تحت غطاء الأمم المتحدة وما يسمى خطة «سيري» أو «آلية إعادة إعمار غزة»، تقوم الأمم المتحدة عبر مكتب المنسق الخاص لعملية السلام في الشرق الأوسط بتزويد إسرائيل بقاعدة بيانات تحتوي على معلومات من شأنها أن توفّر بنك أهداف لهجمات اسرائيلية على غزة. إلا أنّ هذه الخطة والبنود التي نصت عليها غير قانونية، بل تنتهك حق الشعب الفلسطيني في الحياة، وذلك بحسب الخبير القانوني نايجل وايت Nigel White.فسّر وايت وثيقة «سيري» بناءً على طلب من مركز موارد القانون الدولي الإنساني «دياكونيا»، وهي منظمةٌ إنمائية سويدية كبرى تموّلها الحكومتان السويدية والسويسرية، بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة. لكن الأمر المستغرب، أن تلك المنظمة المذكورة أطلعت دبلوماسيين ومنظمات دولية على هذا الرأي القانوني، ولكنها حتى الآن لم تنشر تحليل وايت، وذلك بخلاف آراء الخبراء الأخرى الصادرة بتكليف منها، والتي قامت بنشرها للعلن. هذا التكتم على تلك الوثيقة يشير إلى أن التفسير الصادم والصاعق لتلك الوثيقة، الذي قدمه وايت في تقريره القانوني، قد يكون السبب وراء الإبقاء على سرية بنود آلية إعادة إعمار غزة وعدم نشرها ليطّلع عليها المستفيدون المفترضون. فقيام تلك المنظمة المذكورة بنشر هذا الرأي القانوني على الملأ، من شأنه أن يضعف طمأنات الأمم المتحدة وادعاءاتها حول تلك الآلية.
خطة «سيري» تلك، التي صاغها روبرت سيري Robert Serry المنسق الخاص لمكتب الأمم المتحدة في الشرق الأوسط «UNSCO»، جاءت بعد العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة صيف ٢٠١٤، الذي أودى بحياة ما يزيد على ٢٢٠٠ فلسطيني، حيث دمَّر الاجتياح والقصف الإسرائيلي ٢٤٠٠٠ منزل تدميراً كلياً أو جزئياً، وألحق أضراراً بنحو ١٤٦٠٠٠ منزلٍ آخر، وفقاً لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية «OCHA». فبعد وقف إطلاق النار في ٢٦ آب/ أغسطس ٢٠١٤، تفاوض منسق الأمم المتحدة الخاص لعملية السلام في الشرق الأوسط روبرت سيري مع إسرائيل والسلطة الفلسطينية على آلية إعادة إعمار غزة. وقد توصل الأطراف الثلاثة إلى اتفاق «سيري»، الذي كان بمثابة إملاء إسرائيلي يتناسب ومتطلباتها إسرائيل «الأمنية».
أبقت الأطراف الثلاثة الموقعة للاتفاقية، الأمم المتحدة عبر مكتب المنسق الخاص لعملية السلام في الشرق الأوسط، والسلطة الفلسطينية، وإسرائيل، النصَّ الأصلي لخطة «سيري» طيّ الكتمان قبل أن يُنشر في موقع الانتفاضة الإلكترونية، بالرغم من مطالب الفلسطينيين بالشفافية والنزاهة. وحسب ما نصت عليه تلك الاتفاقية، تشير البنود المتفق عليها في تلك الخطة بوضوح إلى أنّ قدرة الفلسطينيين على إعادة بناء حياتهم أضحت رهناً بالقيود الخانقة التي تنطوي عليها هذه الآلية والتي تفرض حظراً كلياً أو تقيد بشدة دخول مواد البناء إلى قطاع غزة بحجة الادعاء الإسرائيلي باستخدام تلك المواد في بناء الأنفاق. فالنظام الذي تضعه تلك الآلية ليس فقط نظاماً مُعقداً، بل يُسهم في إبطاء جهود عملية إعادة البناء حيث يتطلب موافقة مسبقة من سلطة الاحتلال التي تمتلك قرار التصديق على من يسمح لهم الحق باستيراد تلك المواد ومن لهم الحق بتسلمها.
كذلك تجمع الأمم المتحدة، عبر مكتب منسقها الخاص، من خلال تطبيق تلك الآلية معلومات مفصّلة وخاصة عن الأسر الفلسطينية في قاعدة بيانات متاحة لإسرائيل، الأمر الذي يسمح لإسرائيل بالاطلاع على تلك البيانات السرية واستخدام المعلومات الواردة فيها من سجلات الأسرة، وقيود البيوت وملاكها، كأهداف لهجماتها المستقبلية إذا ما قامت بشنّ حرب أخرى على غزة، وذلك وفقاً للرأي القانوني لأستاذ القانون نايجل وايت. فالأمم المتحدة تُعَدّ شريكة فاعلة بطبيعة الحال في جرائم إسرائيل، بما فيها جريمة الحصار الذي تفرضه إسرائيل على قطاع غزة منذ عام ٢٠٠٧. ومن خلال مشاركتها في آلية إعادة إعمار غزة، تُسهم، ليس فقط في ادامة الحصار وجعله أمراً مقبولاً دولياً، بل تنتهك القانون الدولي وتمعن في انتهاكه. ومن خلال استمرارها في تنفيذ تلك الخطة تعتبر مسؤولةً هي وحكومة إسرائيل عن الخسائر والإصابات التي تلحق بأهالي غزة، لكون قواعد القانون الدولي تفترض في هذا الجهاز الأممي الحياد والنزاهة. وكان موقع «الانتفاضة الإلكترونية» قد كشف
في ٢٠١٤ أن آلية إعادة إعمار غزة، التي كان يُفترض بها أن تسهِّل إعادة الإعمار، ستعزز فعلياً سيطرة إسرائيل على القطاع.

تُعَدّ الأمم المتحدة
شريكة فاعلة في جرائم
إسرائيل


فرغم الوعود بأن الاتفاق سيمكِّن الفلسطينيين الذين تشردوا بسبب القصف الإسرائيلي من إعادة بناء منازلهم بسرعة، إلا أنّ من الواضح أن آلية الإعمار قد أخفقت. فقد وضعت آلية إعادة الإعمار عقبات هائلة في طريق إعادة الإعمار، بحيث لم تتمكن الأمم المتحدة بحلول تشرين الثاني/ نوفمبر ٢٠١٥ من المساعدة إلا في إعادة بناء منزل واحد فقط. فآلية الإعمار تلك تُمعن في إحكام إسرائيل قبضتها على اقتصاد غزة، وتمكّن إسرائيل من تحديد مَن يحق لهم بيع مواد البناء والإعمار وتسلّمها. كذلك تتباطأ في إدخال تلك المواد، بل وترصد عبر كاميرات مراقبة وضعت في مراكز تخزين مواد البناء حركة استيراد وتسليم تلك المواد والكمية المسموح بها. كل ذلك يأتي في إطار إجراءات أمنية مشددة حيث تؤدي ندرة مواد البناء إلى ارتفاع أسعارها، الأمر الذي يُغري بعض الأسر المنكوبة واليائسة أحياناً ببيعها في السوق السوداء، بدلاً من استخدامها في إعادة البناء.
وحسب تحليل وايت، فإن الأساسَ القانوني الذي تقوم آلية إعادة إعمار غزة عليه يخضع لقواعد القانون الدولي لكونه يندرج في خانة المعاهدة أو الاتفاقية بسبب إبرامه بين أطراف قانونية دولية. فتلك الآلية تعد بمثابة عملية تبادل غير متوازن في «الحقوق والواجبات»، حيث يُلقى على كاهل السلطة الفلسطينية والأمم المتحدة الكثير من الالتزامات، بينما تحظى حكومة إسرائيل بكثير من الحقوق وعددٍ قليل جداً من الالتزامات. وهذا الأمر بالطبع يشكك في مدى قانونية تلك الآلية بموجب نظام الأمم المتحدة وقانون المعاهدات. وتظل مسألةُ ما إذا كانت الأمم المتحدة متورطة بأعمال غير شرعية موضع سؤال بسبب إدراج عملياتٍ تناقضُ التزامات إسرائيل بموجب القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، وأيضاً بسبب انضمام الأمم المتحدة إلى آلية إعادة إعمار غزة وموافقتها على الإشراف على عمليات إعادة إعمار، الأمر الذي قد يشير إلى مشاركة الأمم المتحدة بأعمال غير مشروعة.
فإبرام مكتب المنسق العام للأمم المتحدة في الشرق الأوسط لتلك الاتفاقية طبقاً لوايت يُعد بمثابة تجاوز لولايته القانونية وخرقاً لميثاق الأمم المتحدة. وفي رسالة استيضاح من موقع «الانتفاضة الإلكترونية» لمكتب المنسق حول ما إذا كان روبرت سيري أو خلفه نيكولاي ملادينوف Nickolay Mladenov قد اطلعا على وثيقة وايت، لم يؤكد مكتب المنسق ذلك الأمر، كذلك لم ينف ذلك، ولكن دافع في ٣٥٠ كلمة عن آلية إعادة إعمار غزة، وألقى باللوم على الجهات المانحة لتقصيرها في تمويل إعادة إعمار القطاع. وأشار أيضاً مكتب المنسق إلى أنه غير مخوَّل نشر النص بقرارٍ أحادي منه دون موافقة حكومة إسرائيل والسلطة الفلسطينية.
في هذه الأثناء، لا يزال نحو مئة ألف فلسطيني ممن تدمرت منازلهم يعيشون في مساكن مؤقتة، وهم لا يدرون أن مسؤولي الأمم المتحدة الذين يزعمون مساعدتهم قد أبرموا اتفاقاً غير قانوني يطيل أمدَ معاناتهم ويعزز سيطرة إسرائيل ويحصنها من العقاب. بل إن آلية إعادة الإعمار قد تُعرِّض حياتهم للخطر إذا شنّت إسرائيل هجمات في المستقبل، نظراً إلى ما توفره الآلية من معلومات تُعدُّ بنك أهداف للاحتلال. ولكن في ظل غياب الضغط الحقيقي على إسرائيل من أجل رفع الحصار عن غزة، ومن دون وجود عواقب تترتب على رفضها القيامَ بذلك، من المرجح أن تكون آلية إعادة الإعمار «مؤقتة» كما الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة الذي يوشك أن يدخل عامه الخمسين.
يحاول المشاركون في آلية إعادة الإعمار، بمن فيهم السلطة الفلسطينية بالطبع، التهربَ من المساءلة بإبقاء الآلية طي الكتمان. ولكن بِنشر هذه الوثائق، سقطت السرية وانكشفت الآلية، وعلى المتورطين في هذا الاتفاق أن يتحملوا المسؤولية عن أفعالهم.
* مستشار سياساتي في شبكة السياسات الفلسطينية: «الشبكة» ومن مؤسسي «الانتفاضة الإلكترونية»