وجد التطرف طريقه الى كل الحقول والمجالات والديانات والعقائد والانظمة. اخترق افكاراً ومشاريع وايديولوجيات ليس دون أسباب واغراض، وخرج بالنص وعليه، بما جعل الفرع يبتعد عن الاصل الى درجة الافتراق والتناقض والقطيعة. ممارسة وكسب النفوذ والسيطرة وتعظيم الفوائد والارباح كانت هي الاهداف التي تحركت من اجلها فئات سياسية واجتماعية لجأت الى آخر القوة والعنف والاكراه لتحقيق وفرض هذه الاهداف.
العصبيات وتغذيتها واطلاق العنان لها، والغرائزيات وما يقترن بها من فقدان البصر والبصيرة، شكّلا أيضاً أداة وهدفاً في الوقت عينه. في مراحل التاريخ المتلاحقة، اجتاحت موجات التطرف حضارات ومؤسسات وبلدانا، واستطاعت أن تشعل حروباً كبيرة وواسعة ومديدة ذهب ضحيتها ملايين الضحايا، ونجم عنها اضرار وخسائر اخرى، من كل نوع، لا تقدر بثمن. كان خطر التطرف يصبح اكبر واخطر بمقدار ما كان يجري تجنيد العصبيات والغرائز في مشاريع سياسية اقتصادية ذات قدرات كبيرة واستهدافات اكبر. هذا ما فعلته النازية والفاشية، في الحرب الكونية الثانية خصوصاً، حين زجتا كل العالم، تقريباً، في حرب طاحنة ثانية كلّفت البشرية أكثر من خمسين مليون قتيل، واستُخدم فيها السلاح الذري لأول مرة في التاريخ، ضد مدينتي ناكازاكي وهيروشيما اليابانييتين!
لم يقتصر التطرف على مرحلة دون اخرى وعلى فريق دون سواه، وعلى مشاريع سياسية وايدولوجيات وعقائد بعينها. ثمة في الحقب التاريخية السحيقة والقريبة من يشبه او يتفوق على هولاكو وجنكيزخان المغوليين. من نظام الفصل العنصري الرأسمالي في «جنوب أفريقيا» إلى نظام «بول بوت» «الشيوعي» في كمبوديا، من دون أن نذكر هنا نماذج من هاتين البيئتين نفسهما، قد تكون أقسى وأعنف.
المشروع الصهيوني في فلسطين المحتلة هو بدوره ابن شرعي لاستخدام الاساطير والروايات والعصبيات في خدمة مشروع هيمنة وسيطرة لم تقتصر جريمة اقامته واستمراره على الصهاينة وحدهم.
الأديان، هي الأخرى، عرفت منذ عُرفت، حالات تطرف وغلو أدت الى حروب وانقسامات ومجازر استمرت عقوداً أو وقروناً، وذهب ضحيتها، هي أيضاً، مئات آلاف البشر. بكّر المتطرفون الذين «خرجوا» على الاسلام، دين التوحيد الجديد، بإشاعة الفتن والفوضى وممارسة القتل والاغتيال. تمكنوا عبر نجاحهم في اغتيال الخليفة الرابع، من انهاء الخلافة «الراشدة» التي يجري استحضارها الآن على شكل كاريكاتوري ومشوه ومشبوه وغريب وبعيد من روح العصر وحاجاته وعقلانيته وإنجازاته...
في العصر الحديث، حيث تتداخل مجموعة من العوامل القديمة والجديدة، السياسية والاقتصادية، العقائدية والغريزية، الاعلامية والإعلانية، الأسطورية والدينية، الصحيحة والمزورة... تتفاعل بشكل اكبر واخطر التناقضات والانفعالات، وتتبلور بشكل اسرع العلاقة ما بين الاسباب والنتائج. لا يمكن، في سياق ذلك، فصل الظلم المتصاعد عن ردود الفعل عليه. وهو بتماديه سيؤدي حكماً، إلى نشوء انفعالات لا يمكن السيطرة عليها جميعها في كل الحالات وبشكل دائم. الاستبداد هو الاخر، شكل متطرف من ممارسة السلطة بالاستناد إلى القوة وبالإفراط في استخدامها، من دون النظر في المشروعية والنتائج. وماذا نقول ايضاً عن غزو بلدان واحتلالها والسيطرة عليها بالقوة وإلحاق أفدح الأضرار والكوارث بسيادتها وشعبها واقتصادها وعمرانها وحضارتها؟ وكيف يمكن تبرير هذا العمل المتطرف وتوقع ان تكون ردود الفعل عليه عادية ومنضبطة وعقلانية في كل الاحوال والظروف والمناطق؟!
تصبح كل تلك الأسئلة وسواها أخطر في حقبتنا الراهنة، لجهة التوسع المضطرد في انتشار وامتلاك أسلحة الدمار الشامل واحتمال وقوعها في أيدي جهات متطرفة ومتحررة من كل الضوابط والقيود الذاتية والموضوعية المانعة لاستخدامها في المكان والزمان غير الصحيحين على الإطلاق...
ثم ألا تجد بدايات هذا الاحتمال الكابوسي مقدماتها في امتلاك أسلحة دمار شامل من قبل قوى ودول وعصابات قام واستمر كل وجودها على الاغتصاب والعدوان والتوسع والعنف... على غرار ما حصل للشعب الفلسطيني دائماً وما يحصل في غزة المنكوبة والصامدة، حالياً، على أيدي عصابات تشكلت في دولة وتمارس عبرها الإرهاب المنظم؟! وماذا أيضاً بشأن حالات كما هو الأمر في باكستان، مثلاًَ، حيث يتعاظم نفوذ وخطر التيارات المتطرفة واحتمال سيطرتها على السلطة كلياً أو جزئياً، مع ما يرافق ذلك من احتمال وقوع أسلحة دمار شامل في أيدي قواتها؟!
الخطير أيضاً أن ثمة قوى، كبيرة غالباً، قد لجأت إلى إستخدام التطرف وسيلة لتحقيق بعض أهدافها السيئة وغير المشروعة. هذا ما كان من أمر «المجاهدين» في افغانستان في الثمانينيات من القرن الماضي والذين حصلوا على دعم تأسيسي من قبل الإدارة الأميركية وبعض حلفائها من الحكام العرب، باعتراف مسؤولين أميركيين كانت آخرتهم وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون. هذا ما يحصل، راهناً، بشأن «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) كما بات معروفاً، وكما كشف وزير ألماني، مسمياً دولة قطر كإحدى الجهات الممولة لتنظيم «داعش» ومشروعه! ولا يجب أن ننسى، أيضاً وأيضاً، أن بعض الدول يرعى وينظّم، رسمياً، عملية الترويج لمذاهب فقهية تقوم أساساً على التكفير والغلو والتطرف (أشار إلى ذلك تقرير رسمي أميركي أيضاً بعد تفجيرات 11 أيلول الشهيرة).
بشيء من التعميم أو العمومية، يمكن بالتأكيد ربط نشوء رد الفعل المتطرف بفعل العنف واستخدام القوة وممارسة الظلم والاستبداد من قبل الحكومات والجماعات... لكن ذلك لا ينفي أيضاً حقيقة أن العنف يصدر، أحياناً، عن نزعات فردية مغامرة ومنفلتة، وعن عصبيات عمياء، تستسهل الالغاء والمجازر والابادة، وتحطِم العادي والمألوف، وتمارس اقصى الغرابة والعبثية والنزوات في التعامل مع الاحداث والبشر والبديهيات الحضارية التي تراكمت بفعل الخبرة والضرورة والتقدم والوعي والحضارة.
لكن، رغم فداحة الخسائر والمخاطر، ينبغي ملاحظة أنّ حبل التطرف كان قصيراً في كل مراحل التاريخ، وان عاد وأطل برأسه مجدداً بعد فشل وأفول. لم تنجح حركة متطرفة في تحقيق انتصارات دائمة وفي فرض منطقها الا لفترة محدودة. كانت مراحل سيادة التطرف المتطرفين، طال بطشها وحكمها ام قصُر، تنتهي الى السقوط، ولو بعد اثمان باهظة.
لقد توحّد الخصمان الرأسمالي والاشتراكي ضد العدو النازي والفاشي وهزماه شر هزيمة في الحرب الكونية الثانية. يلهم ذلك توجهاً ينبغي بلورته اليوم، لمواجهة التطرف الذي يستخدم الدين اداة لممارسة ابشع انواع القتل والاجرام والاكراه والتهجير والعبثية.
ما نشهده اليوم، من تحركات واتصالات ومواقف يشير الى بداية مرحلة جديدة في التعامل مع التطرف والمتطرفين وداعميهم. لا يجب التردد في التوحد في معارك التصدي للإرهاب واللإرهابيين مهما تباعدت المواقف والمصالح بشأن القضايا والمسائل الأخرى. لا بأس أيضاً من مراجعة الحسابات والأساليب الفئوية والخاطئة!