«ويحكى أن الوزير ابن العلقمي وزير المُلك لدى خليفة المسلمين الأخير المستعصم عام 656 للهجرة، أمر بإغلاق ديوان الجند، وأغلق فيما أغلق كل ما له علاقة بتقوية أسوار المدينة (أي بغداد) تحت حجّة أنه «لن يقوى أحدٌ على النيل منا، لشدة هولنا، ومنعة صالتنا (أي شهرتنا)». حاصر هولاكو بغداد، فسقطت بعد اثني عشر يوماً، وسقطت الخلافة معها، حصل كل ذلك لسوء تقدير شخص واحد فحسب!». (من كتاب «السلوك لمعرفة دول الملوك» لتقي الدين المقريزي (بتصرف)).
ستنتصر غزة بمقاييس المقاومة، وقياس الثورات وحساباتها، ولكن ماذا بعد الانتصار؟ فالانتصار وحده لا يكفي كي تستمر المدينة في الحياة. ذلك أمرٌ بديهي، يعرفه القاصي والداني، فأي محاولة لاستمرار المدينة الساحلية في الحياة تلزمها أمور تحتاج إلى حلول مباشرة. لا يعرف كثيرون عن المدينة سوى صمودها. فغزة (وقطاع غزّة معها) صامدة منذ سنين عدّة عبر «المعونات» والمساعدات الخارجية لا أكثر ولا أقل. في الإطار عينه تبلغ نسبة البطالة في غزّة الأعلى لربما في العالم (أكثر من 50 بالمئة بحسب النائب الفلسطيني جمال الخضري)، وهو أمر يؤشر إلى أن المشكلة حقيقية بالنسبة إلى الشارع الغزّاوي. على الجانب الآخر يبدو الدمار مخيفاً وبدرجة كبيرة، فآلاف الأبنية المتضررة والعائلات المشردة تحتاج إلى حلول سريعة (شبيهة بالحلول السريعة التي قام بها حزب الله في ضاحيته الجنوبية مثلاً عام 2006)، فهل تستطيع حماس (بحكم أنها القوة الأكبر) القيام بذلك حالياً؟
يكتنف الوضع الغزاوّي غموض كبير، فماذا بعد الانتصار؟ أهل المدينة والقطاع جاهزون لمرحلة جديدة من المعارك، لربما هي تخفّف من وطأة الحصار المصري الخانق المفروض عليهم، وتسهّل عليهم لربما في بعض الأحيان الرحيل بسهولة عن هذا السجن الكبير (سواء أكان الرحيل إلى المقابر أو إلى خارج القطاع نفسه). إذاً ماذا بعد الجولة الأولى من الصراع؟ فقبل أشهر من العدوان الحالي كان الوضع الغزّاوي قريباً من الانفجار على نحو كبير، الرواتب لم تصل إلى أصحابها، النظام المصري أغلق حدوده على نحو كلي وكامل، ويقطع شرايين الحياة/ الأنفاق التي تؤمن للمدينة ما تحتاج إليه معظم الأحيان(افتخر الجيش المصري منذ مدة بكونه دمّر 1659 نفقاً منذ بدء حملة تدميرها!!)، أضف إلى ذلك طبقة جديد من المحتكرين الذي بدا أن لهم ظهراً داخل النظام نفسه، الأمر الذي أوجد حالةً كانت ستؤدي بالشارع «وحده» إلى الانفجار، وربما لو انتظر الصهيوني أكثر من هذا بقليل لكانت بوادر ثورة داخلية قد ظهرت إلى العلن.
المشروع الذي يجب أن تطرقه «الحكومة الفلسطينية»، سواء أكانت حكومة وحدة وطنية أم لا، هو إيجاد حل سريع ومنطقي للمشاكل المباشرة: إسكان الناس وتأمين حياتهم اليومية. هاتان الفكرتان قد تبدوان بسيطتين جدا، لكن تطبيقهما يحتاج فعلياً – ليس إلى دعم خارجي محدود فحسب - إلى دعم كبير. فسكان المدينة المدمّرة (خذوا مثلاً حي الشجاعية المدمر بأكمله) يريدون مكاناً كي يبيتوا فيه، ولا تنفع مراكز الإقامة المؤقتة (كالمدارس وسواها) في تأمين متطلبات الحياة على المدى الأطول (أكثر من شهرين لربما) إذ إنّها لا تمتلك أيا من مقومات الحياة (لا الصمود فحسب) فمرحلة ما بعد المعركة تختلف عن خلالها. لا يحتاج سكان غزّة إلى معونات، فهم ملّوا منها وعلى نحو كبير، فضلاً عن أن الشعور بالعجز والانتظار بعد تحقيق انتصار كبير بدمائك، فكرةٌ مخيفةٌ جدا. فالتفوق على الموت، وإعلان جدراتك بالحياة من خلال دماء أطفالك وأجسادهم، يجعلانك تستحق أن تستمر أكثر فأكثر، لكن ماذا عن عدم قدرتك على مواجهة «مصاعب» الحياة اليومية؟ ماذا عن عدم مقدرتك على إطعام من بقي حياً من أسرتك؟ والأكثر، ماذا عن عدم قدرتك على إيوائهم؟ فالبيت الذي كان «يستر» بات حطاماً. وميزة المقاومة أنها لا تقاتل فحسب، بل تحمي أهلها وجمهورها أيضا، وإلا فكيف تستمر؟
على الجانب الآخر هناك المستشفيات والمؤسسات الخدماتية في القطاع كالكهرباء والمياه. بدا أن العدو الصهيوني مصرٌ وعلى نحو كبير على ضرب البنية التحتية على نحو كامل خلال عدوانه الأخير (كما في السابق)، إذاً على الحكومة المقاومة أن تضغط على نفسها لتأمين أقل القليل في المرحلة الأولى، وما أتحدث عنه هو كهرباء لساعتين يومياً على الأقل، ومياه تكفي لغسل الأطباق والاستحمام فحسب، فعدم حصول الأمرين يعني أن عجلة الحياة لن تدور بالشكل الذي تحتمه اليومية (الرقم الوارد ساعتا كهرباء، ومقدار المياه المقصود هو المعدّل الذهبي بحسب دراسات أجرتها جامعات أوروبية عن «أقل القليل في ما يحتاج المرء للكهرباء والماء كي يستمر حياً»). النقطة نفسها يجب إدراكها في إطار آخر: ماذا عن عجلة الاقتصاد أول الأمر؟ لا أتحدث هاهنا عن اقتصاد ريعي طويل الأمد، ومؤسسات كبيرة ومصانع وعمال، ما أتحدث عنه هو أقرب إلى إيجاد أعمال تستفيد أصلاً من الأحداث التي حصلت: أعمال إنقاذ، إغاثة، إعادة إعمار، ترميم، تصحيح، تنظيف، تنظيم. كل هذه الأعمال تحتاج إلى يد عاملة من جميع الأنواع، فهل ستلجأ الحكومة إلى تأمين هذه الفرص «العملانية» أم سيجري «كالعادة» تفريغها لمصلحة «التطوع» و«الجمعيات» الخيرية التي تعمل في هذه الأماكن كالسم في العسل من خلال تفريغ المجتمع من يده العاملة عبر تشغيله لديها، فبدلاً من الانتماء إلى الدولة (موظفين/ شرطة /موظفو بلدية) ينتمون «إلى مشروع جمعية» يمتد أحياناً أشهرا فحسب، مما يبقيهم في حالة بطالة مقنّعة، ويعيدهم إليها حال انتهاء المشروع بطبيعة الحال.
نحن نطلب الكثير من الحكومة المقبلة، ذلك أمر معروف، وهو أمر قد لا تستطيعه أبدا، ولربما حتى لن تستطيع تقديم نصفه أو أقل، لكننا متأكدون أن شروط استمرارية عمل المقاومة تكمن في بيئة حاضنة قوية تستطيع الاستمرار بقوة وزخم دون خوف على حياتها اليومية ـــ العادية التي باتت هي الأخرى تحت ضغوط كبيرة يستطيع الصهيوني وأعوانه (العرب ربما؟) النفاذ منها (هل سنسمع مثلاً عن إعلان تشغيل لآلاف العمال الغزّاويين في قطر مثلاً ضمن مشاريع الإعمار لكأس العالم 2022؟ أو مشاريع أخرى في تركيا مثلاً؟ وهو مقترح يجري العمل عليه بكل جدية حالياً). تكمن المشكلة الأكبر في أنّ الحكومة (الحالية أو المقبلة) لم تحدد خياراتها الاستراتيجية بعد، فهل ستأخذ المال من قطر وتركيا أم ستأخذ المال والسلاح من إيران؟ فالخيار الأوّل هو بدون شك خط أسرع لإعادة الإعمار دون «وجع رأس» سياسي من أي نوع لحماس (صفر مشاكل مع القيادة العالمية للإخوان، صفر مشاكل مع قطر، وبالتأكيد صفر مشاكل مع تركيا/ أميركا)، ولكنه لا يحمي أبداً جناحها العسكري، الذي يحتاج إلى إعادة ضخ لما فقده خلال العدوان. الخيار الآخر يتضمن دعماً كبيراً للقطاعين العسكري والإعماري، وإن كان قد لا يتضمن جانباً «تشغيلياً»، فهو سيقطع علاقة حماس (وحكومتها) نهائياً بحلفاء الماضي، ويجعلها عرضة لضغوط مصرية أكبر. كل الخيارات تبدو مرّةً وصعبة، ومهما حاول الساسة الفلسطينيون، فسيظل الأمر أكثر صعوبة أمامهم من أي ساسة آخرين عبر التاريخ!
* كاتب فلسطيني