يمكن لنا أن نحوّر قليلاً في القول الغربي الشهير عن «الوطنية» ونتصرّف فيه، وأن ندفع بأن الوطنيّة، في بلادنا، غالباً ما تكون الملجأ الأخير للعنصري. «أنا لست انعزالياً كارهاً لمن هم حولي، أنا ببساطة وطنيٌّ متعصّب، أريد لبنان\الأردن\سوريا\العراق أوّلاً!».قبل أن نبدأ، قد يجوز الاستهلال هنا بمقدّمةٍ قصيرة عن سؤال «الأسماء» وكيف تأتي، وعن أهمية التسمية ومعناها في السياق اللبناني. أن تسمّي شيئاً أو أحداً، فهذا يعني أنّك تعطيه معنىً، وتثبّت هذا المعنى وتحسمه (هل هو حصان أم عصفور؟ محمّد أو جوزيف؟). من هنا، فإنّ في فعل التسمية سلطةٌ وقوّة ولكنّه، في الوقت ذاته، قد يكون «ورطةً» أيضاً، إذ أنّ هذا «الشيء» قد أصبحت له الآن هويّة ولفظ، وموقعٌ في نظام المعاني.
(هيثم الموسوي)

أذكر ليلةً في أواخر تسعينيات القرن الماضي. نحن في مكتبة الجامعة اليسوعية في بيروت، وأصدقاء يعرّفونني على شخصٍ جديد، قالوا إنّه شابٌ واعد، وتقدّمي ويساري (كان من السهل وقتها أن تجد نفسك على اليسار، ولو من غير أن تختار، لأنّ «الوسط» هناك كان فرانكو). صافحته وسألته عن اسمه، كما يفعل الناس الطبيعيون، فأجابني بمطلع الأغنية الشهيرة لفيروز عن أسمائنا، وكيف أننا غير مسؤولين عنها، وقد ظُلمنا بها ولم نخيّر (أنا لا أجد الرحابنة، بصراحة، ينبوع الحكمة). هذا حتى يعترف لي في نهاية المطاف بأنّ أهله قد سمّوه «بشير». الشخص المقصود، بالمناسبة، هو اليوم زميلنا في الصحيفة، الناقد الفنّي بشير صفير، وهو على الأرجح قد نسي الحادثة ولقاءنا ولكنّي للأسف - كما أحذر باستمرار من هم حولي - لا أنسى شيئاً.
لا أحبّ النّاس الذين «يؤسطرون» نشأتهم والجوّ الذي تربّوا فيه، وكيف أنّ أهلهم كانوا «غير» ومنفتحين، وقد عرفوا طفولةً متنوّعة على خلاف باقي الخلق، كأنّ ذلك يجعلك أفضل من غيرك (هذا مجرّد نمطٍ موارب من ممارسة النرجسيّة). هذه المسألة، حقيقةً، تتعلّق بعاملين بسيطين فحسب، لا فضل لأحد بهما: الصّدفة والطّبقة. أما الفوقية والكراهية والحقارة، فهي موجودة بتساوٍ في كلّ مكان. أنا وجدت نفسي في جوٍّ من هذا النوع: سوف تكتشف بسهولة أنّ اسمي وأسماء أغلب من هم من جيلي ومن سياقي الاجتماعي، وبخاصة الذّكور، هي على نمط عامر، نادر، ماهر، عماد، كريم، فراس، الخ. هناك شيءٌ مشترك بين كلّ هذه الأسماء، بالطبع، هو أنّها «محايدة» بشكلٍ مقصود، مصمّمة لكي تخفي هويتك الطائفية، وهذا ليس بالصدفة (على الهامش: يبدو أنّ الاسم المقرّر لي في الأصل كان «زياد»، ولكن تمّ تغييره في اللحظة الأخيرة لأنهم اكتشفوا أنّه قريبٌ أكثر من اللازم لـ«يزيد»، فأصبح «عامر» - مع أنّه قريبٌ أكثر من اللازم لـ«عمر»).
هذا لم يكن مردّه دوماً الايديولوجيا، أو نزوع علماني جذري لدى الأهل، بل هو في أساسه مسألة عمليّة: في لبنان السبعينيات، إن كنت تريد لولدك أن يندمج في الطبقة الوسطى والاقتصاد الحديث ويرتقي في جوّ مختلط لا يشبهه، فمن المفضّل أن لا يكون أصله الطائفي واضحاً وبارزاً، وبخاصّةٍ إن كان مسلماً. في لبنان الصغير، أوّلاً أو آخراً، الجميع سيعرف نسبك، هذا أوّل ما يستقصون عنه (فقط جمال غصن، ما زلنا إلى الآن لا نعرف هو ماذا بالضبط). جلّ ما تفعله هنا هو أنّك كنت تعطي ولدك فرصة، بمعنى أنّ الموضوع لن يُحسم من اللحظة الأولى لدخوله الغرفة حين يعرّف عن نفسه أنّه «جعفر». في نهاية الأمر، لا أحد من السذاجة بحيث يتصوّر أن اسماً مثل اسمي، مع بعض الفرنسية الركيكة، سوف يجعلانك تذوب في ساسين.
لهذه الأسباب نحمل، أنا وأكثر رفاقي، أسماء عربيّة، جميلة وأصيلة، ولكنها ليست أسماء أجدادنا، ولا هي ترتبط بتراثٍ محدّد، بل تبدو وكأنه قد تمّ اختيارها من كتاب القراءة المدرسي (في جيلي الحالي، بالمقابل، أصبح العديد منّا يعطي أبناءه وبناته أسماء قابلة للّفظ «على الوجهين»، أي بالعربية والأجنبية، تحسّباً لاحتمال أن يهاجروا ويسكنوا في الغرب. أسماء مثل سارة وليا وآدم ودانيال - لأنّهم هكذا، في أميركا، سيعتقدون أنّك أبيض). الطّريف هنا هو أنّ لعبة الاخفاء هذه تصبح أحياناً، في ذاتها، كاشفة: يخبرك السوريّون أنّك تعرف أنّ الشخص أمامك ينتمي إلى «أقلية» تحديداً إن كان يحمل اسماً «علمانياً» جداً، محايداً بشكلٍ مريب، أو عربيّاً قديماً بائداً على طريقة «لقمان» و«مهيار». بالمعنى نفسه، لو أنّني ولدت في زمنٍ وسياقٍ مختلفين، بعد عشر سنوات من ولادتي، مثلاً، حين كان أغلب اللبنانيين يعيشون ويكبرون في أجواءٍ صافية طائفياً، ولو كانت عائلتي في الضاحية، لما كان هناك من سببٍ لكي لا يسمّوني «نور الحيدر».

العنصريّة بأسماء أخرى
ما أودّ أقوله هنا هو أنّ الوطنية اللبنانيّة، كأكثر الوطنيات العربيّة، هي اجمالاً سيئة. «لبنان» هو كيان سياسي وقانوني، نعيش فيه ونعمل ضمن دستوره وترتيباته وأعرافه. ولكن كلّ مفهومٍ عن الوطنية (أو القومية) بني عليه في القرن الماضي كان اجمالاً رجعياً، تبعياً، كارهاً للعرب (إن كانوا فقراء وليسوا أمراء)، وتمييزاً ضدّ الكثير ممن يعيش على أرضه. المسألة هي أن مفهوم «اللبنانوية» هذا تتمّ استعادته و«اعادة تدويره»، على صورةٍ جديدة، في كلّ مرحلة تاريخية خلال القرن الماضي. مع نهاية الحرب الأهلية، ضعف المفهوم الايديولوجي للقوميّة اللبنانية وتراجع ممثلوه، ولكن 14 آذار كانت - في جانب رئيسي منها - عمليّة بعثٍ و«تحديثٍ» لتلك الايديولوجيا. انتبه إلى الأمر باكراً أسعد أبو خليل، حين شرح يومها أنّ «الجبهة اللبنانية» قد خسرت الحرب ولكنّها، مع 14 آذار، قد ربحت الحرب الثقافية والصراع على هوية البلد. يظهر أيضاً منذ سنوات، بديلاً عن نسخة 14 آذار المتهالكة، «لبنانوية» جديدة تناسب عصرنا الحالي. ولكن، مع تقدّم الزمن، فإنّ كلّ نسخةٍ من أحفاد ميشال شيحا تكون أضعف من تلك التي سبقتها، أوضح وأشرس في انحيازاتها، وأكثر هشاشةً وتناقضاً وانفصالاً عن الواقع.
سوف يشهد الأرشيف، في المستقبل، عن كمّ العنصرية الاجتماعية التي تتمّ ممارستها في لبنان بشكلٍ «اعتياديّ» (quotidien) هذه الأيّام، بمعنى أنّ من يقولها لا يرى فيها أصلاً عنصريّة وتمييزاً؛ وأيضاً عن تلك التي تتمّ ممارستها تحت شعارات «وطنية» و«مجتمع مدنيّة». كتب الأكاديمي الأوكراني فولوديمير ايششنكو ورقةً بحثيّة مثيرة تشرح كيف أنّ الحركات التي ترى نفسها مدنيّة ووطنيّة في دولٍ مثل أوكرانيا لا تمتلك حصانة ضدّ التمييز والاقصاء. يقول ايششنكو أن كثيراً من الخطاب «المدني»، «الوطني»، السائد هناك يتحوّل بسهولة إلى شيءٍ من هذا القبيل: «نحن في أوكرانيا بعد ثورة الميدان قرّرنا أننا قد أصبحنا وطنيين خلّصاً، نابذين كلّ انتماء آخر، باستثناء المواطنة وأوكرانيا الجديدة. ولكن هؤلاء النّاس في الشّرق، لا ندري ما هي مشكلتهم. لا يشبهوننا بالكامل ولا يشبهون أوكرانيا. كأنهم لا يريدون أن يكونوا أوكران مثلنا وجزءاً من الوطن الجديد. يصرّون على استخدام لغةٍ أجنبية، ولديهم دوماً صلات بأناسٍ في الخارج، بل إنّ بعضهم يلبس الشادور - أقصد لا يلبس الفيشيفانكا».
كلّ مفهومٍ عن الوطنية (أو القومية) بني عليه في القرن الماضي كان اجمالاً رجعياً، تبعياً، كارهاً للعرب (إن كانوا فقراء وليسوا أمراء)، وتمييزاً ضدّ الكثير ممن يعيش على أرضه


المشكلة هنا لها أكثر من وجه. من ناحية، فإنّ العديد من النخب العلمانية في بلادٍ مثل لبنان اليوم لا تحمل مشروعاً علمانياً ذو مضمونٍ تحرّري، بل إن «ايديولوجيتهم» قد تكون أقرب إلى نسخةٍ ساذجة عن مفهوم «الحداثة الفائقة» القديم (hyper modernity). هي، باختصار، فكرة تبسيطية عن الحداثة تنظر إلى المجتمع باعتبار أنه يجب أن يكون على شاكلة خطوطٍ مستقيمة، نظيفة، تتقاطع بوضوح: هنا المواطن، هنا الدّولة، سوف نعقلن كلّ شيء (والدّولة تكتسب صفات سحريّة، كأنّها عقلٌ محض، والمواطن يصبح أيضاً نموذجاً نظرياً، ورقة بيضاء). ويعتبرون أنّ أيّ «تعرّجاتٍ» أو «تفاصيل» تتخلّل هذه الخطوط - أديان، هويات، التاريخ المحلّي - هي بمثابة «تشويهٍ» و«انحراف» عن الخريطة، ينصبّ الهوس على إصلاحها أو إلغائها أو إبطالها؛ مع التأكيد الدائم بأننا «لا يمكن أن نتقدّم» طالما أننا لا نطابق هذا النموذج/المثال الذي في رأسنا.
المفارقة نفسها تحصل حين تحاول مطابقة الخريطة اللبنانية على الخريطة «البشرية» والتاريخية للمنطقة. أي التاريخ الحقيقي الذي أنتجنا. البعض يخاطب «حزب الله» في لبنان باعتبار أنّه «غير لبناني»، تلوّث وخسر وطنيّته عبر الصلة مع إيران، بل إنّ هذا «التلوّث» قد أصاب أغلب شيعة البلد في حياتهم وثقافتهم، بل وحتى في ملبسهم. فلندع جانباً أنّك لا تتكلّم هنا عن تنظيمٍ ثانويّ دخيل، تقرّر أنت إن كان شرعيّاً أم لا، بل عن أكبر حركة شعبية منظّمة ومتجذّرة في لبنان (السؤال هنا هو عن من يحقّ له وضع المعايير). المسألة أعمق من ذلك: نحن في منطقة يتمّ فيها، على طول التاريخ القديم والحديث، تبادل الأفكار والايديولوجيا والحركات والتنظيم، بل والعلاقات البشرية والعائلية، من غير اعتبارٍ للحدود القطريّة الحديثة. أن تطلب من اللبنانيين أن يقصروا فكرهم وفعلهم وثقافتهم على مساحة عشرة آلاف كيلومتر هو ليس وطنيّة، بل سذاجة واستحالة. الثقافة في المجتمع، والمعتقدات والأديان وأساليب الحياة، تتغيّر وتتحوّل بشكلٍ هائل مع مراحل التّاريخ، وتحت تأثيراتٍ غالباً ما تكون خارجيّة، ثم تمرّ في البلد وتصبح «محليّة» وجزءاً من كلّ (هذا إلّا إن كنت تعتقد أنّ الإمام علي أصله من جويّا).
من قال لكم أنّ حالة أهل جبل عامل، عام 1920 مثلاً، كانت حالة «أصيلة» وقديمة ومستمرّة، تمّ «العبث بها» بعد ذلك؟ وأنها لم تكن نتاج قرنٍ أو أكثر من تغييراتٍ جذريّة وعاصفة قلبت أحوال المجتمع والديموغرافيا ونمط الانتاج بالكامل؟ ثمّ تبعها قرنٌ آخر من التحوّلات الكبرى نعيشها إلى اليوم، وهي كلّها لم تكن ديناميات «لبنانوية» بالكامل. هل تريدهم أن يقدّسوا «صورة فوريّة» (snapshot) من زمنٍ قديمٍ يعجبك؟ هل تريدهم أن يعودوا إلى الماضي الزراعي؟ (البعض، في الحقيقة، قال حرفياً هذا الكلام بأشكال مختلفة في السنوات الماضية). الفكرة هي أنه حين يعتمد قسمٌ من النّاس، في مرحلةٍ تاريخية ما، فكراً أو خياراً أو نمطاً في الحياة، ويبنون لأنفسهم تراثاً، فلا أحد يجبرك على السّير فيه، أو أن تصبح على شاكلته أو توافق عليه، ولكن لا يجوز لك أن تشكّك في شرعيّته - أن تنكر عليهم حقّهم في الاختيار.
على الهامش، لدى حسن الخلف مقولة طريفة هنا. بعض اللبنانيين يشتكون من علاقة }حزب الله» الوثيقة بإيران ولكنّ الخلف يجزم بأنّ من مزايا «حزب الله»، تحديداً، أنّه ليس لبنانياً صرفاً، بل يرتبط بما يشبه «مجلس قيادة» على مستوى الإقليم، يمتلك عملية معقدة لصنع القرار، يرى المنطقة «من فوق»، ويخطط على المدى البعيد ويوزّع الأدوار. تخيّل أن يكون عليك، من بضعة ملايين لبناني، أن تستخرج حركة سياسية حديثة من الألف إلى الياء: عقيدة ونظرية ومفهوماً عن النظام الدولي، وقادة ومقاتلين وفنيين ومثقفين، وخبرة وتكنولوجيا ومؤسسات وتخطيط. سقفك في هذه الحالة سيكون حزب الكتائب أو «حركة أمل». ما يضاعف المشكلة، بالطبع، هي مسألة الجهل البسيط وغياب مرويات تفسيرية وكفؤة عن تاريخنا القريب تصلح قاعدةً للنقاش (و«التاريخ الرسمي» عندنا هو تقريباً بلا قيمة). أنت في حاجة، على الأقلّ، لأنّ تعرف شيئاً عن هذا التاريخ قبل أن تحكم عليه. أنت تتكلّم هنا عن مشروع سياسي وفقهي عمره قرون، يمتدّ بين لبنان والهند، وعن جماعاتٍ من العلماء كان عالمها يتّصل بين جبل عامل ودمشق والحلّة والنجف وأصفهان، ولا يمكنك أن تفسّره بحسب الخرائط الحديثة. لهذا السبب أنت كثيراً ما تصادف لبنانياً يحمل آراء قويّة وواثقة عن مسائل مثل «ولاية الفقيه»، ولكنك إن سألته عن الفارق بين الشيعي الأخباري والشيعي الأصولي فهو قد لا يعرف معنى التعبير - والفوقيّة أخت الجهل.

التهافت على الفتات
على مستوى أعلى، المشكلة في بلادنا هي ليست في الحجم، أن أوطاننا «صغيرة»، ولا هي في «اصطناعيتها». كل الكيانات اصطناعية بدرجةٍ أو بأخرى، وهناك بلاد صغيرة تنجح وتستقرّ وتكتفي بذاتها. السؤال هو عن السياق الذي ترى فيه نفسك وتندمج عبره مع محيطك الأوسع. الدنمارك دولة صغيرة وليبيريا دولة صغيرة، ولكن هنا نفهم معنى «موقعك في النظام العالمي»: بين أن تكون دولة صغيرة في شمال أوروبا، جزءاً من سوقٍ ضخمة ومتقدمة، وتجلس على الطاولة حيث يتم تقرير القوانين والقواعد الدولية، وأنت عضوٌ في «ناتو»؛ وبين أن تكون دولة صغيرة في غرب أفريقيا، تأتي من ماضي استعمارٍ واحتلال، والجميع يتدخّل في شؤونك ويشعل لديك الحروب، ولديك مع محيطك مشاكل. هذا السياق السياسي هو الذي يحكم الأمور والذي عليك التأثير فيه، وليس فكرة معينة أو محددة سلفاً عن خارطة «صحيحة».
تكلمنا سابقاً عن ما نسمّيه اصطلاحاً «عارض بولندا». هو باختصار إشكاليّة تواجه العديد من الدّول المتوسّطة أو الصغيرة (مثل بولندا) حين تكون بقرب جيرانٍ أكبر منها بكثير (مثل ألمانيا أو روسيا، في الحالة البولندية). هنا، تصبح أولوية هذا البلد أن لا يجري ابتلاعه ثقافياً وقومياً عبر «الأخ الأكبر»، وأن لا يهيمن الجار القوي على اقتصاده وقراره السياسي. أكثر من ذلك، فإنّ النخب «البولندية» سوف يكون لديها دوماً حافزٌ وإغراء، تقدّمه القوى الدولية الكبرى، بأن يتمّ استخدامها وبلدها «قاعدةً» ضدّ جارها الكبير (لهذا السّبب كان يتمّ تدمير بولندا وتفكيكها كلّما سنحت الفرصة، سواء لألمانيا أو لروسيا أو للإثنتين سوية). في بلادنا، النّسخ الغالبة من القطريّة هي غالباً بمثابة تنظيرٍ للطريق البولندي، وانظر إلى من يحبّ البولنديّين. النظرية التي يتم ترويجها هنا هي دائماً أنّك ستنجو على حساب غيرك (وأولهم عادة الفلسطينيّون). سوف تعزل نفسك عن خراب المنطقة ومشاكلها وتبحث عن «دورٍ» تبنيه لنفسك - فوق الخراب. ستراهن على «امتيازاتك» التي تتوهّمها أو تحصّل امتيازاتٍ عبر خدمة الأقوياء وأن تصبح مصيفهم أو مصرفهم أو منتجعهم. والأهمّ من ذلك كلّه هو أن نمنع «الآخر القريب» من أن يبتلعنا، وأن نثبّت هويتنا ومصالحنا في مواجهته.

حين يخلو المشروع الوطني من مضمونٍ تحرّري، ينحسر إلى الصورة البدائية لمشروع الهوية: تعريف النّفس بالتضادّ مع «آخر قريب»، وترجمة لمصالح انتهازية لطبقةٍ من النّخب


حين يخلو المشروع الوطني من مضمونٍ تحرّري، ينحسر إلى الصورة البدائية لمشروع الهوية: تعريف النّفس بالتضادّ مع «آخر قريب»، وترجمة لمصالح انتهازية لطبقةٍ من النّخب. وعبر هذا النمط من «الوطنيات»، يصبح لبنان بسهولة بولندا لسورية، وسورية بولندا للعراق، والعراق بولندا لإيران، وهذه كلّها ديناميات سيئة. المشكلة هنا مزدوجة: أنت، من ناحية، تعرف أننا لا يمكن أن نتبع جميعاً الوصفة نفسها ونثرى جميعاً على حساب بعضنا البعض. لا يمكن أن تتخيّل أوطاناً مزدهرة في منطقة مستباحة. ثانياً، حين تطمح بأن تصير «بولندا» لجارك الكبير، فهل تتوقّع منه أن يثق بك وأن يتركك في حالك، وأنت تخدم أعداءه؟ كما قال ماو للصينيين الذين أغراهم الوهم بسلوك طريقٍ مشابه: حتى لو تصوّرتم أن الإمبريالية ستستقبلكم في صفوفها وتسمح لكم بالتطوّر، فمن قال لكم أنّ أعداء الإمبريالية - حينها - سيسمحون لكم بذلك؟ كلّ ما ستفعله هو أنّك، بدلاً من مقاومة العدوّ البعيد، سوف تقاتل أبناء جلدتك لأنك تريد الصعود على حسابهم. المحزن هو أنّ هذه الأفكار سوف تستمرّ بالظهور في كلّ بلد وفي كلّ مرحلة، لا لأنّها الخيار العقلاني وتخدم مصلحة الشعوب، بل لأنها ستناسب دوماً نخباً محليّة انعزاليّة، تريد فحسب ملعبها الصغير.
هذا المنطق يشبه حجّة الانتهازي في بلادنا الذي، أمام كلّ خيارٍ مفصلي أو مبدأي، يجود بعبارته المفضّلة: «في النهاية، الدّول مصالح». كأنّه اكتشف شيئاً عميقاً أو أفحمك، أو هو هكذا لم يعد بسيطاً وساذجاً مثل «الباقين». «الدّول مصالح» بطبيعة الحال، لا أحد يعمل بشكلٍ قصديّ ضدّ مصلحته. السؤال دوماً هو عن طبيعة هذه المصالح، وكيف تصوغ هذه الدول مصالحها: هل هي تتوافق بنيوياً معك أم تتعارض؟ هل مصلحتهم، مثلاً، هي في استعمارك أم في التعاون معك والازدهار سوية؟ هل هم بعيدون عنك لا يضيرهم أن تحترق، أم هم بقربك يتأثرون بما يجري لديك؟

خاتمة: الفزع و«الاستبدال»
على سيرة ترابط المصالح والمصير. القضيّة المركزيّة لدى الكثير من «اللبنانويين» اليوم تتعلّق بالسوريين الذين يقيمون في لبنان، وبالأعداد التي نزحت منهم إلى البلد خلال الحرب السوريّة. لدى اليمين في أوروبا، كما هو معروف، نظرية «الاستبدال العظيم»، بمعنى أنّ سكّان البلد «الأصليين»، البيض، سوف يتمّ «تمييعهم» عبر استيراد العمّال العرب والسّود إلى أوروبا، حتى يصبح البيض في نهاية الأمر أقلية. هناك كلامٌ مشابه في لبنان، بمعنى أنّ أكثر من مليون ونصف سوري نزحوا سيصبحون، بعد سنوات، ذوي إقامة طويلة في البلد: البعض يعيش في لبنان منذ عشرين عاماً، والبعض الآخر ولد في هذا البلد ولا يعرف غيره، إلخ. ويضيف الشاكون أنّ الكثير من هؤلاء قد لا يرغب، في المستقبل، بالعودة إلى بلده الأصلي (فتحصل «الكارثة»، تتغيّر «ديموغرافيا» البلد، التي تعاني أصلاً من الهجرة وانخفاض الولادات).
أنا أقول، حتى ولو حصل ذلك، أين المشكلة؟ هذا، بصراحة، ليس غزواً، ولا هو يحصل بالقوّة، بل استبدالٌ «حميد» بكلّ ما للكلمة من معنى، كما كان يحصل باستمرار على طول دورات التّاريخ. ومن يأتي «مكانك» هنا هو ليس مستوطناً غريباً، بل ابن الأرض نفسها، ولديه اللغة والأسماء والثقافة ذاتها، وهو في الغالب قد ولد على بعد عشرات الأميال عن حدودك. الوحيد الذي يتعرّض للقسر والاجبار في هذه المعادلة هو اللاجىء الذي هرب من أرضه بسبب الحرب - كالأعداد الكبيرة من اللبنانيين التي انتشرت في العالم خلال حربهم الأهلية الأخيرة. بكلمات أخرى: إن كنت أنت تريد أن تسافر وأن تبحث لعائلتك عن مستقبلٍ أفضل، في قارّةٍ أخرى، لأنّ ظروف البلد غير مقبولة بالنسبة لك. وهو من يسكن هذه الأرض ويعمل فيها، ويحتاجها وتحتاجه، فما الذي تتوقّع أن يحصل على المدى البعيد؟
لدى الكثير من النّاس «مخاوف» بطبيعة الحال، وعليك تفهّمها، ولكن المخاوف ليست كلها منطقيّة أو متساوية أو قابلة للمعالجة. صاحب الامتياز، مثلاً، يخاف على امتيازاته، والمرتكب يخاف من أن يكشف ماضيه، والموسوس يخاف من ظلّه. الفكرة هي أنّ تاريخنا وتراثنا أوسع وأرحب من البديل الانعزالي، ومن نظرياته البدائية في الهويّة والاركيولوجيا والسياسة الدولية. أبعد من ذلك، المسألة هي ليست عن الحدود السياسية والخرائط والتفاصيل، بل هي عن رؤيتك لهويتك ومستقبلك: إن كنت تحيط نفسك بأسوارٍ من الخوف والكراهية، فسوف تفزع حتى من اللاجىء السوري الذي يشبهك في كلّ شيء، سوف تفزع فعلياً من الطبقة العاملة لديك. ولكن، إن عرفت تاريخك الحقيقي والخيارات البديلة، فقد تتوقّف عن عدّ أفراد الطوائف والهوس بـ«الديموغرافيا»، وستفهم أن لا داعي للخوف والخسّة بين بعض لأننا إمّا سننجو سويّة، معاً، أو لن ينجو من بيننا إلّا الخسيس.

* كاتب من أسرة «الأخبار»