من أسوأ العبارات التي سمعتها في السنوات الأخيرة جاءت على لسان «ناشط» لبناني، كانت زوجته قد حصلت للتو على وظيفة في مؤسسة أجنبية تعمل على إغاثة اللاجئين السوريين. كان الراتب «أجنبياً» وضخماً، لا يشبه الفرص المعتادة في الاقتصاد المحلّي، وكان هذا النوع من التمويل والرواتب قد بدأ بالدخول إلى لبنان والانتشار، بخاصة مع تدفّق المنظمات والمشاريع واللاجئين إلى البلد إثر الحرب السورية. حين لاحظ أحدهم ميزات الوظيفة وراتبها المرتفع ابتسم اللبناني ابتسامةً عريضة وقال: «هذه من بركات الثورة السوريّة». بالطبع كان ذلك في أبشع سنوات الحرب، والمدن تدمّر والقتلى بالآلاف والناس تنزح من كلّ الجهات. هذا الموقف يختصر سلوك الكثير من اللبنانيين، وبخاصة النخب وناشطي التمويل، تجاه المأساة التي حلّت بالبلد الجار: هم دخلوا في الحرب السوريّة بشكل أسرع وأكثر حماساً من أهلها، ورقصوا حول النّار وهي تشتعل، واعتبروا نزوح الملايين من السوريين «مكسباً» سياسياً لهم. واليوم، حين لم يعد هناك من مجال لاستخدام هؤلاء الفقراء، انقسمت هذه التيارات اللبنانية إلى قسمين: واحدٌ يحرّض عليهم ويريد طردهم والآخر يبدو وكأنّه يرغب ببقائهم نازحين وابقاء بلدهم محاصراً جائعاً، حتى يستمرّ التمويل. والفئة الثانية، بالمناسبة، هي الأسوأ، وإن تكلّمت بلسانٍ ليبرالي؛ فهؤلاء لا يكتفون بالمساهمة في دمار الدّول وأذية النّاس، بل هم يفعلون ذلك دوماً من أجل مقابل ومال وليس عن قناعة، وهذه أخطر أصناف المرتزقة.

عن المشكلة
في أساس موضوع النزوح السوري في لبنان مسألتان مرتبطتان. الأولى، بالطبع، هي الحرب وظروفها والتهجير الذي أنتجته، ولكن الجانب الآخر هو أنّ لبنان كان يلعب، تاريخياً، دور «المستوعب» (sink) لنسبةٍ من العمالة السورية الفائضة. سنشرح: منذ أواخر الستينيات وسوريا تشهد بعضاً من أعلى معدّلات النموّ السكاني في العالم، وقد كان هذا هو التحدّي الأبرز للمخططين السوريين على مرّ العهود: كيف تستوعب هذا الانفجار السكاني وتؤمن خدمات ووظائف لكلّ هؤلاء الناس. المسألة هي أنّ الطبابة والخدمات قد وصلت إلى الأطراف السورية في مرحلة مبكرة نسبياً، ولكن المجتمع السوري ظلّ في غالبيته ريفياً. وحين يكون لديك بلدٌ تعرّض لتحديثٍ نسبيّ وأصبحت فيه خدمات ودعم وتعليم وطبابة، ولكنه ظلّ ريفيّ الطابع، فهذا في العادة يعني شيئاً واحداً: الكثير من الأولاد والعائلات الكبيرة. أنت هنا في مجتمع تشجّع ثقافته ونمط الحياة فيه على الانجاب، وفي الوقت نفسه، سوف تهتمّ الدولة بتعليم أولادك وتطبيبهم، بل وتعطيك دعماً في كلفة الطعام والطاقة وأدوات الانتاج، فلا حافز لديك إذاً لكي لا تنجب الكثير من الأولاد.
ما يحصل عادةً، في مراحل التحديث الأولى، هو أن النسبة الأكبر من الريفيين تنتقل إلى المدن لكي تعمل في الصناعات والقطاع الحديث، حيث يكون انتاجها أكبر وقيمته أعلى من الزراعة، وفي الحياة المدينية تصبح العائلات أصغر ويقلّ الانجاب - إلّا أن هذا لم يحصل في سوريا. لم تتطور الصناعة بشكلٍ يستوعب هذه الملايين، ولا كان النموّ كافياً لمواكبة التضخم السكاني. حتى الخدمة العسكرية ذات المدة الطويلة كانت، في جانبٍ منها، طريقةً لامتصاص أعدادٍ من الشباب وتأخير دخولهم إلى سوق العمل. نقل عن وزير الاقتصاد السوري السابق جملةً قالها في مؤتمر دولي، بعيد اشتعال الحرب في سوريا؛ قال الوزير ما معناه «كدنا أن نتجاوز التحدّي، كان يلزمنا بعد سنتين أو ثلاثة لا أكثر». وهي مقولة قد تعكس طريقة تفكير المخططين في سوريا في السنوات الأخيرة قبيل الحرب، شيء يشبه سياسة الانتظار والصلاة: أن تبقي الأمور على حالها قدر الامكان، تسحب الدعم الذي لم تعد قادراً على تحمل كلفته، تأمل أن يحفظ النظام الأمني السلم الاجتماعي، وتنتظر لكي تنحسر الموجة الديموغرافية من تلقاء نفسها، ولا تعود في حاجة إلى خلق مليون وظيفة كلّ سنة.
هذه «المشكلة الديموغرافية» ظهرت بوضوحٍ خلال الثمانينيات، وتفاقمت في التسعينيات وما بعدها، وقد كانت من «نتائجها الجانبية» ظهور العمالة السورية في لبنان. الدول المحيطة بسوريا، باستثناء لبنان، هي إمّا مغلقة عليها أو لا تستقبل عمالة، فأصبح لبنان هو الجاذب الأساسي لجانبٍ من العمالة السورية «الفائضة» في الريف. لمن يتذكّر، العمالة السورية في لبنان، في أوائل التسعينيات، كانت محصورة تقريباً في قطاع البناء، وتعدّ بعشرات الآلاف لا أكثر (على الهامش: الموضوع كان فيه استفادة عظيمة لجميع اللبنانيين، رأسماليين وملاكاً ومواطنين؛ تخيلوا كم كان سيصبح سعر الشقة في بيروت من دون العمالة السورية في تلك الأيام). مع مرور السنوات بدأت العمالة السورية بالدخول تدريجياً في باقي قطاعات الخدمات: التوصيل والبيع والمطاعم والزراعة؛ وبعد الحرب السورية أصبح السوريون، في هذه المجالات، هم أغلب الطبقة العاملة في البلد. قبل الحرب السورية، كان موضوع العمالة أيضاً مربحاً للجميع: المواطن السوري يعمل في الخارج، ينسحب من سوق العمل، ويدخل دولارات إلى البلد، وهو في الوقت نفسه يستفيد وعائلته من نظام الدعم والضمانات في بلده الأمّ (وهذا ما كان يسمح بالرواتب المنخفضة التي ينالها السوريون مقارنةً باللبناني).
الفكرة هي أنّه، ولو لم تكن هناك حربٌ ولجوء، فإن حجم العمالة السورية في لبنان يرتبط بوضع الاقتصاد والإعمار في سوريا، إن كان هناك - قبل الحرب - «فائض» من أربعمئة ألف عامل سوري في لبنان، مثلاً، فإنّ العدد بعد الحرب وسوريا مدمّرة سيفوق المليون. وبدلاً من أن تأتي أكثرية العمال من أريافٍ ومدن قريبة إلى لبنان أصبحوا يأتون حتى من أقاصي الشرق السوري. بكلمات أخرى: عدد السوريين في لبنان هو من وضع الاقتصاد في سوريا، وإن لم يحصل إعمار ولم تعد الحياة والنشاط إلى البلد، فإنّ الكلام عن «اخراج النازحين» سوف يظلّ بلا معنى، ولا يصرف إلا في سوق العنصريّة.

عن الحلول
لا بدّ من التنبيه، بدايةً، إلى أنّه لا يجوز عقد أي مقارنة بين النزوح السوري في لبنان وبين حالات الهجرة واللجوء من بلاد العالم الثالث إلى دول الغرب الصناعي. الحالتان مختلفتان للغاية وأي مقايسة بينهما هي باطلة، وتهدف غالباً للتخويف والتحريض. هنا، لا توجد محيطات تفصل بين اللاجىء وبلده الأصلي، ولن يقول بعد عشر سنوات «أولادي تعلّموا الألمانية وهم غير قادرين على العودة إلى سوريا والحياة فيها». الحدود هنا هي أمامك، واللغة والتعليم والعادات بين البلدين متشابهة، فلا حجّة لأحد بأن «يتوطّن» لديك وأرضه أمامه. الطريف في الموضوع هو أنّي استخدمت، في مقالٍ سابق، تعبيراً ابتكره العنصريون الأوروبيون - «الاستبدال العظيم» - كنوعٍ من مزاح، فإذ بي أجد اللبنانيين يشهرونه بالفعل للكلام عن النازحين السوريين، ولكن بكلّ بجدّية.
هنا، على الهامش، لا بدّ أن أقول شيئاً هنا عن ظاهرة حديثة تتمثّل في ترجمة واستيراد أسوأ عناصر الثقافة الغربية إلى خطابنا. أنا هنا لا أقصد المتن الثقافي في الغرب، بل نظريات العنصريين والمجانين، وكلام الذكوريين الهامشيين في أميركا. المشكلة هي أنّي أعرف بالضبط مصدر هذه التخريفات: أنا رائدٌ شبه محترف للإنترنت منذ أول أيامها، وأنا أتابع منذ زمنٍ بعيد مواقع مثل «ريديت» أو «فور تشان» - وذلك لكي أعرف بماذا وكيف يفكّر الذكر الأميركي الأبله. المسألة هي أني كنت أقرأ هذه النظريات لأني أجد أصحابها رجالاً مضحكين ومثيرين للشفقة، نمطٌ من التسلية اللئيمة، وقد تمّ انتاجهم - هم وعقدهم - في سياقٍ مختلف تماماً عن سياقنا، فإذ بي أجد الكلام نفسه يكرّره شباب عربي على لسانه مترجماً.
هناك أيضاً موضوعٌ آخر هو من العجائب التي يختصّ بها لبنان. فكرة العداء للأجانب قديمة ومعروفة، وأن يكون في البلد تيّارٌ قومي متطرّف (nativist) ليس غريباً. ولكن، في الغرب، يكون هؤلاء الـ nativists عادةً أناساً ريفيين فقراء، رجلٌ ذو لحيةٍ كثة يعيش في كوخ خشبي بين الجبال مع كلبه وبندقيته، وهو يكره المكسيكيين والمسلمين ولا يريد أن يراهم حوله. وهو يقدّس أرضه ولن يخرج منها مهما صعبت ظروفه واشتدّت. في لبنان، فقط، تجد أناساً يعتنقون هذه القناعات، ويعيشون في ذعرٍ من أن «يستبدلهم» السوري، ولكنهم يعيشون أصلاً خارج البلاد وليسوا فيها! ما الذي تريد أن تقوله هنا، أنك تعيش في الخارج ولكنك تودّ أن «تحجز مكانك» في البلد؟ وكيف تريد فعل ذلك؟ عبر طرد أناسٍ يعيشون فيه - شيء لا يصدّق.
المشكلة تتفاقم حين يدخل ناشطو التمويل الخارجي في موضوعٍ داخليٍّ حسّاسٍ كهذا. هؤلاء الناس هم فعلياً كما يصفهم اليمين في الغرب: لا يملكون وطناً ولا أرضاً ولا انتماءً، موطنهم شبكة تمويل عالميّة


الموضوع الأساس هنا هو إعمار سوريا، البعض لا يفهم معنى النزوح من الحرب وأنه ليس مرتبطاً حصراً بالعمليات العسكرية. أسأل من يعيش في سوريا، أو خذ سيارة واعبر في ضواحي دمشق أو أرياف مثل خان شيخون واللطامنة وسراقب وغيرها. مناطق مدمّرة بالكامل، لن تجد بيتاً واحداً في كلّ القرية يقف على أعمدة. قرى بأكملها فرغت من الحياة ولم يبدأ إعمارها إلى الآن. إن كانت قريتك، والقرى التي حولها أيضاً، مدمّرة وقد هجرها أهلها، فإلى أين ستعود؟ هذا يشبه أن يقال لي، وأنا لاجىء، أنه لم تعد هناك حربٌ في لبنان وخطر، ولكن صيدا وصور وبيروت وكل مكان أعرفه في البلد مدمّر ومهجور. إلى أين أعود؟ إلى البقاع أو طرابلس؟ سأكون تماماً مثل الغريب.
هذا هو مختصر الحالة اليوم، والمسألة سياسية «جدّاً» ولا يمكن مقاربتها إلّا من هذه الزاوية. بمعنى آخر: «الكتلة» الكبيرة من النازحين السوريين سوف تعود إلى أرضها وقراها فقط حين يبدأ الإعمار ويبدأ أهل سوريا في الخارج بالرجعة إليها. إن كنت حقّاً تريد عودة النازحين فإنّ عليك أن ترفع الحصار عن سوريا، وهنا لبّ المسألة وجلّ ما فيها. إن كان الغرب قد قرّر أن يترك بلداً كاملاً يموت تحت العقوبات والحصار، وأن يظلّ مدمّراً بلا إعمار، فهنا المشكلة الأساسية والجريمة الماثلة، والنازحون هم عارض جانبي لها. في سوريا، أصلاً، موجة نزوح داخلية هائلة من هذه الأرياف والمناطق التي دمّرت صوب المدن الكبرى؛ فهل يرجع النازح إلى سوريا لكي يتكدّس مع عائلته إلى جانب هؤلاء؟ في لبنان، على الأقل، أنا أمتلك عملاً ودخلاً، وبعض المعونة من المنظمات الدولية، ولكني في دمشق سأكون جائعاً (فكرة أن المنظمات الدولية مستعدّة لإعانة السوري وهو نازح، ولكنها تحاصره وتجوّعه إن أصبح داخل بلده، هي في ذاتها مفارقة كونيّة).
الموضوع سياسي، والأفكار الساذجة عن «ترحيل النازحين» إلى سوريا مدمّرة لن تصل بك إلى مكان. حتى لو رحّلتهم فهم سيعودون بالتهريب عبر الحدود. ولكن الأفكار الساذجة قد توصل إلى نتائج خطيرة، هل تريد طردهم بالقوّة وفتح نزاعٍ معهم؟ هل فكرت في الموضوع قليلاً؟ ماذا لو قاموا عليك؟ ألن تضمن هنا، على الأقلّ، أن يدخل البلد في دوامة عنف مدمّرة؟ هل ستقوم وقتها بحملات تطهير، «بورغرومات»، ضدّ كلّ السوريين من حولنا؟ وهل تتوقّع وقتها أنّي سأقف معك وضدّهم؟ ولأنّك لبناني، ولأنّ من شروط الحصول على الجنسية، على ما يبدو، هو أن لا تشعر مع الآخرين، فأنا لن أطلب منك أن تغلق عينيك لوهلة وتتخيّل نفسك سوريّاً في لبنان، يستمع إلى مثل هذا الكلام عنه طوال الوقت، في الشارع وفي الاعلام وعلى ألسنة الخبثاء.

خاتمة: غربان البين
المشكلة تتفاقم حين يدخل ناشطو التمويل الخارجي في موضوعٍ داخليٍّ حسّاسٍ كهذا. هؤلاء الناس هم فعلياً كما يصفهم اليمين في الغرب: لا يملكون وطناً ولا أرضاً ولا انتماءً، موطنهم شبكة تمويل عالميّة، ولا يضيرهم أن يحترق البلد الذي يعيشون فيه، فهم لا يتكسبون منه سوى عبر العمالة. هؤلاء يستفزّون النّاس حين يتكلّمون، بخفّتهم المعهودة، عن موضوع اللاجئين، ويصبحون حجّة للمتعصّب والعنصري، ويؤذون النازحين كما يفعلون مع كل قضية يتبنّوها. أنا نفسي أشعر بالاستفزاز حين أسمعهم «يدافعون» عن اللاجئين، ومن الواضح أنهم ينفذون أجندات مموليهم، وهم - سماسرة الكوارث - آخر ما يهمهم هو اللاجئين أو سوريا أو لبنان.
كان لبنان بلداً غربيّ الهوى منذ استقلاله وحتى اشتعال الحرب الأهلية فيه. وقد حاولت القوى الغربية «استرداد» لبنان خلال الحرب: عملية عسكرية إسرائيلية عام 1982، حكومة لبنانية جديدة، هندسة جديدة لعلاقات لبنان مع محيطه، رئيس من آل الجميّل، وجيش تجهّزه أميركا. ولكن الأفرقاء الموالين للغرب قد هزموا، في النهاية، على الساحة المحليّة وانتصر المعسكر السوري. عام 2005 وما بعده حاولت أميركا دخول لبنان من جديد، وأيضاً بالترافق مع عملية عسكرية، فشلت هي الأخرى. مذّاك، وتحديداً بعد الحرب السوريّة، أصبح اختراق الغرب للبلد يجري عبر طريقةٍ جديدة هي التمويل وانفاق مئات الملايين وانشاء مراكز نفوذٍ له داخل المجتمع المدني اللبناني. لا حلفاء سياسيين وزعامات فحسب، بل مثقفون واعلاميون ونشطاء ومحترفون يتمّ توظيفهم بالآلاف، ومع امتيازاتٍ تغنيهم عن التفاوض مع السياق المحلّي. الفكرة، كما هو بديهي، هو أن الحكومات الغربية لن تقوم علناً بتمويل منظمات للعمالة والجوسسة وتجنيد النّخب؛ بل ستفتتح دكاناً اعلامياً، أو منظمة قانونية، أو مؤسسة تدافع عن حقوق الطفل والمرأة. هذه المنظّمة ستقوم فعلاً بهذه المهام ولكنك في الوقت ذاته، على الجانب، تكون قد خلقت كتلةً من الناس والموظفين والمستفيدين هي في المربّع الايديولوجي الذي تريده، وكلهم سيصطفّون سوية إلى جانب بعضهم البعض في كلّ القضايا المهمّة، ويصبحون حزبك في لبنان.
كلّ الدّول التي تحترم نفسها قد منعت هذا النمط من التمويل، ولو تبيّن أن للصين أي نفوذٍ في الاعلام أو السياسة في أستراليا أو أميركا تكون فضيحة. في لبنان وحده، ينزعج هؤلاء حين يذكرهم البعض بالتمويل، كأنه موضوع ثانوي (نكرّر: التمويل والعلاقات المادية هي أهم شيء في العالم، هي الشيء الحقيقي الوحيد). نشهد هنا جانباً انتهازياً وأيضاً جانباً نرجسياً برجوازياً، يريد أن يكون انتهازياً وكسّيباً، ولكنه أيضاً يريد أن يرى نفسه سامياً ومبدئياً. منذ سنوات، قال لي صديق من النخبة اللبنانية، حرفياً، أنه من غير اللائق، في جوّهم واعتقادهم، أن نتحدّث في مثل هذه المواضيع؛ وأن لا علاقة بين أن تعمل في جريدة سعودية، مثلاً، وبين المال وبين رأيك الذي تنشره. نحن ذوات مستقلّة وحرّة. بالمناسبة، حين كان صدّام وغيره يقومون بتمويل الإعلام والصحف، فهم لم يكونوا يجبرونهم على قول شيءٍ محدّد، ولا كانوا يراقبونهم أو يمنعون المقالات، كانوا يموّلونهم ببساطة ويتركون الباقي لهم - ودلّوني على حالةٍ واحدة اختلف فيها العميل مع المموّل على المبادىء وافترق عنه.
عدا عن الزعم المتواتر بأن الحكومات وسوروس هي هيئات «محايدة» في بلادنا، تبغي الخير والحقوق، فإن البعض الآخر يشير إلى أن التمويل موجودٌ في كلّ مكان. هذا صحيح، والكلّ يتعامل بالمال، وهنا الموضوع تحديداً: أن نناقش التمويل وهويته وأهدافه، وأن نبدأ النقاش والتقييم من هنا، فليس كل المال يتشابه. المسألة مع هؤلاء هي ليست أنه كان لديهم منظمة قائمة وفاعلة، مثلاً، فقام سوروس بدعمها: أنت موجودٌ أصلاً لسببٍ وحيد، هو أن طرفاً أجنبياً قد اختارك ليعطيك المال. وهذا هو التفسير الوحيد لوجودك ونفوذك وما يجعلني أتكلّم معك. الفساد، بالمناسبة، هو سمة أساسية لدى هذا الجوّ: يوظفون أصدقاءهم، يوزعون المنافع على من حولهم، ولو قام أحدهم بإحصاء عن عدد أفراد العائلة والأقارب الذين يعملون في بعض الجمعيات لكان الأمر مضحكاً، ولكن الواضح أن الممول الغربي لا يهتم هنا للفعالية والاستقامة. أتخيّل، مثلاً، لو أنّي واخوتي وأقاربي نتموّل جميعاً من مصدرٍ خارجيّ واحد، كأننا شركة عائلية، وكلُّ له دكّان، وكلنا في السياسة، ونخوض المعارك سوية وننبري للدفاع عن بعضنا (ونحن بالطبع ضدّ التوريث والعائلية وهذه الأمور، المسألة مبادئ).
العيب ليس هنا، من قال أنّ دفاعك عن طبقتك وجوّك ورأس المال الذي تتبع إليه ليس «نضالاً» وسياسة؟ بل هو من أبرز أشكال النضال وأكثرها وضوحاً وقناعةً؛ من قال أنّ السياسة هي دوماً في خدمة الغير؟ المشكلة هي أنك، حين تكون بين هؤلاء، فإنك لا تحدد الايديولوجيا والأجندة التي ترفعها، أنت ببساطة تقوم بأداء (performance) لصالح من يوظفك ويختار لك معاركك. أنت لا تحمل قيماً أو تخلقها، دورك ببساطة هو في التبشير بها. أي أنك، بمعنى آخر، لا تمتلك الارادة ولا الشرعية ولا الانتماء، ومن الطبيعي أن لا يثق بك النّاس. الأجندة التي تخدمها، في نهاية الأمر، يقررها أعداؤنا، وأنت قد وضعت نفسك في المنتصف. من هنا، من ساهم في خراب سوريا قد لا تكون له مصداقية في الكلام عن اللاجئين ومصيرهم اليوم، نحن سنتعامل مع الموضوع، بأخوّة، لن نتركه لغربان البين، الذين تكون مآسينا دوماً هي بمثابة «بركاتهم».

* كاتب من أسرة «الأخبار»