يثق الممانعون في «المشرق» برؤيتهم للأمور وتفسيرهم للتحديات ونظرتهم للمآلات ثقة لا يشوبها شك. لم تأت هذه الثقة من فراغ، بل من مقدمات وفهم عام بدأ منذ ولادة كيانات دول وقوى الممانعة. ففي إيران ولدى حزب الله وحلفائهما الشيعة في المنطقة، تتجذر القناعات السياسية على أساس ديني بولاية الله والرسول وآل بيته واتباعهم من العلماء في كل واقعة وتفصيل، حتى يغدو انفكاك عرى هذه السلسلة محالاً في العقل، وتهديداً شيطانياً يقض المضاجع، لفرصة النجاة في الآخرة فضلاً عن التوفيق في الدنيا.
أما لدى الممانعين القوميين، فإن القضية مرتبطة بالنضال ضد كل من يحول دون استعادة الأمة مجدها وبهاءها المفقود والمأمول. أما الممانعون الإسلاميون من أهل السنة، فهم لا يقبلون أن تتخلف الغالبية الإسلامية عن واجبها في الجهاد والعمل لرد المعتدي عن حياض المسلمين، حتى لو استدعى الأمر التعاون مع الشيعة الرافعين للواء تحرير القدس وعزة المسلمين، في مقابل «الغرب» المتوثب للاختراق والعدوان. ففي زمن التوتر المذهبي المتصاعد، فإن المبادرة بالتعامل مع الشيعة لها أثمانها التي تربك إجراء أي خطة استراتيجية موضوعية للنهوض ببلاد المسلمين. وبمقدار ما شكلت نهضة الإسلاميين السنة فرصة سرعان ما خبت، إلا أنها لا تسهل للقوى الممانعة السنية الاختيار بين استعداد شيعي للدعم المتواصل غير المشروط، وبين المراهنة على مؤسسات سياسية إسلامية سنية لا تبدو مستقلة أو مخلصة أو محترفة. فما العمل؟ هل يكون استغلال جهوزية الشيعة للمساندة والدعم لإدامة وتمويل طموحات الممانعة والمقاومة، مع ما يحمل ذلك من ضغوط وعدم ارتياح محتمل إزاء الموقف الشرعي من إسلامية الشيعة في زمن التنافر المذهبي، أم المخاطرة بوضع كل البيض في سلة الإسلاميين السنة التي ما زالت تحاك خيوط تمكينها بصعوبة واضحة؟
إذا كان الواقع الراهن على هذا المنوال بشكل عام، فإن العبء الذي يتحمله محور الممانعة يمسي أكثر صعوبة. ويمكن ملاحظة العناصر التالية:
1ــ تتعرض كل قوى الممانعة إلى ضغوط شديدة تجعل من المريح التراجع عن مشروع مجابهة «الغرب» والتفاوض معه على صيغ مرضية للطرفين، ما دامت بعض القاعدة الشعبية للمسلمين وغيرهم في بلاد «المشرق» تزيد منسوب الضغط على محور الممانعة. فمن الملاحظ أن التحريض المذهبي والتكفيري، والتجييش الإعلامي والسياسي، والتركيز على سردية استهداف السنة في سوريا والعراق وغيرهما، والحاجز اللغوي بين إيران والعرب، وضعف الإعلام والتسويق الممانع، أدى إلى أن تبدو جهود الممانعة، أحياناً، صراخاً في وادٍ مقفر. فخيارات سوريا الخارجية ضد إسرائيل تواجه بالحديد والنار، وإيران محاصرة حتى الاختناق المالي والنقدي، وحزب الله مغلول اليدين بسبب الاستثارات المذهبية، والقوى القومية والسنية محرجة بسبب سيل الدماء السوري، والشخصيات الممانعة محدودة خياراتها بسبب رزم الاتهامات الجاهزة بالتشيع والتعاون مع إيران وحزب الله ودعم الدولة السورية. لذلك، ما الذي يدفع الممانعين لتحمل كل هذه الضغوط، ما دام الجمهور الذي من أجله يتحملون المشاق لا يرحب بهم ويتغافل عن انجازاتهم؟
2ــ يسهم تطور خبرة إدارة الحملات الإعلامية والسياسية المعادية في جعل تحقق آمال الممانعين أكثر صعوبة وغموضاً. فإعلام «الغرب» ومنابر توجيهه السياسي نجحت وتنجح في رفع مستوى الإلمام والقناعة بتفسير محدد لما يحدث في منطقة الممانعة، وطمس المعلومات والتفسيرات الأخرى لحقيقة ما يجري على الأرض. وتكون النتيجة أن «الغرب» ينجح مرتين: الأولى في «أشكلة» القضية التي يريدها لعرقلة مشروع الممانعة، والثانية في تحويل موارد الممانعين لرد الاتهامات ومواجهة جهود «الغرب» على الأرض التي اختارها هو، وبحسب قواعد لعبة يملك امتيازاتها بالمطلق. فيبلغ الضخ الإعلامي الهائل مداه الفاعل، وينحصر اهتمام الجماهير بتعداد الأخطاء والتناقضات التي يسلط الضوء عليها، وينشأ وضع يعود فيه من الصعب على المثقف والخبير والمخلص والمتتبع رؤية كل المشهد وتحديد الأولويات. وأثبتت التجربة أنه، في ظل موازين التجيير الإعلامي والسياسي والثقافي عدا عن الاقتصادي والعسكري الحالي «للغرب» وحلفائه، لا يستطيع إلا القلة الثبات على الموقف والقراءة الصحيحة لمجريات ومستقبل الأحداث. من الطبيعي استنتاج أهمية الجهود الإعلامية والسياسية المقابلة لتبديد التشويش المنهجي للحق وللقضية، لكن، وكما كانت دائماً حال الأمم الصاعدة، فإن امكانات وخبرات المواجهة تكون محدودة إلى وقت ليس بقليل.
3ــ من مزايا النواة الصلبة للممانعين الاصرار. وهذا الإصرار يجد جذوره في وعود الانتصار القرآنية، أو استراتيجيات المراهنة على الوقت وقوة القضية. القضية ليس مجرد قناعات، بل إن بواكير الانتصار تظهر. وما يميّز هذا الفريق السياسي مراهنته على صحوة الشعوب الإسلامية أو العربية، رغم الملاحظات التي يوردها مثقفون اعتراضاً على هذه الرؤية. فظاهر الأمور يشي بأن بعض الأنظمة العربية ربما كانت أفضل من بعض شعوبها التي أطلقت الثورات عقال تطرفها وقابليتها للتحريض. لكن التوجه إلى الشعوب، رغم ما بها من تراكمات سلبية وغضب مكنون، يبقى خياراً صائباً شرط حسن التوجه إليه والاستمرار في قياس توجهاته.
4ــ يخوض محور الممانعة حرباً قاسية تتراوح بين الاشتباك القتالي والاشتباك السياسي الإعلامي مع محاور الخليج وتركيا والأميركيين والغربيين. يمكن القول، باختصار، أن الممانعين يبدعون في ميدان الاستراتيجيات العسكرية والأمنية رغم الاختلالات في بعض المواضع. لكن نقص الإبداع يطاول الإدارات السياسية لهذا المحور بما تعنيه هذه الكلمة من جوانب مدنية حضرية تنفيذية في الإعلام والثقافة والاقتصاد والاجتماع. فالحرب الناعمة والدعائية الموازية قد لا تكون أقل أهمية من حروب الوجود على خطورتها. وخطاب الأولويات هو كلام عن جمع وليس مفرد، فإذا كانت الأولوية الأولى، وبحسب كل النظريات الواقعية في السياسة، هي للحق في الحياة والأمن والسلم، فما هي الأولوية الثانية؟ ومهما بلغ مقدار الأولوية الأولى من الأهمية، فلا يمكن بحال أن تستحوذ على الموارد كافة. هناك مخصصات يجب أن تُعتمد للأولويات الثانية والثالثة والرابعة. في مثل هذه النقاشات يُستدل دوماً بوجود اهتمام ومخصصات في السياسة والإعلام والثقافة، واهتمام بالاقتصاد والتنمية، لكن ذلك لا يجعلها فعلاً أولويات. فالأولوية الحقيقة تعني وجود مجموعة من الأشخاص المتخصصين الذي أولاً «يدركون» أهمية مجالهم، وثانياً «يبدعون» في اجتراح الحلول لأي مشكلة تعترضهم بمثابرة وصبر وأناة. كما أن المقاومة أولوية من أجلها يصرف كل تلك الموارد ولا يتم الاستسلام أمام أي تحدّ يواجهها، فالأمن السياسي والاقتصادي والاجتماعي والغذائي وسواه يتطلب عدم الاستسلام أمام أي عقبات تعرقله. والدليل على رجحان أولوية ما أو عدم رجحانها هو طريقة التعامل معها، وحجم الانجاز فيها. والدليل على تهميش أولوية ما هو «نقص الخيال» في التصرف إزاءها، وعدم «ادراك» إلحاح خطورة إهمالها. وبما أن عقل الممانعين يستحوذ عليه اليوم رد المخاطر الداهمة أمنياً وعسكرياً، فإن الحل هو بتعزيز يمين ممانع سياسي وإعلامي يدفع إلى الالتفات الإدراكي إلى وجوب تخصيص اهتمام وموارد أكثر لهذا المحور.
* أستاذ جامعي