كان مشهد الطائرات التي اخترقت جسد برجَي التجارة العالميين في نيويورك يوم 11 أيلول 2001 ثقيلاً على دولة عظمى لم تتم عقدها الأول من انفرادها بالسيطرة العالمية، الذي جرى ما بعد الإعلان عن تفكك الاتحاد السوفياتي وانهياره يوم 25 كانون الأول عام 1991. والمؤكد هو أن الحدث كان يحمل، منذ اللحظات الأولى لعرضه على الشاشات بذور تحوّلات وملامح تغييرات حتميّة سوف تكون ناجمة عنه بالضرورة، لكن من دون أن تكون تلك الملامح واضحة المعالم في: أين؟ ومتى سيحدث ذلك؟ حيث ستكون للإجابة عن السؤالين السابقين دلالات عدة تكشف عمّا يدور في أعماق ذهنية صانع القرار السياسي الأميركي. فالجغرافيا التي سيحدث فيها الرد ستحدّد بدرجة ما طريقة التفكير الأميركية، وأين تريد الاستثمار في ما حدث، وخصوصاً أن الفعل، أي فعل الرد، سيحمل بين ثناياه ولا شك وسوماً يراد من خلالها القول بأن زوال الهيمنة الأميركيه أمر لا يزال بعيداً، ما يعني استخداماً أقصى للطاقات والقدرات.ولربما ظهر ذلك بوضوح من خلال حديث بول بريمر، الحاكم الأميركي للعراق ما بين 2003 - 2004، الذي أجراه مع جريدة «الشرق الأوسط» ونشرته يوم 16 آذار المنصرم، وفيه يقول بريمر بالحرف إن أميركا «لا تحتاج إلى الحصول على موافقة الأمم المتحدة عندما يهدّد الخطر المصالح الأميركية». ولا يختلف اثنان هنا على أن كبرى تلك المصالح كانت، ولا تزال، هي انتزاع اعتراف عالمي بانفراد الولايات المتحدة بسطوتها على أرجاء المعمورة.
وإذا ما كان غزو أفغانستان «ثأرياً» بدرجة كبيرة لتأكيد هذي الأخيرة، فإنّ نظيره في العراق كان يحمل دلالات عدة قياساً إلى معطيات عدة، أبرزها أن من الصعب اتهام بغداد - صدام بعلاقة ما مع تنظيم «القاعدة»، فضلاً عن أنّ أسامة بن لادن، زعيم ذلك التنظيم، كثيراً ما اتّهم نظام «البعث» العراقي بـ«الكفر» أسوة بما فعل مع معظم الأنظمة العربية. لكنه ظهر بدرجة أكبر عندما جاء بريمر على ذكر استراتيجية فريق بوش الابن ومن حوله مهندسو الحقبة المقبلة بقوله إن ما جرى «أنهى حكماً للسنّة استمر لألف عام». هنا الكشف كان صارخاً لجهة المحاولة في حفر أخاديد ما بين مكوّنات العراق الثلاثة: السنّة والشيعة والأكراد.
كان الكرد من بين، إن لم يكن من أهمّ، من تلقّفوا ذلك الحدث الذي راحت قياداتهم تعاينه وهي تدرك أن ما سبقه ليس كما بعده، وأن واشنطن «الجريحة» عام 2001 ليست هي واشنطن المنتشية بمفاعيل «الانتصار» الحاصل في يوغسلافيا عام 1999، والذي رسّخ بدرجة كبيرة تراسيم السطوة الأميركية بدرجة فاقعة. ولذا، فإنّ القرار بغزو العراق وإسقاط النظام القائم فيه كان «استثمارياً» في حقول استعادة «الهيبة» الأميركية، لكنه كان يحمل بين طيّاته مراماً أبعد من نوع أنّ «انفجار» النسيج العراقي، الذي من المحتّم أن يحدث بعد الفعل، سوف تنجم عنه بالضرورة تداعيات كبرى على مختلف الأنسجة القائمة في المنطقة لجهة التماثل الحاصل في ما بينها من جهة، ثم لجهة «الهشاشة» التي تتمتع بها تلك النسج كنتيجة لغياب تجارب وازنة يكون من شأنها صهر المكونات، الإثنية والدينية والعرقية، بدرجة يصبح فيها ناتج الصهر خادماً لمشروع قيام الدول ووضع عربة نهوضها على المسار الصحيح. والثابت أن المحيط العراقي في مجمله كان يتهيّب انفجار التركيبة العراقية، لكن بدرجات متفاوتة، حتى إذا ما تأكّد حدوث الفعل، بدءاً من شباط 2002، الذي شهد تأكيدات أميركية راحت واشنطن تبثّها في شتى الاتجاهات، مضت تلك القوى ترسم سياساتها، وتضع مشاريعها، التي تضمن لها مصالحها ما بعد الحدث الذي أضحى شبه مؤكد.
من بين ذلك المحيط، إذا صحّ التعبير هنا، كان الأكراد العراقيون يرقبون ما يجري بدقة تامة، كانت الإشارات التي وردت إليهم محل شكوك، قياساً إلى تجارب الماضي التي كان «الخذلان» فيها سيد المشهد. لكنهم، في الآن ذاته، أبدوا استعداداً لأداء دور «الخنجر» الذي يمكنه أن ينغمس في صدر صدام بذرائع من نوع «الاستبداد» و«المظلومية» اللازمين هنا لتبرير الدور الذي سوف يتلبّسونه في ما بعد. والراجح أن فعل الاستعداد هنا كان يرقب مناخاً عاماً عربياً أصابه الترهّل، وهو لا يبدو مدركاً جيداً لمآلات «اللحظة» التي سوف تتولّد بفعل سقوط بغداد. صحيح أن هؤلاء لم يكونوا بوضعية قادرة على مواجهة الفعل، وصولاً إلى منع وقوعه، لكن الصحيح أيضاً أنهم كانوا قادرين، فيما لو توافرت الإرادة والتنسيق، على احتوائه وصولاً إلى وضع الحدث المرتقب في قوالب يكون من شأنها إضعاف «ارتدادات» الحدث على مستوى الداخل العراقي جنباً إلى جنب المحيطين الأقرب، فالأبعد.
يقول مسعود بارزاني في لقاء أجراه معه غسان شربل رئيس تحرير جريدة «الشرق الأوسط»، نشرته الأخيرة في شهر آذار من هذا العام، إن وفداً من الـ«CIA» زاره في 17 شباط عام 2002، ويضيف إن الوفد استخدم عبارات لافتة من نوع أن «الولايات المتحدة قررت إزاحة نظام صدام حسين»، وإن «الهجوم سيكون من محاور عدة». لكن الأهم بالنسبة إلينا، يضيف البارزاني، كان قولهم «سيكون لدور الإقليم (الذي يقصد به هنا كردستان العراق) أهمية كبيرة في حساباتنا». وما كان للبارزاني أن يضيع هنا فرصة من هذا العيار الذي اعتبره كافياً لاختراق «مدرعة» تعاني أصلاً من أعطاب عدة، الأمر الذي يمكن تلمّسه في ردّ هذا الأخير على موفد صدام الذي أرسله إليه بعد أيام من لقائه وفد الـ«CIA» الآنف الذكر، والذي عبّر فيه الموفد عن «استعداد نظام بغداد لفعل أي شيء يرغب فيه»، لكن البارزاني قال إن «الوقت بات متأخراً جداً»، وهذا الطرح يأتي «بعد خراب العراق كله وليس البصرة وحدها»، ثم إن أي اتفاق مع النظام «لن يصمد، ولسوف يتحوّل إلى عبء كبير على شعب كردستان». كان هذا قراراً بانزياح كردي تام لرغبات واشنطن التي أرادت استخدام «الخنجر» لتقطيع أوصال العراق، فيما الرؤيا تقول إن الفعل سيكون تأسيسياً لتكراره في المحيط الذي يتشابه في تركيبته مع التركيبة المستهدفة.
في 15 نيسان عام 2002، التقى وفد كردي موسع في فرجينيا الأميركية نظيراً أميركياً له ضمّ مسؤولاً عن الـ«CIA» وآخر من مجلس الأمن القومي، ثم رايان كروكر مساعد وزير الخارجية الأميركي الذي قال: «أميركا قررت وجوب إزاحة صدام عن السلطة»، لكن الأهم في ما قاله أن «أميركا موافقة على اعتماد النظام الفيدرالي في العراق»، ومن دون أدنى شك فقد قرأ الوفد الكردي، الذي جمع مسعود بارزاني وجلال طالباني، هذه العبارة الأخيرة على أنها إنعاش لـ«الحلم» الكردي الذي مزّقته معاهدة «لوزان» عام 1923.
واقع الأمر أن نظام صدام حسين كان قد أضحى منذ «غزوة الكويت» عام 1990 عامل تفجير على امتداد المنطقة، وأخطر ما فيه أنه ظهر كساعٍ إلى تمزيق حدود «سايكس - بيكو» 1916 التي كان الكل يريدون الحفاظ عليها. يقول عمرو موسى، الأمين العام لجامعة الدول العربية 2001 - 2011، في لقاء أجرته معه جريدة «الشرق الأوسط»، ونشرته في 18 آذار، إن «التحالف العربي - الدولي الذي تشكّل لتحرير الكويت عام 1991 أرسى واقعاً جديداً بشأن أمن المنطقة، ووضع حدّاً لطموحات صدام»، وأضاف إن تلك الطموحات «لم تكن تتوقف عند الكويت، وإن سوريا كانت المحطة التالية على أجندة التوسع لأسباب تتعلق بالهيمنة على تيار البعث». والشاهد هو أن الكثير من المعطيات والمؤشرات والشهادات التي كان من بينها تلك التي قدمها المفكر العراقي حسن العلوي، المقرّب من صدام، في كتابه «عقدة الطين في أسوار الكويت»، كانت تقول إن صدام كان يريد إقامة دولة قوية تمتد من ميناء اللاذقية في أقصى الغرب حتى البصرة في أقصى الشرق، وذاك وحده يمثل لعباً بتوازنات إقليمية من الصعب أن تجد لها أنصاراً في الإقليم، فضلاً عن أنها ستلقى خصوماً دوليين سوف يعمدون إلى وأدها لاعتبارات عدة، لعل أبرزها أمن الكيان المسمّى «إسرائيل».
صيف عام 2002 بدا كأن «العقبة» التركية وازنة لدرجة قد تدفع بواشنطن إلى مراجعة حساباتها. ففي اجتماع ضمّ تومي فرانك، قائد القيادة الأميركية الوسطى، إلى مسؤولين أتراك، أشار هؤلاء إلى أن «قيام دولة كردية» هو أبعد من خط أحمر، وهو يرقى لأن يكون «لغماً» سيمهّد لتفجير الكيان التركي برمّته. وعندما نقلت هذه الإشارة إلى أكراد العراق، سعى هؤلاء إلى حلحلتها عبر تقديم ضمانات في شتى الاتجاهات. فمن الناحية الإيديولوجية، قال هؤلاء إن حزبي البارزاني والطالباني يمثّلان حالة هي أبعد ما تكون عن «حزب العمال الكردستاني» الساعي إلى قيام «دولة كردية» يشكل الجنوب التركي عمقها الأساسي. ثم شملت الضمانات الأخرى شقّين، أوّلهما عسكري يعطي لأنقرة الحق في تطبيق رقابة صارمة على تسلّح الإقليم، واقتصادي يعطي لهذي الأخيرة الحقّ في حصولها على النفط بأسعار مغرية، وهنا تبدّى أن «العقبة» التركية ماضية نحو التفكك والانحلال، وصولاً إلى زوالها، الأمر الذي حدث فعلاً بعد تلك المشاورات.
هنا يمكن الجزم بأن الأكراد نظروا إلى واقع المنطقة العربية على أنه آيل إلى مزيد من الانحدار، الفعل الذي يجب أن يغري «الحالمين» للاستثمار فيه. والشاهد هو أنهم مضوا نحو استنساخ التجربة العراقية في الجزيرة السورية في شهر آذار 2004. وإذ لم تكن الظروف ناضجة آنذاك لتمدّد اللهب، فإنها أضحت كذلك، وفق تلك النظرة، في الشهر نفسه بعد سبعة أعوام، حيث سيمثّل ركوب الكرد لموجة «التحالف الدولي لمحاربة داعش»، بدءاً من العام 2014 فصاعداً، «خنجراً» بطبعة سوريا شبيهاً بذاك الذي استخدم في العراق قبل نحو عقدين.

* كاتب سوري