عندما نتحدّث عن سياج مكهرب يحمي تجمّعاً للمترفين وميسوري الحال، ضمن محيط معادٍ بالضرورة ولا يمكن وصفه إطلاقاً بيسر الحال، فإنّنا نتحدّث عن أمن اجتماعي معدوم وعن مستقبل غامض. خارج هذا السياج أمواج من الفقراء والمعدمين يبحثون عن قوتهم في الفتات الذي تقذفه الدورة الاقتصادية، بأقل القليل من الدخل وسائر أنواع الأمراض الاجتماعية والنشاطات الاقتصادية غير الشرعية.
المشهد المذكور موجود في الهند. وحيث يوجد عالمان متباعدان في المساحة المكانية نفسها، في الهند وجنوب أفريقيا وجنوب شرقي أسيا وأميركا اللاتينية ودول الشرق الأوسط، الظاهرة تفسح المجال لتحتل المشهد العام على صعيد السياسة والاقتصاد والأمن.
الوجهة
في ما يخصّ الدول النامية تتعامل الكثير من التحليلات الاقتصادية والتقنية مع أزمة العشوائيات مقطوعة عن تاريخيها. وفي الكثير منها تشعر إنك إزاء ظاهرة انبثقت في غفلة. كأننا صحونا فجأة تحاصرنا مدن الصفيح. وباعتبار أنّ هذا الموضوع متعدد الجوانب تكمن الأهمية في تسليط الضوء على أهمها وأكثرها تأثيراً، في سبيل أن تكون القراءة في المسار المنهجي الصحيح على المستوى النظري. وإذا انطلقنا من بعض الحلول المطروحة للتداول فقد تحدثت بعض المواقع المصرية عن إمكانية الاستفادة من التجربة الصينية في التعاطي مع العشوائيات وتطبيقها في مصر. مصر التي يسكن في مقابر عاصمتها ما يقارب عدد سكان لبنان. وتم ذكر بعض الجوانب الإجرائية التي اتخذتها الحكومة الصينية من أجل تقليص مساحة العشوائيات حول المدن. من هذه الإجراءات بناء مرافق وأماكن مخصصة يستفيد منها الباعة وأصحاب النشاطات التجارية الصغيرة، وتحديد المجال العمراني المسموح فيه لوجود العشوائيات بحيث تمنعه من الامتداد بكل الجهات وإلى ما لانهاية.
الصين تبدو وجهة جيدة مبدئيّاً... ولكن كيف؟
منذ قيام الثورة الصينية وتسلم الحزب الشيوعي للسلطة عام 1949 بدأت قضايا التصنيع والتنمية تطرح على بساط البحث. ضروري أن ننوه هنا إلى أن المسألة الزراعية والمجاعات الدورية التي كانت تحدث في الريف الصيني كانت من أكبر التحديات التي واجهتها السلطات الجديدة، دخلت الدولة والحزب في تحد مزدوج: يجب المباشرة بعملية تصنيع مكثّف تسد فجوة التخلّف الصناعي وخصوصاً في مجال التعدين، ويجب أن ننتشل الملايين من سكان الأرياف من خطر المجاعة ونحقق أمناً غذائياً.

نظام هيوكاو

نشأ هذا النظام في فترة الخمسينيات، وكان الهدف الرئيسي منه هو ضبط التوزع السكاني بين الريف والمدن في ظل مسعى الحزب الشيوعي في التجميع الزراعي (بما يشبه مزارع الكولخوزات «المزارع الجماعية») وتطوير الصناعة الثقيلة على النمط السوفياتي. وقد حدّ هذا التشريع من الهجرة إلى المدن عن طريق منع المهاجرين من العمل والاستفادة من الخدمات – بما يتضمن الطعام - ضمن المدن، وبذلك يجري العمل في المدينة والريف كل على حدا.

تتعلق قضية
العشوائيات بالبنية الاقتصادية والاجتماعية لبلدان العالم النامي


بعد جملة من النجاحات والانتكاسات ليست مجال بحثنا هنا بإمكاننا القول إنّ الصين حققت أمنها الغذائي، إضافةً إلى أنها بنت قاعدة للصناعة الثقيلة وراكمت مجموعة من الخبرات التقنية ستكون معيناً لها في استيعاب التحولات السياسية الكبرى التي بدأت نهاية السبعينيات على الصعيد العالمي، والتي تمثلت في تعثر التجربة السوفياتية ومن ثمة أفولها والدخول في القطبية الواحدة والنموذج الواحد على صعيد السياسة والاقتصاد.
في مرحلة التحولات الكبرى هذه أدخلت جملة من التحديثات الاقتصادية الليبرالية وبدأت عملية تحرير تدريجي وجزئي للاقتصاد مع الحفاظ على شكل النظام السياسي. وهنا كان لا بد من استيعاب فائض العمالة الضخم في المناطق الريفية لدعم التوسع الاقتصادي المتسارع. من أجل هذا حدث تعديل في نظام هيوكاو حيث رفعت تقييدات حرية الحركة والعمل، ولكن العمال الريفيين المسجلين عبر نظام هيوكاو في مناطقهم منعوا من الاستفادة من الخدمات العامة في المناطق الحضرية التي يعملون فيها، من صحة وتعليم بالدرجة الأولى. فأبناء العمال الريفيين لا يمكنهم التسجيل في مدارس المدينة ويجب عليهم أن يعيشوا بعيداً من المناطق التي يعمل فيها آباؤهم.
إذاً تتلخص السياسة العامة في هذه المرحلة في منع الهجرة الدائمة من الريف إلى المدينة والسماح بالهجرة من أجل العمل فحسب. وقد دُعمت هذه السياسة بتشريع يتعلق بالملكية مستمد من دستور الدولة الصينية. لا يسمح هذا التشريع ذو الأساس الاشتراكي الواضح بالتعامل التجاري مع العقارات والأراضي الزراعية. يتعلق هذا بشكل الحيازة والملكية الجماعية والعائلية وشكل الاستثمار. باختصار، لا يمكن للعامل المهاجر بيع أرضه أو الحصول على سعر تجاري لها، وهو معرض إذا ما هجرها إلى نزعها و مصادرتها من جانب الحكومات المحلية.
نتج من هذه السياسة خلق قوة عاملة ضخمة متدنية الأجر بشكل كبير. أصبحت العمود الفقري لتصنيع الصين و اقتصادها القائم على التصدير.
إذاً... فبينما كانت العديد من دول العالم الثالث تراكم كماً متزايداً من العشوائيات الناتجة من الهجرة غير المضبوطة إلى المدن، كانت الصين تضبط التوزع السكاني بين المناطق الريفية والحضرية عبر نظام هيوكاو للتسجيل. فتستفيد من العمالة الريفية الفائضة في دعم توسعها الصناعي، ولا تخلق مشكلة العشوائيات والتوسع الهائل لمدن الصفيح.
لا يقتصر الأمر على الصين، إذ لم تتعرض بلدان الكتلة الشرقية بشكل عام إلى مشكلة العشوائيات في المدن الكبرى كأزمة مستفحلة، حتى أننا بدأنا نلحظ تنامياً للعشوائيات منذ أواخر الثمانينيات في دول الاتحاد السوفياتي السابق مع انهيار الكتلة الشرقية.

حلول جريئة

عندما بدأ التصنيع السوفياتي يتسارع بخطى ثابتة بداية الثلاثينيات، كانت هناك طروحات جريئة مستمدة من مدرسة التخطيط الماركسي أوروبية الأصل. وقالت بعض تلك الأطروحات بإمكانية تقسيم وتجزئة المدن المركزية الكبرى وإعادة تجميع السكان في تكتلات عديدة تضم كل منها قرابة 50 ألف نسمة ليتموضعوا في نظام عمراني معين في الريف المفتوح. نحن هنا إزاء مدن عمالية تحاول أن تحل محل الميتروبولات الكبرى. وقد ظهر في الفترة نفسها طرح آخر يتحدث عن مفهوم المدينة الخيطية والتي تتضمن مناطق خيطية عدة مستمرة ومتوازية. تحتوي تلك المناطق على نشاطات الاتصالات والصناعة والفراغ المفتوح إضافة إلى المساكن والمرافق العامة لتشكل مدينة يبلغ عدد سكانها من 100 إلى 200 ألف نسمة. بالرغم من أن هذه المقترحات قد رفضت من جانب اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي عام 1931، إلا أن بعض جوانبها التقنية مارست تأثيراً في نمط البناء والتمدين السوفياتي على العموم. قد نجد هذا في عمليات الإسكان الشاملة إثر الدمار الهائل الذي تسببت فيه الحرب العالمية الثانية.
لم يقتصر ذلك على الاتحاد السوفياتي، ففي خطة التمدين التي تبنتها القيادة الصينية عام 2013 جوانب من هذه المقترحات القديمة، حيث أقرت تلك الخطة بفتح المدن و البلدات الصغيرة فتحاً كاملاً أمام عمليات التمدين واستقبال المهاجرين الريفيين ومنحهم الحق الكامل في نظام هيوكاو للاستفادة من الخدمات العامة. وإن كان هذا لا يتضمن إلغاءً للمدن والميتروبولات الكبرى وهذا مستحيل عموماً، إلا أنه يشجع انتشار نمط من المدن العمالية، تهدف إلى استيعاب الموجة الجديدة من التحديث الاقتصادي الهادفة إلى التقليل من حجم الاقتصاد المعتمد على التصدير، وإلى مزيد من الإنفاق على الخدمات والاستهلاك الداخلي.

التخلف قضية العصر

إذا نظرنا إلى مسألة العشوائيات كمسألة تقنية يتطلّب التعامل معها مجموعة من الإجراءات، نكون بذلك بعيدين كل البعد من أساس إحدى أهم المعضلات التي تقف في طريق تطور الدول النامية. تتعلق قضية العشوائيات بالبنية الاقتصادية والاجتماعية لبلدان العالم النامي. إنها وليدة سوء التناسب والتوزيع للاقتصاد المخلع الذي لا يرفد بعضه بعضاً. قضية تنمية شاملة وكيفية تعامل الفئات الاجتماعية الموجودة في السلطة مع مهمات التنمية. قضية الاستقلال بمختلف أشكاله وطبيعة العلاقة مع الدول الصناعية المتطورة، ورد فعل تلك الفئات الحاكمة على أشكال الاستغلال والنهب الاقتصادي الذي تمارسه تلك الدول، إذاً هو التخلف... وكم انتشر في القرن الماضي من أدبيات اقتصادية لتحديد مفهوم التخلف ومعالجة جوانبه ومحاولة الخروج منه... وكم نحن نبتعد اليوم من المنطلقات الصحيحة التي تم الحديث عنها. التخلف الذي يظهر كتجسيد لنمط خاص من التقسيم العالمي للعمل يحفر اليوم بعيداً في بنية دول العالم الثالث، ويخلق مشكلات من الصعب التعامل معها يوماً بعد يوم. وإذا كانت التبريرات التي تساق في هذا الصدد تتمحور حول عدم إمكان ضبط التزايد السكاني والانفجار الديموغرافي الذي يمتص جهود التنمية، (كما في مصر مثلاً). فإن التجارب التاريخية تكذب هذا الطرح. إن التنمية والتصنيع يترافقان مع انخفاض معدل الولادات كما يقول الكاتب وأستاذ الاقتصاد في ليون ج. م. ألبرتيني: «كل تطور صناعي قد أدى تلقائياً إلى تحديد النسل». إذاً ليس تحديد النسل شرط للتنمية، وإنما العكس.
أخيراً، العشوائيات هي أزمة خيار اجتماعي يسهل علينا أن نتوقع سلوكه تجاه مسائل التنمية والتصنيع والخروج من دائرة التخلف. خيار لا يمتلك حلّاً ولا يريد. فإذا نظرنا إلى الخط السياسي والتنموي العام الذي اتبعته الصين نجد مشروعاً اجتماعياً متكاملاً اتخذ خطوات جريئة، وإن مر بتعثرات. ولكن الموضوع في بلدان أفريقية وآسيوية أخرى مركب ويتعلق بالطبيعة الاجتماعية للسلطات القائمة وشكل علاقة التبعية التي تربطها ببلدان المركز الرأسمالي.
كما أنها أزمة نظام عالمي يكدس الفقر فوق الفقر في دورة دائمة تعيد إنتاج نفسها باستمرار. النتيجة الطبيعية للاحتكار والتقسيم العالمي للعمل وثنائية المركز والأطراف. القضية متفاقمة وسترسم ملامح المستقبل المقبل للبشرية. لدينا مقابل المليار الذهبي للبلدان الصناعية المتقدمة مليار آخر وأكثر ليس ذهبياً بالتأكيد ولكنه من حديد صدئ يمكن أن يصبح حاداً ومصقولاً وينتج شيئاً ذا قيمة، وممكن أن ينفجر محيلاً ما حوله إلى الخراب. وإذا كانت العشوائيات قنبلة دول العالم النامي الموقوتة فهذا التكديس اليومي للبؤس هو قنبلة موقوتة على صعيد العالم أجمع وسينفجر بوجه أولئك الذين يظنون أنفسهم يعيشون على ظهر كوكب آخر.
* باحث سوري