أمومةٌ خائفة في زمنٍ رديء
بُنَي...
راودني سؤالٌ في هذا اللّيل أرّقني: أيّ وطنٍ سيؤويك بعد رحِمي؟!
أربكني السّؤال! هل سآتي بكَ إلى المجهول يا ولدي؟ ماذا أفعل لو أقامَ الرصاص حفلة جنونه في الأزقّة؟ كيف أحملكَ بين يديّ وأعدو كغمامة؟ كيف أصون رئتيكَ الصّغيرتين من دخان الحقد؟ ماذا سأجيبكَ إن سألتني: لماذا يتقاتلون؟! كيف أرسم لكَ التعصّب؟ بأيّ لون، وبأيّ تعريف؟

ماذا لو أغراك العسكر؟! كيف أردعك؟ أنا التي لطالما حلمت أن أراكَ ضابطاً مغواراً مقداماً، كيف أشرح لكَ أنّ الدّولة متواطئة ضدّ العسكر، وأنّ العسكر يموت رخيصاً في الميدان؟! ماذا لو أغراكَ الشّعر؟ كيف أقنعكَ أنّ ما من مكانٍ للشّعر في وطن الأكاذيب؟ أنّ لا قيمة للإبداع في دكّان الفراغ؟ وأنّ رصاصةً صارت أغلى وأشهر من قصيدة؟! ماذا لو قرّرتَ أن تصيرَ معلّماً؟ هل ستصدّق أنّ المعلّم يستجدي اللّقمة من أفواه ملوك المال؟! ماذا لو كرّر الزّمن عارَه على عهدك، ونلتَ إفادة بدلاً من علامة، ماذا سأقول لك وأنتَ لا تزال تحلم بالعلامة؟ كيف أوقظكَ من حلمك الهشّ؟
أخافُ عليكَ من الخيبة تسكنك وأنتَ تحاور رجل دين، تبحث في عينيه عن اعتدال يرويك. أخافُ عليكَ من الأحزاب. من فورة الوهم. من الإرهاب! كيف أحميكَ منه إن استحلّ أرضنا وبيتنا؟ أين أخبّئك؟ إلى أين سأهرب بكَ؟ وطن القصائد سينفع حينها؟ لو نفع لهرب الشّعراء في زمن الحرب إلى قصائدهم!
كيف أؤمّن لكَ بقعة آمنة على هذه الأرض، لا تملك الطّائفيّة مفتاح سورها! كيف أبني لكَ بيديّ كنيسة في حديقتك، صغيرة كقلبك الطّريّ، تارة تبتهل فيها، وطَوراً تفرش بجوارها سجّادة صّلاة، وتصلّي حبّاً وسلاماً، فتستحيل البقعة ضوءاً، وطناً مصغّراً لا يشبه ذاك الوطن النّازف خلف السّور!
أنتَ وطني البديل عن وطني المفقود. سأغرس فيكَ حبّاً وحرّيّة، وفي سمائكَ الزّرقاء سأرسم أرزة لا يطالها الأعداء. كلّ جسوركَ سأفرشها قصائدَ من ضياء. مُحال أن يصل إليها الرّصاص، محال أن يبتر أبياتها الدّخان! كم أمقت رائحة الدّخان! اجترار للضّغينة هو الدّخان.
وأنا وأبوك، وطنك! مُدننا عشقٌ يمتدّ بلا انتهاء، وديننا ليس واحداً، ديننا مجموعة أديان ذائبة في الحُبّ، في الخير، تمدّ جسوراً نحو الآخر، جسوراً صلبة كجذع هرم في أرض قديمة.
سأسميك «نادر». حاول أن تكون مواطناً نادراً في زمن شحّ فيه النّادرون. كُن قطرة بيضاء نادرة، بذرة خير، دعوة حبّ، صرخة إصلاح. كُن قصيدة نادرة تنبض جمالاً في وطنٍ تصحَّر على أيدي بنيه وسياسيّيه، تصحّر حتّى النّزف، حتّى الإحتضار. وإن أخفقتَ يا ولدي لكثرة ما يحيط بكَ من فساد وأشرار، لا تيأس، لا تحزن، لا تهاجر، فإن هاجر النّادرون، لِمَن سيبقى الوطن؟!
دانا تقي جوهر