إنّ أسئلة كثيرة، تبدو اليوم على خط تماس شديد الاحتدام مع تداعيات وتطورات المشهد الحالي للطائفة الشيعية، ولا شك في أنها تطلّ على تلك الرؤية التي حملها قبل ثلاثة عقود الإمام موسى الصدر وتستقي منها بنحوٍ كبير. فلم تعد الطائفة الشيعية اليوم مجرد أقلية دينية تعيش وتتحرك في ما تستوي عليه أنظمة العلاقات الوطنية والإقليمية والدولية، وإنما باتت تقوم مقام الفاعل الاستراتيجي الذي يصنع المعادلات بما يتجاوز الجغرافيا اللبنانية إلى أمداء واسعة. فإذا كانت فترة الستينيات في حركة الإمام الصدر هي فترة المخاض والتبلور، فإن فترة السبعينيات هي فترة البروز والتمظهر.
في الأولى صاغ الإمام للطائفة الشيعية مداراتها بعد أن وسّع وعيها واهتماماتها وتطلعاتها. وفي الثانية قفز بها إلى صميم الواقع والحياة والمستقبل، وغذّاها بالأمل، وحوّل الخطر إلى فرصة تتصاغر أمامها جميع مآسي الماضي، وجعلها معنية بالغد، وأطلق الحماسة بين أبنائها، بعد أن كانوا مضطرين للاختباء تحت ظروف الحِجر السياسي والاجتماعي سنين طويلة.
فمنذ مجيئه، شكّل الإمام موسى الصدر دالة على ظهور الروح عند الشيعة، الروح الظامئة للتحرر من القواعد الطبقية والقيود الإقطاعية والحدود الطائفية، الباحثة عن لحظة اشتياق جارف للحرية والكرامة الإنسانية. وشيئاً فشيئاً بدأ الشيعة مع الصدر ينأون عن التوقر السلبي والعزوفية الساذجة، فقد حبّب إليهم الأفكار والنضالية والتوقّد والإيمان والثقة بالنفس. وعبر بهم من الصمت والتحرّج، إلى المباشرة والعلنية بالرؤية الأخلاقية – الاعتقادية الرحبة، وبالرغبة في الانفتاح والتعرّف والمحاورة. فتسارعت هذه الروح سرعة جريان الدم في عروقهم، وتغيرّت سرعة تردد أنفاسهم، ونبضات قلوبهم، وارتفعت فيهم الآمال إلى ذرى عالية، وامتلأت نفوسهم بالبشرى لغدٍ لا تكون فيه المواطنة والمساواة في الكرامة وشروط الأمن والأمان السياسي والاجتماعي والحق في المعرفة مسائل فيها وجهات نظر، ولا يكون الحق في التعبير عن الذات، والحضور الفاعل في ساحات العمل الوطني، مرتقى للمخاطر وسبباً جديداً للمطاردة والاضطهاد. لم يشأ الصدر أن يُدخل الشيعة في مسارات السياسة فحسب، ولا عمل ليكون لهم حظ في دوائر العلاقات الداخلية والإقليمية والدولية، ولا سعى ليرفع نصيبهم من الحياة المادية بعد أن كانت وضيعة زهيدة، ولا ليرقيهم في سلم الوظائف الحكومية بعد أن حرمهم الافتئات (الميثاقي) المشاركة الحقيقية في مواقع الدولة، وإنما جهد لإدخالهم في مساق الحداثة بمعناها الصحيح والدقيق والشامل. الحداثة بما هي تجديد في أبنية العقل وفي النظام المعرفي والقيمي والروحي والحضاري، وبما يفوق الاجتهاد الصاخب والحار، إلى ما يمكن أن نطلق عليه بأنه ثورة في المفاهيم والأصول والأعراف والطرائق والأساليب. لا خوف من الجديد، ولا انعطافة نحو ضيق جغرافي، وانتماء طائفي يؤول إلى التيبّس والاختناق، ولا حاجة للانطلاق من المشاعر والنزعات الشخصية، ولا الغرق في الماضي والانفصال عن الحاضر. الحداثة عنده تقوم على تطوير منطقي وترق في أشكال السلوك والثقافة والمعرفة، وعلى تفتحات دينية، وإبداعات خلاقة في الفلسفة والفنون والآداب والإيديولوجيا والعلوم. ولكن أهم ما في حداثويته، الموازنة بين عالم الشهادة وعالم الشهود، بين الواقع والغيب، بين القواعد العقلية والتسامي الروحي، بين العلم والإيمان، بين الرزانة والغضب، بين جاذبية الأحاسيس والعواطف الإنسانية وواجبات التحدي والمقاومة. الحداثة التي يكون لها قوة الزمن وخاصية التاريخ، جذوة الوعي واستقلالية الاختيار.
فموسى الصدر شاء أن يبعث في أرجاء هذه «العينة المستهدفة - الطائفة الشيعية»، وإن لم تكن مجاله الوحيد، خلاصات فلسفته وبسالته وثقافته، وأن يمخر بها عباب الحياة والمستقبل والاستحقاق، فانتقل بها من منطقة الاستواء إلى منطقة القطب، ومن الأطراف إلى القلب، ومن اللادور إلى الدور الفاعل والحاسم كما هو حاله اليوم، ومن الفقر والحرمان إلى الكفاية والغنى، ومن الفوضى والتشتت إلى التنظيم والتماسك، إلى أن نجح في فتح الطريق للشيعة اللبنانيين لدخول عالم جديد من التحديات والخيارات التي تجعلهم في موقع التصدر والريادة.
فأن يقوم شخصٌ من خارج التربة اللبنانية وبيئتها، وبمدى زمني لا يتعدى العشرين عاماً بتجلية مكونات هذه الطائفة، وينشغل بتحريرها من كنف العائلات الإقطاعية التقليدية، ومن التبعية السياسية ومن مضاعفات الاحتباس الطائفي، وبمواجهة وتحدي الظروف الأمنية الضاغطة التي فرضها العدو الإسرائيلي، ثم يتجه ليستعيد ذخائرها وأمجادها، ويجعل لها حضوراً عميقاً في ساحات الرأي والفكر والثقافة والسياسة والمقاومة، لهو أمر يثير في النفس الدهشة وحب الاستطلاع ويستحق فعلاً التوقّف والتأمل الطويل! في الواقع لقد أطلق الإمام موسى الصدر الإمكانات الحبيسة والمهدورة عند الشيعة اللبنانيين، وأزال العوائق التي كانت تحول دون تحقيق «الذات الشيعية» بمعناها الإسلامي ــــــ الإيديولوجي ــــ الحضاري. كان الرهان يقوم عنده من خلال تحفيزهم لاكتشاف نسغ الإسلام النابض بالجدَّة والثورية، ويقوم أيضاً على القدرة على التآلف مع حاجات الحاضر المتغير، والغد المنتظر والمأمول. وقد تألّق فعلاً في إنتاج معايير ومعادلات ومواقف ورؤى صيغت بمعظمها وفق التعاليم والقيم الإلهية. نقول ذلك، لأن الشيعة قبل موسى الصدر كانوا في الأعم الأغلب يعيشون من دون رؤية شاملة لواقعهم وموقعهم وبيئتهم ومحيطهم، ومن دون مسار واضح يربطهم ببعضهم بعضاً ويتلمسّ لهم دروب الخلاص الجماعي، ومن دون قيادة دائمة الحركة والتفاعل تستطيع القيام بدور شامل على الصعيد الوطني والقومي والإسلامي. إنّ شيعة جبل عامل بإمامة السيد عبد الحسين شرف الدين دون بقية شيعة لبنان هم وحدهم من بلور تصوراً عن أنفسهم بسبب طبيعة هذا الجبل التاريخية والجغرافية، ولكن السيد شرف الدين لم يستطع أن يؤهل طائفته للعب دور سياسي واجتماعي كبير يهدم القاعدة الإقطاعية الممتدة من الجنوب حتى البقاع، ويغيّر إيقاع الحياة العامة في البلاد كما فعل موسى الصدر. في ضوء دراسة الاعمال التي قام بها موسى الصدر، والأرض التي جرّب وأنضج فيها تصوراته ومفاهيمه في الدين والحياة، في الإنسان والوطن، في السلم والحرب، في العيش والتعايش، وفي المجالات التي تحرّك فيها إسلامياً ومسيحياً، قومياً ووطنياً، وفي المستويات والمسارات والخطوط التي تنقل بينها داخلياً وإقليمياً ودولياً، فإنّه من المفيد أن ندرك أنها جاءت تتويجاً لرحلة طويلة من الكدّ والمثابرة والعمل الشاق والمواصلة المضنية في مسالك وعرة وتؤكد استثنائية المرحلة التي عاشها على والنتائج التي تحصّلت عنها، فيما تكشف من زاوية أخرى عن وعي حاد بأبعاد الحقبة التاريخية ومفصليتها بالنسبة إلى ما مضى وبخاصة بالنسبة إلى السيرورة الزمانية للطائفة الشيعية التي استطاع أن يدفع مسيرتها فراسخ في طريق النضج والتطور.
لقد نجح موسى الصدر في جمع ما تشظى من النثار الشيعي بقاعاً وجنوباً وجبلاً في سياق رؤية تكاملت مقطعاً بعد مقطع. كان عملياً هو القطب الجاذب، ولم تكن الطائفة إلا ظلاً لحركته تدور في مداره وتهتدي وتسترشد بمواقفه، ما يكشف عن تمكّنٍ استحال هيماناً واستحواذاً على الأحاسيس والمسار والمصير. وهو الأمر الذي دفع بالشيعة في ذلك الوقت بأنّ يتشكلوا ويرتصفوا ضمن «أمة موسى الصدر».
* كاتب وأستاذ جامعي