مع انّهم ــــ في الظاهر ــــ يبحثون عن أي فرصة وقضية لإثبات تقديسهم للحريات والانبراء للدفاع عنها (ولو كانت من نوع "حماية" زميلٍ من النقد). ولكن هذه ليست قضية "سهلة" كغيرها، بالامكان لعب دورٍ "ليبرالي" فيها والمزايدة من دون كلفة؛ وهم يعرفون جيداً أنّ هناك خطراً (بالمعنى الشخصي والمهني) في تحدّي الإرادة الخليجية في هكذا ملفّ، أو الظهور ــــ ولو من خلال موقف مبدأي ــــ بمظهر من يتماهى مع هذه المحطات. المفارقة هنا هي أنّ "المنار"، باعتبارها وسيلة اعلامية تمثّل المقاومة رسمياُ وتاريخياً، وقد قصفها الطيران الاسرائيلي، وهي تتعرّض للعقوبات الغربية والحصار ومحاولات الإسكات لهذا السبب تحديداً، تمثّل النموذج الأوضح لـ "قضية الحريات" كما يجب أن تكون في بلادنا. ولا تشكّل ازالتها من قمرٍ صناعيّ مجرّد حركةٍ رمزية، كلفتها الانتقال الى قمرٍ بديل، بل هي مساهمة جدية في الحرب ضد هذا الصوت، وتضييقاً للحصار القائم عليه. لهذا السبب ايضاً، فإنّك لن تجد، رغم المبالغ الطائلة التي تُصبّ، منذ عقود، في الثقافة والحرب الإعلامية شيئاً يمكن أن تسمّيه "ايديولوجيا سعودية" أو "نظرية قطريّة"، أو مجرّد شرحٍ وتعريفٍ لهذا المعسكر وأهدافه، ومن أصدقاؤه ومن أعداؤه؛ فالهدف من هذا الاستثمار ليس توليد هيمنة بالمعنى العميق للكلمة، أي نظرة متكاملة الى العالم تؤطر لمشروع سياسي، بل خلق طبقة من المثقفين والنخب تستبطن ممنوعات النظام الخليجي وتفكّر تحت هذا السّقف. ضمن هذا الإطار، في وسعك أن تقول ما تشاء (لأنه لا يوجد خطُّ ايديولوجي يتوجب السير عليه)، وأن تنظّر ليبرالياً أو طائفياً أو ــــ حتى ــــ يسارياً، بل وأن تدافع عن الديمقراطية والحرية وقيمها ــــ طالما أن الديمقراطية ليست في الخليج والحرية ليست لأعداء المموّلين. هذه السطوة لا تقتصر على السياق العربي، فإنّ أهمّ نجاحٍ للسعودية في حرب اليمن، مثلاً، كان على المستوى الإعلامي: لا يفترض، في هذا العصر والزمان، أن يغزو بلدٌ بلداً آخر من ثلاثين مليون نسمة، ويقصفه بهذه الوحشية، ويضرب أعراساً ومستشفيات ومخيمات لاجئين، ويمرّ الأمر في الصحافة الغربية بهذا القدر من عدم الإكتراث والبلادة؛ أما في بلادنا، فعليك أن تجتهد لكي تحصل على وجهة نظر عن الحرب ليست سعودية، ولا تجدها الا لدى وسائل يقل عددها عن أصابع اليد (والتقارير الغربية عن الحرب ومسارها ما زالت تُستقى، أساساً، من البيانات الرسمية السعودية وشروحات الجنرال عسيري، رغم ثبات عدم مصداقيتها منذ الساعات الأولى للحرب). الأمر الثاني الذي يعلّمنا اياه السعوديون، عبر سلوكهم في "عربسات"، هو أنّ ليس للخصومة معهم حدود، وهم سيستخدمون كلّ ما تطاله أيديهم ضدّ من يخالفهم ــــ ولو في الرأي والسياسة. المشكلة مع هذا السلوك مزدوجة: من ناحية، فإن معسكراً يقوم على المنع والانضباط وطاعة الآخرين، ولا يقدّم لك، بالمقابل، نظريةً ومثالاً ورؤية لا يشكّل عامل جذبٍ الا لمن يستفيد منه مباشرة (أو يبني مواقفه على أساس العداوة والثأر). ومن ناحيةٍ أخرى، فإن الخلاف مع الخليج اليوم هو ليس حول أمورٍ يمكن التنازل فيها، بل يدور حول مستقبل بلادنا، ونمط حياتنا، وصراعنا مع اسرائيل والغرب، وهم يتحكمون بقمرٍ صناعي ولكننا موجودون على الأرض، ونحن، كـ "المنار"، لن نذهب الى مكان.

0 تعليق

التعليقات