الطواف حول العقل
هل مات الحلُم الرافضي بالمدينة الجميلة واندثرت أحلام الروافض في معترك الحطام المذهبي على خلفية تخطّت أُسس الروافض الأُول، وهي حركات دياليكتيكية في أساسها امتهنت نفي الذات مراراً وتكراراً في تجارب ثورية حالمة أخرجت من رحمها صوفية وعرفانية وزنادقة وملاحدة.

فلئن كانت الوجدانية حاضرة أبداً في النصوص الرافضية التى ترى في الحب صراطاً يتجاوز الحسنات والسيئات، فإنّ الوجودية لم تكن غريبة على حيرةٍ أنتجت عشرات من فرق أجمعت كلها على انتظار إمام غائب عائد هو العقل الكليّ، في محاكاة لإغريقية يونانية هي عقل أفلاطون. فإمام الروافض هو ذاكرة الأكوان، لأجله تشرق الشمس ويهطل المطر ويثمر الشجر، بل إنّ الكون بكليته كان لأجله، فهو نور الله ويده وعينه وبابه الذي منه يُؤتى.
سوريالية حالمة، هرطقةٌ فاضحة بعين الجماعة السوية، بل كفر زُلال ليس له إلا القطع. فالحدود بيّنة: الرقاب للضرب والأطراف للقطع والأجساد للجلد والزناة للرجم. أمّا العقل فهو الثغرة التي يتسلل منها الشيطان، والدنيا نار المؤمن وجنة الكافر. فالحواس تُقمع والجمال يُستر والأصوات تُخفض والعيون في تذلل والشفاه في تذبل والجباه موشومة بأثر السجود. وليس الرفضُ سوى بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. وتذوي الحركات الرافضية في عزلة نخبوية وتندثر تجاربها ولا يبقى منها سوى بعض من مذاهب في جمود. منها من يخجل من تراثه، بل وينكر نصفه، ومنها من يلجأ لتقية قاتلة جعلت منه مذهباً مضافاً إلى مذاهب المسلمين. والمسلمون في تذابح وتناحر على ضفاف أنهار الخمر وسرائر حوريات العين وأكوام من الزنك والإسمنت الرمادي الباهت تتراكم لتحوي كتلة اللحم البائسة على امتداد مساحات قاريّة ثلاث.
ما أحوجنا الى إمام هو عقل كُليّ لنطوف حوله وله. إمام به غضب "مزدك" وزهد "مالي" وتجلي المسيح ونور فاطمة بنت محمد التي تقف على الصراط، فمن قرأت على جبينه محب دخل الجنة ولو كان عاصياً، ومن قرأت على جبينه مبغض دخل النار ولو كان محسناً. فالحب هو السبيل لولوج عوالم ابن عربي في وحدة وجوده حيث يتساوى الكافر والمؤمن والموحّد والمشرك فلا تبقى إلا حقيقته هو، الواحد الذي عنه خرجت الآحاد. فتكون لنا مدينة على امتداد العالم في طواف أبدي حول حب هو سبب الخلق وجمال هو مصدر كل جمال. فالعودة إلى تراثٍ رافضي مخبوء هو استدعاء للتّنوع والتسامح والدهشة، وهو السبيل للخروج من دوامة الصراعات المذهبية والكهنوتية التي لا تحمل إلا الكثير من القيء والقبور. فمدينتنا الجميلة ما زالت محجوبة عنا ما دامت عقولنا الجزئية تذوي خلف حجب الجهل والتعصب وقيود العقل والحواس، وليست سوى حرية الفرد والجماعة هي الوسيلة لإدراكه هو، الحاضر أبداً، ما دام هو نور العالم الماثل أبداً.
فليكن رفضاً يطيح كل أركان المعابد الموبوءة، فلا معبد سوى القلب. أمّا ما خطّته سيرة التاريخ وجمود الكهّان، فلم يحمل إلا ألماً ولم يزرع سوى هذا المحصول البائس من الرؤوس الذبيحة والأوصال المقطّعة والمدن المدّمرة ونساء متشحات بالسواد وأطفال في أنين. لا طواف إلا الطواف حول العقل والعقل هو إلامام.
إياد المقداد