ان المتتبع لتطورات المشهد السياسي والتغيرات الدراماتيكية التي تختبرها القضية والواقع الفلسطيني، كان ذلك على شاكلة الاشتباك العسكري بقطاع غزة وانتصارات المقاومة المؤكدة والأكيدة على الكيان الصهيوني إعلامياً وعسكرياً وميدانياً، او لحالة الحراك الجماهيري وتصعيدها البناء في مناطق الضفة الغربية والقدس والمناطق الفلسطينية التاريخية في 48، يؤكد على وجود زعزعة شاملة في البنية السياسية الساكنة والخانعة على صعيد القضية الفلسطينية على مدار 10 سنوات على الأقل في الضفة الغربية، يتبادر للأذهان تساؤلات عدة وتأملات وآمال: هل نحن امام انتفاضة فلسطينية جديدة، هل نحن امام مشروع وطني سياسي واضح المعالم؟ هل نضجت الظروف والشروط لها، وكثير من التساؤلات المشجعة والداعمة وانا من بينهم.
ولكن مقابل ذلك الاسئلة المثبطة للعزيمة وللفعل لارتباطها ببنية سياسية ارتباطاً بحكم تطورها العضوي مع اتفاقية اوسلو وبرتوكولاتها وبحكم التجارب لها في مفاصل تاريخية مهمة من محاولات الانتفاضة في 96 و98 و2008 و2010، واخيراً هل نحن جاهزين لذلك؟ ومن هو المرشح لأخذ زمام الأمور. حتى اللحظة الحالية، وبعيداً من ان التطورات السياسية والتدخلات والمواقف الدولية تجاه المقاومة الغزية الناجحة والمنتصرة، ما بين تصعيد او حديث حول هدنة قصيرة او طويلة أو كانت انسانية، نعتقد على ضوء الخبرة والتجربة ومعايشة الواقع في الضفة الغربية على الأقل منذ انتفاضة عام 2000 حتى الوقت الحالي، فإنه لا توجد بشائر انتفاضة شعبية متبلورة وواضحة المعالم في رؤية وبرنامج سياسي وطني، بالرغم من حالة الاشتباك اليومي البطولي والتضحيات وتصدر المشهد وانتشار حمى وعدوى الفعل الوطني بالبعد الايجابي بالطبع، فانعدام برنامج وطني وسياسي واضح كمؤشر ومرشد للحراك الجماهيري هو النقطة المركزية هنا وهو مهم بالمناسبة، فالجماهير الفلسطينية كما علمتنا من خلال التجربة التاريخية: ان خطابهم السياسي متقدم ومتفوق دائماً على الخطاب السياسي الرسمي للقيادات والأحزاب منذ الانتفاضة الشعبية عام 1987 حتى الهبة الجماهيرية الحالية، في هذه الأوقات، لماذا؟ لأنه لا يوجد حتى اللحظة الحالية برنامج لأي كتلة سياسية رغم ان الظروف مواتية ومشجعة لذلك.
المشكلة في الواقع الفلسطيني تكمن في البنية الذهنية والثقافية القبلية التي ساهمت في بلورتها ثقافة اوسلو وجميع الاتفاقيات السياسية التي عملت على خلق ردة فعل جمعية ومجتمعية في الذهنية الفلسطينية، من حيث استيعاب الآخر الفلسطيني بفكره وبوجوده وببرنامجه المختلف كانت اشدها ضراوة، حالة الانقسام السياسي والفلسطيني بين حركتي حماس وفتح، والتي بلورت بصورة أو بأخرى وجود توجهين وتيارين رئيسيين في المجتمع الفلسطيني ما بين قطاع غزة ممثلاً بالمقاومة العسكرية، وهذا ما اثبتته حالة الصمود والتصعيد والتجهيز العسكري والرافض لأي توجه يختلف عنه في التوجه والرؤية، وتيار آخر مسالم ومساوم ومراوغ في مكانه ممثلاً بالضفة وعاجز عن تحقيق مكاسب وانجازات بمعزل عن المقاومة الفلسطينية عسكرياً كانت او شعبية، وابرز تقدم سياسي كان على الصعيد الفلسطيني هو الاعتراف بفلسطين كدولة غير عضو، هو تقديم بديل ومنجز ملموس للمجتمع الفلسطيني كبديل من حالة المقاومة، وعلى العموم استفاد القرار السياسي من مقاومة غزة عام 2012 في تحقيق ذلك. وبعدها اتفق الطرفان على تحقيق حكومة وفاق، ولو لم يرضَ عنه الطرفان لأسباب لا تستوعب مناقشتها هنا، وهنالك فرق بين الوفاق والتوافق، لأن الأخير يستدعي حالة تفاعل وتشارك.

المرشح الوحيد
لتصعيد المقاومة إلى انتفاضة شعبية هو حركة الجهاد الاسلامي


بفعل المقاومة الغزية، التي انتصرت لحظة دك صواريخها تل ابيب وديمونا والخضيرة في تهديد واضح للهالة الكاذبة للقوة الصهيونية، وتصاعد الدماء، وجنباً إلى جنب الانجازات النوعية للمقاومة من ضرب العمق الصهيوني وأسر جندي، وتصفية وقنص عشرات الضباط والجنود... الخ شكّل امل المقاومة وثقافة المقاومة ومعنى الانتصار المادي والمعنوي، والتي غابت كثيراً عن الواقع السياسية بفعل سياسات السلطة في الضفة الغربية، دانت قيادة السلطة ممثلة برئيسها أبو مازن المقاومة لأكثر من اسبوعين وحمّلت حماس المسؤولية عن الدماء التي تقطر من الاطفال والنساء في غزة. ومع تصعيد الموقف والانجازات من قبل مقاومة غزة وتصاعد اصوات جماهيرية ناقدة للمواقف الرئاسية، واختلافات داخل حركة فتح مع سياسية الرئيس ومواقفه تجاه غزة، ومتغيرات موازين القوى وتصميم المقاومة على مطالبها في رفع الحصار اللاانساني ضد غزة والاصرار على المضي قدماً لتحقيق اهدافها، اضطر الرئيس فور عودته من قطر وفشل محاولاته الدبلوماسية في تحقيق هدنة تضمن للمقاومة مطالبها؛ إلى تغيير لهجته التي علق عليها الكثيرون بالنارية، رغم انها لم تكن كذلك وإنما كانت نارية اذا ما قورنت بمواقف ابو مازن وسياساته ومواقفه، واشار إلى تبنيه مطالب المقاومة في غزة.
إن مثل هذه الخطوة وهذا التصريح جيدان وموقف مثمن فقط إذا ما توج برؤية تجاوز اتفاقية أوسلو ومساحات التحرك السياسي به، وهذا ما لا اعتقده، لطالما تفاخر محمود عباس بعدم وجود انتفاضة ثالثة في حقبته الرئاسية لان خطه هو التفاوض والتفاوض حتى على التفاوض وفترته الزمنية كسقف سياسي يكفل له وجوده واستمراره لا كشخص وإنما كبينة من قيادات وازلام لهذا التوجه، فالقاصي والداني يعلم معارضته لانتفاضة، لأن كل انتفاضة تفرز بشكل عضوي قياداتها التي تستطيع تحميل الشعارات وترسم السياسات، وهذا ما لا ينسجم مع ابو مازن وتوجهه السياسي، ولا بد من التنويه إلى البنية التي تحكم حتى المسمى الذي يراد ان يطلق على هذه المقاومة وهي الانتفاضة الثالثة، فالمسمى تعبير مكثف عن الواقع والرؤية التي تحكمها، فالانتفاضة الأولى بحسب هذا التوجه السياسي كانت الانتفاضة الشعبية عام 1987، وتلاها السقف السياسي ممثلاً بإعلان الاستقلال وإقامة الدولة على مناطق 1967، إذاً السقف السياسي بدا من هناك، وليس من انتفاضة 1929 و1936 للتعبير عن حق الفلسطينيين في الاراضي المحتلة عام 48.
إذاً الدخول على خط الاجماع من قبل الرئيس كان من أجل تصدره للمشهد في محاولة للالتفاف على حالة الحراك والغضب الجماهيري ممثلاً بسقفه السياسي ومحاولة لابتلاع المشهد والحراك من قبل الطغمة السياسية لأزلام اوسلو. وكان ذلك كمحصلة لعملية تراضي ما بين الحركيتين (عباس ومشعل) على اهمية توحيد الموقف وخلق حالة اجماع.
أنا مع الوحدة الوطنية المجتمعة والجمعية على برنامج نضالي موحد الاسس ومراعاة الانخراط للفصائل الفلسطينية المناضلة الأخرى، ولكن هذا ما لم يحدث؟ ولهذا تعبّر هذه الوحدة السطحية عن اجماع لسياسة الإطفاء المهيمنة على المشهد السياسي، وسياسة الانبطاح على عتبات الامم المتحدة واستجداء أميركا الاستعمارية بفعلها وبسياساتها، والتي لن تكون معنية بفلتان الأمور من زمامها ولهذا انصاعوا للمشهد كنزعة انتهازية للفكر البراغماتي.
المقاومة في غزة كما هم الانبطاحيين السياسيين في الضفة لا تستطيع بلورة برنامج استنهاضي وتصعيدي له سقف سياسي واضح المعالم.
دحرجة الكرة النارية والالتزام الوطني لا يكفيان لأن تشعل انتفاضة، رغم أهميتهما في بلورة ثقافة الأمل وثقافة المقاومة التي تؤسس لفعل جماهيري واكتشاف الفلسطيني الجديد في خضم الاشتباك اليومي. وبما ان الجماهير تفتقد للحضانة السياسية والاجتماعية في حمى الإجماع الذي يخشاه المجتمع ويلجم الافكار الخارجة عنه، سيجعل منها فريسة سائغة وسهلة للانقضاض عليها. فالخواء الإيديولوجي لا يحتمل ان يشكل حاضنة وطنية مقاتلة لها أهداف واضحة واستراتيجية، وإنما ستحتوي الفاعلين الموجهين بالسقف السياسي لحالة الكمون السياسي مرة أخرة كما حدث في انتفاضة ٢٠٠٠، لأن الجماهير طوعت ودجنت على التبعية والانصياع وعدم الاستقلالية وقتل البديل المقاوم الذي بدأ بالتشكل. ولهذا فإن التساؤلات حول اندلاع انتفاضة وليس تمرد هو محض فكر رغبوي لا أكثر ويفتقد الطموح، لأنه لا ينطوي على وجود كتلة سياسية غير مرتبطة بالنسق السياسي الحالي والمهيمن على الحراك في الضفة الغربية والقدس وفلسطينيي ٤٨ ممثلة باحمد الطيبي وسقف التطبيع السياسي له، فالانتفاضة لا تكون فزعة لحدث ما آني كما هو حاصل لحد الآن، وإنما تكون متكئة على رواية ورؤية واضحة المعالم بالتزامن مع عمق محلي وعربي يحتضنها. وهذا ما لا تدعمه القرائن والمشاهدات الحالية بل بالعكس فإن الكثير من الدول العربية اولها مصر ضد ذلك وتحاربه ممثلة بالنظام السياسي، والفصائل السياسية الفلسطينية ايضاً غير متوفرة، خصوصاً التي تنضوي تحت م. ت. ف بحكم تبعيتها المالية وتحصيل حاصل السياسية منها، وانعدام عمق عربي داعم لها مادياً وسياسياً، ولذلك فلن تتخمر الشروط لها.
وإذا كان هنالك من امكانية تصعيد المقاومة الحالية إلى انتفاضة شعبية، فإن الحزب الاول والأخير المرشح لقياداتها هو حركة الجهاد الاسلامي، لعدم انطباق ما سبق عليها وتفرده التاريخي بمواقفه السياسية الحريصة والوطنية وغير المنخرطة في المنازعات والمناكفات مع السلطة او الفصائل الوطنية، إلى جانب المحافظة على عمق الحركة في العالم العربي والإسلامي خصوصاً مع إيران وحزب الله.
ولهذا إذا كان هنالك من امكانية لتصعيد المقاومة لتصبح حالة أشبه بالانتفاضة الشعبية فإن الحركة هي اكبر مرشح لذلك، ولكن هل حركة الجهاد معنية وقادرة على الاستمرار والوقوف امام التحديات؟ التي تصدرت الموقف النضالي للاحزاب والفصائل الأخرى كافة من حيث شعاراتها ومسميات عملياتها (كسر الصمت، البنيان المرصوص، كسر الحصار)، وعملها الميداني جامع لحالة الحراك ولكن يلزم قرار سياسي محلي وإقليمي لذلك، لأن الحركة استطاعت خلال العدوان على غزة ان تحصل على ثقة قاعدة كبيرة تنتظر من يستنهضها ويبادر ويحفز الاحزاب الأخرى.
* محاضر في جامعة بيت لحم ــ فلسطين المحتلة