التوسّع الذي يقوم به «داعش» في العراق وسوريا ليس بالأمر اليسير إطلاقاً. فلكي يتقدّم هذا التنظيم الوظيفي شبراً كان عليه أن يحطّم المجتمع الذي يجابهه، وخصوصاً بعدما تبيّن أنه لا يعوّل على الشرائح المحلّية، ولا يسعى إلى طمأنتها. هو يتصرّف بالضبط كعصابة، والعصابات لا تعمل عادة بمعيّة المجتمع، ولا تصل إلى مبتغاها إلا بتحطيمه. «داعش» بهذا المعنى هو قوّة خارجية صرفة ولا تمتّ إلى المجتمع الذي «يحتضنها» بأيّ صلة.
يكفي أنه يعمل بلا أعراف أو تقاليد، ويتعمّد غالباً إجبار أبناء البيئات التي تخضع له على معاكسة كلّ ما ورثوه عن أهلهم، وخصوصاً إذا كانوا من أبناء العشائر. يفعل ذلك بمعيّة الريع النفطي الذي يديره على نحو بدائي، ويظنّ أنه سيشتري عبره ولاءات كلّ من أخضعهم، سواء كانوا حلفاء أو خصوماً.

«داعش» سورياً

لا تعمل المعارضة السورية المسلّحة (ما يسمى «بالجبهة الإسلامية» و«الجيش الحر» و...الخ) خارج عباءة «داعش» بهذه الطريقة، فهي وان كانت تعتمد على الريع أيضاً إلا أنها لا تستعمله خارج «الوظيفة الاجتماعية» المباشرة لهيئاتها (وأقول مجدّداً عن هذه الهيئات أنها وهابية صرف). تعمد مثلاً بعد اقتطاع الجزء المخصّص للعمل العسكري إلى «توزيع الباقي» على السكّان بغرض كسب ولائهم ومنع انتقالهم إلى جانب النظام أو المقرّبين منه بعدما أصبحت التسويات معه مصدراً آخر للدخل بالنسبة إلى المقاتلين القدامى. المقصود بذلك أنّ المعارضات التابعة للخليج (السعودية وقطر تحديداً) تحرص على تماسك بيئتها في مواجهة السلطة، وتمتنع عن أيّ عمل يضرّ بهذا الاصطفاف، وحين تتسبّب بتحطيم هذه البيئة في المواجهات العبثية مع النظام تعمد إلى الاعتذار من مواليها، ولا تفرض عليهم خياراتها التالية بعد الهزيمة. لا يعني ذلك أنها أخلاقية بالضرورة، فقد سبق لها أن ارتكبت مجازر ضدّ المدنيين الموالين وحطّمت بيئات اجتماعية بكاملها، ولكنها بفعل تغليب المصلحة المحلّية تصبح أفضل بكثير من «داعش»، رغم أنها تصدر عن المرجعية ذاتها التي صدر عنها ذلك المسخ. هذا الحرص على البيئة الحاضنة يجعلها على تماسّ بأكثر من بيئة، ويبقيها على تواصل مستمرّ مع الخصوم الذين تستهدفهم بالقتل والترويع. هي تعرف أنّ للحرب قوانينها وأنّ الصمود في ظلّ الحصار الذي يفرضه النظام عليها سينكسر في النهاية، وبالتالي ستحتاج إلى السلطة لكي تقنعها بالإبقاء أقلّه على البيئة التي حضنتها، وعدم الإجهاز عليها كما فعل مجرموها - أي السلطة - مع بيئات أخرى. التسوية هنا لا تصبّ في مصلحة النظام فحسب، وإنما تحفظ أيضاً ما تبقّى من بيئة المعارضة، وتبقي إمكانية القتال قائمة ولو بوتيرة منخفضة في حال فشل الهدنة أو التسوية. المجتمع بشقّيه الموالي والمعارض يستفيد من هذه الاستراتيجية، فمن جهة يحافظ على تماسكه الشكلي، ومن جهة أخرى يحفظ للكتل الاجتماعية وجودها ويدعها تمارس حياتها اليومية وتتبادل فيما بينها تجارياً واجتماعياً و... الخ. في كلّ المدن السورية التي تتجاور فيها بيئتا المعارضة والموالاة يحصل هذا الأمر، ولا يلقى استهجاناً من أحد، لا بل إنّ استمراره بهذا الشكل يعني أنّ الحياة في ظلّ الحرب ليست مستحيلة كما نعتقد، فهي ممكنة طالما استمرّ هذا التوازن قائماً ولم تتدخّل قوّة من خارج «القوّتين المسيطرتين» لكسره. هذه القوّة اليوم هي «داعش»، وهي إذ تتقدّم لكسر التوازن ذاك تعرف أنها تملك من الموارد المادّية والبشرية ما يكفي لاستقطاب من لم تستطع استقطابه بالإخضاع والترويع وحدهما. في مرحلة معيّنة كانت تهتمّ بتقديم المعونات الغذائية إلى السكّان المحلّيين، وتعد بمحاربة ظواهر الفساد التي تفشّت بين صفوف المعارضة السابقة لنِشأتها. هذه الحقبة انقضت الآن، فهي لم تعد بحاجة إلى «التمكين» واتباع استراتيجية «الخطوة بخطوة»، إذ إن مواردها المادية باتت تكفي لتجنيد الآلاف من السكّان خلفها، ومن يرفض منهم الانضمام إليها سيصبح في خانة الأعداء والخارجين عن الملّة، وعليه حينها أن يواجه مصيره. هذا التحوّل ليس اجتماعياً بالضرورة، فالتنظيم لا يعنيه المجتمع في شيء، ولا يهمّه بالأصل أن يكون متماسكاً خلفه في مواجهة السلطة. في دير الزور مثلاً عمد إلى قتل العشرات من قبيلة «الشعيطات» إثر تمرّدها عليه ورفضها لسياساته الهمجية ضدّ السكان المحليين، ومن المعروف أنّ القبائل هناك ليست هامشية، ولا يمكن بالتالي تجاهل دورها في تنظيم شؤون المجتمع المحلّي بعد انهيار النظام وانحسار سلطته عن مناطق واسعة في الجزيرة. من المؤكّد أنه سيواجه مستقبلاً حركات تمّرد مثل هذه، وسيسحقها بالطريقة نفسها إن لم يكن بطريقة أعنف، فهو بهذا السلوك يعتقد أنه يحافظ على سلطته ويمنع آخرين من مجرّد التفكير بمعارضتها. النظام فعل ذلك في البداية وحطّم ليس فقط الثائرين على حكمه وإنما بيئاتهم الاجتماعية أيضاً، ولكنه مع تطوّر الحرب التي أتت على قوّاته أيضاً أخذ يفكّر بطريقة مختلفة لإعلان «الانتصار» على فصائل المعارضة.

«داعش» لم يعد بحاجة إلى «التمكين» واتباع استراتيجية «الخطوة بخطوة»

اتبع استراتيجية الحصار المحكم على البيئات الحاضنة للمسلّحين المعارضين، وتركها تئنّ تحت وطأة الجوع والفاقة، وحين أبدت استعدادها «للاستسلام» «سلّمها مقاليد الأمور في مناطقها» وأشرك مقاتليها في اللجان الأمنية المشتركة التي شكّلت لتفادي اندلاع الاشتباكات مجدداً. كانت هذه هي الطريقة الوحيدة لحفظ ماء الوجه أمام البيئات الموالية التي أدمتها هجمات المعارضة، والحال أنها أثبتت فاعليتها حتى الآن، عبر ترك المجتمع بشقّيه يتظاهر أنه بخير. السلطة هنا أخمدت التمرّد، ولكنها تركت الباب مفتوحاً لعودة المتمرّدين إلى «حضن الدولة» (في الحقيقة لا يوجد تعبير أكثر هزلية وبؤساً من هذا لتوصيف ما تفعله السلطة ببيئات المعارضة). أيضاً، سمحت لهم بمعاودة حمل السلاح، على أن يكون ذلك ضمن الإطار الذي حدّدته، وهو إطار يصبّ في مصلحتها ويدعم روايتها الانتهازية عن «المصالحة الوطنية». طبعاً، هذا سلوك فاشي بكلّ المقاييس، ولكنه أفضل بالنسبة إلى المجتمع من ذاك الذي يتبعه «داعش» حين يريد إخماد تمرّد قام ضدّه. يكفي أنّ السلطة تعرف حدود قوّتها وتدرك بالتجربة الملموسة أنها عاجزة عن إخضاع «الكلّ الاجتماعي» الذي انتفض ضدّها، رغم أنّ ما يتوافر لها من الموارد والإمكانات أكثر بكثير حتى الآن مما هو موجود لدى «داعش». لا يقدر أحد على فعل المزيد في مواجهة مجتمع «ينتفض عن بكرة أبيه»، ويسقط له قتلى بالمئات يومياً، ولو جرّبت أيّ دولة أخرى إبادته فستضعف بدورها، وستصرخ كما فعلت السلطة هنا طلباً للتسويات وحفظ ماء الوجه. هذا يحدث مع الدول على الدوام، ليس لأنها عاجزة عن إدامة البطش فحسب بل لأنّ ثمة حقائق اقتصادية واجتماعية تفرض نفسها في النهاية، وتضع حدوداً لقدرة أيّ مؤسّسة عسكرية أو أمنية على الصمود في مواجهة الشعب.

«داعش» وإنهاء التراكم البشري

ولأن «داعش» ليس دولة كما يزعم، ولكونه يفهم الاقتصاد على أنه سلسلة من عمليات التبادل البدائية (وخصوصاً بيع النفط) فهو لن يتصرّف بالتالي كما تتصرّف الدول، وسيبقى يبطش بالناس إلى أن يأتي اليوم الذي يصبح فيه عاجزاً عن إدارة حيّ من أحياء الرقّة. بهذا المعنى تصبح «التسوية الاجتماعية» بالنسبة إليه نكوصاً عن الفعل الأصلي الذي هو الحرب بلا أفق أو نهاية، إذ إنّ «التراكم» الوحيد المسموح به بالنسبة إلى هذه الحركات الإبادية (كما يسمّيها الزميل عامر محسن) هو ذاك الذي يحطّم المجتمع ويمنعه من إجراء تسويات الحدّ الأدنى. «داعش» بعكس الدول يعتبر التسوية محطّة من محطّات الحرب، ويظنّ أنه قادر بذلك على إحداث قطيعة مع الفعل البشري البديهي الذي «يقدّس» العمل والبناء و... الخ، لا بل هو يعتقد بقدرته على تحطيم هذا الفعل بالذات، وبالتالي إنهاء كلّ ما ترتّب عليه من تراكمات اقتصادية وثقافية واجتماعية خلال القرون الأخيرة. تحطيمه للأضرحة والكنائس والرموز العائدة للمذاهب الإسلامية والديانات التوحيدية الأخرى (حتى الإيزيدية التي يعتبرها البعض «طقساً وثنياً» تؤمن بالتوحيد ولا يُستبعد أن يكون «داعش» قد استهدفها بسبب ذلك) يصبّ في هذا المجرى، وكذلك قتله البشع للضحايا بأعداد كبيرة، على اعتبار أنّ هؤلاء فائضاً يمكن التخلّص منه بسهولة، وخصوصاً أنهم لا يوالونه ولا يؤمنون بمشروعه القائم على تحطيم المجتمع ومنعه من إحداث التراكم المطلوب لتقدّمه. وهذا بالضبط ما يجعل من مشروعه أمراً مستحيلاً، فهو يحارب الجميع بدءاً بالمجتمع المحلّي مروراً بحلفائه السابقين ووصولاً إلى الدولة (رغم أنه يقدّم نفسه كدولة!)، وحين يسمح بوجود نشاط اقتصادي أو اجتماعي «داخل حدوده» يكون ذلك من باب الحفاظ على «نسق انتاجي» يسمح للناس بالبقاء أحياء، ويمنعهم من التفكير في أمور أخرى غير لقمة العيش، أي تماماً كما تفعل أيّ سلطة قمعية أخرى. لكنه ليس أيّ سلطة، فما يقدّمه لأتباعه ليس بالضبط مشروعاً سلطوياً، وإنما طاقة احترابية قادرة على التدمير فحسب، وهذا كما قلنا يتناقض مع مشروع الدولة، أيّ دولة ويقوم على أنقاضه. اللبارحة فقط قتل «داعش» أكثر من سبعين مواطناً ايزيدياً في قرية «كاوجو» العراقية جنوب شرقي «سنجار» بعدما رفضوا تخييره لهم بين «الإسلام» والقتل، وقبلها أعدم بوحشيّة العشرات من قبيلة «الشعيطات» المنتفضة ضدّه في دير الزور السورية، والأرجح أنه سيقتل المزيد معتمداً على موارد مادّية كبيرة وقدرة لا بأس بها على التحشيد ضدّ الدول والمجتمعات بشكلها الحديث. حتّى وهو يقتل وينهي التراكم البشري والثقافي والاقتصادي في تلك المناطق لا يزعم أنه في صدد تقديم أيّ «بديل» آخر. لا يحتاج أصلاً إلى تقديم بديل، فهو يختصر كلّ هزائمنا واخفاقاتنا في السنوات الأربع الفائتة، ويقدّم نقيضاً جاهزاً لكلّ دعوات التقدّم والقطيعة الثورية التي أطلقت أثناء الاحتجاجات في مصر وتونس وسوريا واليمن و... الخ. سجّلوا عندكم: يعتمد على فائض القوّة والرعب وحدهما، ويعيد الناس إلى أنماط تبادل اقتصاي بدائية. يبيع النفط إلى تركيا عبر وسطاء، ويوزّع ما يفيض عن حاجته من أموال (أي ريع) إلى الناس. يستخدم اليوتيوب في الدعاية لأعماله الوحشيّة، ويفرض على الرجال والنساء ارتداء الزيّين الباكستاني والأفغاني (بالأحرى الزيّ الطالباني لأنّ تراث البلدين غنيّ جدّاً ويتجاوز بأشواط ما فعله «الإسلام» الوهابي بهما)، وتعليم أولادهم بحسب المناهج الوهابية حصراً - آخر تقليعاته في هذا المجال إلغاء مادتي الكيمياء والفلسفة من المناهج التربوية - ماذا أقول عنه أيضاً؟ هو بالفعل كتلة متناقضات، ولكنه رغم هذه التناقضات يتقدّم ويكسب أرضاً على أنقاض دول ومجتمعات وحضارات قديمة وكتل اجتماعية تاريخية. بهذا المعنى فقط يصبح «داعش» هو «معضلتنا الأساسية والوحيدة»، ولأجل حلّ هذه المعضلة بغرض تفكيكها علينا أن نؤجّل أشياء كثيرة: الأسد أو نحرق البلد، الأسد أو لا أحد، حسن نصر الله أو محمّد الضيف، يحرق روحك يا حافظ، المالكي أو ثورة العشائر، الموت ولا المذلّة... الخ. وضّبوا هذه الشعارات من فضلكم، فلدينا عمل يجب أن ننجزه.
* كاتب سوري