«بصورة مؤقتة، وعملاً بالمادة الأولى من صك الانتداب، والتماساً للعدل والوفاق، تمثَّل الطوائف بصورة عادلة في الوظائف العامة وبتشكيل الوزارة دون أن يؤول ذلك إلى الإضرار بمصلحة الدولة» - بهذه الكلمات القليلة التي تضمّنتها المادة 95 من دستورنا الصادر في ظل الانتداب الفرنسي، سنة 1926، إنما كان التأسيس الدستوري الأول، في عهد جمهورية لبنان الكبير، للصيغة الناظمة مذ ذاك لتكوين أجهزة الحكم فيها مع جميع أذرعها الرسمية. عنيت الصيغة المتعارف عموماً على تسميتها «الطائفية السياسية»، فيما، من جهتي شخصياً، أؤثر تسميتها بالأحرى «الطوائفية السياسية»؛ وذلك من باب الحرص على مطابقة الاسم مع المسمّى، إذ المسمّى هو في الحقيقة طوائف عدة، وليس طائفة واحدة. فما الذي نقرأه تحديداً في خلفية الكلمات هذه؟نقرأ، وللبداهة، أولاً، تسليماً ضمنياً بأن الشعب اللبناني مكوّن في بنيته الأساسية لا من مواطنين ومواطنات بالمعنى المُعجمي للكلمة، أي من رجال ونساء متساوين في الحقوق والواجبات بعيداً عن أي تمييز ما بينهم، وتتحدد هويتهم الرسمية برابط اجتماعي يربطهم مباشرة بالوطن والدولة، بمعزل عن أي انتماء فئوي لهم إلى طائفة، أو طبقة، أو عائلة، أو منطقة، إلخ، بل من طوائف عليها أصلاً يتوزع الأفراد هؤلاء. وقد قضت، استناداً إليه، بأن يكون الحكم عندنا، في أساسه، شراكة متكافئة ما بين هذه الطوائف، على أن يكون التجسيد لمشاركتها المتكافئة هذه بتمثيلها تمثيلاً «عادلاً» في النيابة والوزارة والإدارة، وسائر المؤسسات والأجهزة العامة، من قضاء وقوى مسلحة، وما إليها.
(أ ف ب )

وهذا ما، للمناسبة، كان مصيره، بعد ذاك، أن ينسحب أيضاً على التسوية الميثاقية التي قضت بتوزيع رئاسات الجمهورية ومجلسَي النواب والوزراء، ونيابتَي الرئاستين الثانية والثالثة، كما أن يشهد، بدايةً، في ظل الاستقلال وميثاق 1943، ولاحقاً، على امتداد اتفاق الطائف (1989)، تعديلات غير قليلة في تطبيقاته وآليات اشتغاله، ولكننا لا نرى ضرورة للتوقف عندها في هذه العجالة.
كما نقرأ، ثانياً، على امتداد ما تقدم، أن الغاية الضمنية من اعتماد هذه الصيغة كانت ضمان الوفاق، وبالتالي الاستقرار والسلم الأهلي في البلد؛ الأمر الذي، بالنظر إلى المقدمات الآنفة، كان السبيل الحكمي إليه ضمان عدم إقصاء أي من هذه الطوائف عن المشاركة بواسطة ممثلين لها في الحكم ومختلف الإدارات والأجهزة، بل وضمان أن تكون المشاركة هذه «عادلة» للجميع.
ولكننا، في المقابل، نستشفّ من خلال الكلمات الدستورية هذه اعتقاداً ضمنيّاً لدى واضعيها - أو ربما مجرد تفكير بالتمني (wishful thinking)، كما يقال بالإنكليزية، من قبلهم، لا ندري! - بأن الأسباب الموجبة لاعتماد هذه الصيغة شرطاً لضمان الوفاق العام والاستقرار في البلد، سوف لن تدوم طويلاً في ظل الجمهورية الناشئة، مع ما فتحته بمجرد نشوئها، أمام الجميع، من مجالات غير مسبوقة للاختلاط، والتقارب، والتفاعل، والتعاون، والتبادل، والتشارك، وحتى الاندماج ما بينهم، في شتى مجالات الحياة الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والثقافية.
ومثل هذه القناعة هو، للمناسبة، ما عبّر عنه بكلمات لا لبس فيها الرئيس رياض الصلح، في البيان الوزاري لحكومته الاستقلالية الأولى التي شكّلها سنة 1943. فكأني بأصحابها يفترضون هكذا أن من شأن ترسُّخ المستجدات المرتقبة هذه في المدى الوطني المستحدث والمفتوح بصورة غير مسبوقة أمام الجميع، أن تُحوِّل اللبنانيين وتخرجهم تدريجاً من واقع التشرنق في طوائفهم الأمهات، إلى رحاب المواطنة الدامجة بالمعنى الآنف تحديده. ولهذا، في المحصلة النهائية، كان أن أُقرّ اعتماد «الطوائفية السياسية» بصفة صيغة مؤقتة فحسب، يصار إلى إلغائها ما إن يتحقق هذا التحول المأمول فيه.
فهل هذا التوقع التأسيسي كان، بالتالي، توقعاً في محله؟ في ما يتعلق بنا شخصياً، نشكّ في ذلك. بل بالأحرى، ليس هذا ما نرى على الأرض اليوم، ولو بعد زهاء قرن من تاريخ إطلاقه، شيئاً من ترجماته المأمول فيها. ولا هو، في اعتقادنا، أصلاً كان ليتوَّج بمثل هذه النتيجة في ظل المبادئ الناظمة لشؤون ما يمكن - لمجانسته مع رديفه المذكور آنفاً في المستوى السياسي - تسميته «الطوائفية الاجتماعية الثقافية»، ونجده، هو أيضاً، مكرساً في الدستور بموازاة المادة 95 منه وأحكامها. عنيت تحديداً المبادئ التي تم إرساؤها - ولكن، من جهتها، بصفةٍ نهائية وغير مرشحة للتعديل مستقبلاً - في المادة 9 من الدستور، وهي المتعلقة بنظام الأحوال الشخصية ومعها ما سُمِّي «المصالح الدينية» للطوائف. وقد نصّت هذه المادة على أن «الدولة... تضمن للأهلين على اختلاف مللهم احترام نظام الأحوال الشخصية والمصالح الدينية».
إن هذا، على أيّ حال، ما تحت عنوان «الطوائفية والمواطنة في لبنان بين الحاضر والمرتجى»، سنسعى في هذه المحاولة إلى التحقق منه، وتحرّي أسبابه وخلفياته القريبة والبعيدة، مستعينين من أجل ذلك بمناهج علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، اللذين، للمناسبة، في إطارهما يندرج البحث. ولكن هذا لن يكون كل شيء. إذ، بناءً على ما يكون قد تم، من هنا، التحقق منه، سننهي البحث الحاضر بطرح فرضية مؤسِّسة لأبحاث لاحقة، نضمِّنها معالم الإصلاحات الواجب إدخالها على نظامنا الاجتماعي السياسي لانتشال البلد من الواقع المأزوم المسيطر عليه حالياً، وفتح الطريق أمام إعادة بناء الدولة على قاعدة منشودة من كثيرين، يكون لمفهومَي المواطن والمواطنة فيها ما يترتّب لهما من مراعاة.
ومع ذلك، فقبل الدخول في صلب المشروع هذا، ولحاجات التفسير الذي سيستوجبه، يبدو من غير النافل التمهيد له بنبذة تضع النقاط على الحروف في ما يتعلق بماهية الطوائف المعنية وظروف تشكُّلها وصيروراتها، وما إلى ذلك من اعتبارات أفضت بدولة لبنان الكبير عند نشأتها إلى التعامل معها على النحو الآنف الذكر. ومن هنا بالتالي نبدأ.

طوائف لبنان: ماهية وجذور
لئن كانت جمهورية لبنان الكبير قد جعلت من التسليم بأن شعبها مكوَّن في أساسه لا من مجرد مواطنين أفراد، بل من طوائف، لبنة مركزية في بناء كيانها هي بالذات، فإنّ تسليمها بهذا الأمر لم يكن، من قِبَلِها، اجتراحاً من عدم لواقع اجتماعي ثقافي تعددي غير مسبوق، بل مجرد اعتراف بواقع موروث.
وقد تكوّن الواقع هذا من جماعات دينية ومذهبية عديدة، من مختلف أديان الشرق الأوسط، اليهودية والمسيحية والإسلام والتوحيد الدرزي، اصطُلِح على تسميتها طوائف، وكانت - في ما عدا الطائفة اليهودية ذات الوضع المغاير على صعيد التكوّن - قد نشأت وترعرعت في كنف الانقسامات المتتالية التي مزقت وحدة كلتا الحضارتَين المسيحية والإسلامية عبر التاريخ، كما استمرت على مرّ القرون، باستثناء الحقبة الصليبية (1096-1291)، خاضعة لنظام حكم إسلامي في غالب الأحيان سنّي، لا تمييز في ظلّه بين الكينونة الدينية للإنسان ومقوّمات وجوده الدنيوي. لا بل كانت إلى ذلك مكرهة بطريقة أو بأخرى، وباسم الاختلاف في الدين والمذهب، على عدم الاندماج مجتمعياً، ولو تجاورت في المكان، وتنامى التعاون ما بينها عبر الزمن، أو حتى تسرّبت، من حقبة إلى حقبة، عائلات من بعضها لتلتحق بالبعض الآخر.
وكانت إلى ذلك قد بلغت، في عهد السلطنة العثمانية، ذروة تشكّلها كجماعات على درجة متقدمة من التماسك الداخلي، على رغم تناقضات رحمية تخترقها، بل لنقل - اعتماداً لكلمة موفّقة ابتدعها أنطون سعادة لتعريب كلمتَي community الإنكليزية، وcommunauté الفرنسية - كـ«متَّحدات اجتماعية» لكل منها ثقافته الخاصة بالمعنى السوسيولوجي والأنثربولوجي، بما الثقافة هي، حسب تعريف لعالم الاجتماع غي روشيه بات مكرّساً بإجماع أهل الاختصاص، كناية عن «كل مترابط من أنماط التفكير، والشعور، والتصرف المقنّنة قليلاً أو كثيراً، والتي، إذ يتعلمها ويتشاطرها أشخاص عديدون، تفضي بهؤلاء على نحو موضوعي ورمزي في آن إلى تكوين جماعة خاصة ومميزة». وغنيّ، للمناسبة، عن البيان، أن ما يسمّى بوجه العموم العادات والتقاليد ومنظومات القيم والأعراف المتوارثة الخاصة بأيّة جماعة ما هي إلا التعبيرُ المَعيشُ عن أنماط التفكير والشعور والتصرف المشار إليها من هنا، عند الجماعة المعنية.
من يُجِلِ الطرف في فضاءات الطوائف هذه يلفته بلا عناء تشابهها في الشكل إلى حدّ التماهي وهو ما قوامه نزعة لديها جميعاً إلى التشكُّل كـ«متّحد عضوي»


وقد كان إلى ذلك، بالنتيجة، هذا المآل مآل الطوائف هذه عن طريقين مختلفين، وهما:
- في ما يتعلق بالمسيحيين واليهود، طريق ما عُرِف بـ«نظام الملل»، الذي فصل «أهل الكتاب»، أي هؤلاء بالذات، عن جسم الأمة، ومنح كل طائفة منهم الاستقلالية في تدبير أحوالها الشخصية وتأمين «مصالحها الدينية» وممارسة طقوسها، فضلاً عن تربية أولادها، وفقاً لمعتقداتها وتقاليدها الخاصة - وفي ما يتعلق بالأقليّات الإسلامية، كالشيعة، والعلويّين، والإسماعيليّين، فضلاً عن الدروز، طريق الانزواء الذي كان مفروضاً عليهم، وفي بعض الأحيان، طريق اضطهادات قاسوها على يد الحكم السنّيّ الانتماء.
وعليه، انطلاقاً من تسليمها الآنف بالواقع الموروث، بعيداً من الانتقال بالمجتمع القائم إلى نظام مغاير في طبيعته - نظام كان ليكون، مثلاً، المواطن الفرد هو اللبنة الأساسية في بنائه، وليس الطائفة التي ينتمي إليها - عمدت الجمهورية اللبنانية الناشئة إلى الأخذ بـ«نظام الملل» إياه، ولكن، هذه المرة، مع تعميم أحكامه على مجمل طوائف البلاد، بما فيها الطوائف الإسلامية والدروز، بعدما كان، في العهد العثماني، محصوراً بالمسيحيين واليهود.
فإذا بالجمهورية الوليدة، والحال هذه، تجعل - رسمياً - من مجتمعها برمّته، وليس فقط في جزء منه، على صعيد «الأحوال الشخصية» و«المصالح الدينية»، على ما سيرد في نص المادة 9 من الدستور، مجتمعاً مركّباً من طوائف - متّحدات، أو لنقل «مجتمعاً طوائفياً». وهذا، في المحصّلة النهائية، تحديداً ما سوف يشكل الأرضية الاجتماعية الثقافية الحاضنة لممارسات اللبنانيين في شتى الميادين، ومنها خصوصاً ميدان التزاوج الذي ستكون لنا عودة مستفيضة إليه بالمعطيات الإحصائية المتوافرة. ولكن قبل ذلك، يبدو مناسباً التوقف، كما ينبغي، عند «نظام المصالح الدينية» المذكور في النص الدستوري، لتوضيح المقصود به، فضلاً عن صورة الواقع المَعِيش الذي يغطّيه.

نظام المصالح الدينية وتطبيقاته
في ما يتعلق، بدايةً، بعبارة «المصالح الدينية»، من البديهي أنها عبارة مطاطة. وقد أريد لها، بوجه الترجيح، عمداً أن تبقى هكذا، غير محصورة بحدّ، اللهمّ إلّا حدّ اللازمة الشرطية المنصوص عليها كذلك صراحةً في المادة الدستورية المعنية، وهي القائلة بوجوب ألّا يكون في ذلك إخلال بالنظام العام. وقد أريد، ولا شك، من خلال إبقاء صياغتها على هذا القدر من الغموض، ترك الحرية لكل طائفة في أن تحدد هي لنفسها، وفقاً لمعتقداتها وتقاليدها الخاصة، وبدون تدخّل من الآخرين، سواء مضامين ما ترى فيه مصالحها الدينية، مع ما قد تراه من ضرورة للفصل أو، بالعكس، للدمج ما بين مصالحها الدينية هذه ومصالحها الدنيوية إذا جاز التعبير، أو ما تحتاج إلى التزوّد به من أجهزة وأذرع تنفيذية لخدمة هذه المصالح.
وواقع الحال أن الاختلافات في هذا المجال ليست قليلة ما بين الطوائف هذه، التي للمناسبة عددها اليوم ثماني عشرة، وهي، إلى ذلك، على تفاوت غير قليل ما بينها، سواء لجهة الأحجام السكانية ووتائر التناسل والإمكانات والقدرات المتوافرة لديها، أو لجهة رقعة النفوذ ومدى المشاركة المتاحة لها في حكم البلاد، إلخ. كما من أصلها ثلاث عشرة مسيحية، وثلاث إسلامية، وواحدة موحِّدة درزية، وأخيراً واحدة يهودية كانت في الأساس، حين إعلان دولة «لبنان الكبير»، أقلية ضئيلة العدد، وباتت اليوم في لبنان المقيم، بفعل هجرة كثيفة طاولت عديدها بعد إنشاء الكيان الإسرائيلي، بحكم المندثرة.
ولأن الأمر كذلك، لإجلاء المقصود بمفهوم «المصالح الدينية» هذا، لا تبقى بمتناولنا وسيلة سوى الذهاب به إلى الميدان، ومن هناك النظر إليه من زاوية التطبيقات المندرجة تحته. وفي ما يلي، تالياً، ما من شؤونها يخرج إلى حيّز الضوء، عند النظر إليه من هذه الزاوية.
فعليه، من يُجِلِ الطرف في فضاءات الطوائف هذه، بقصد المقارنة ما بينها على الصعيد المعني، يلفته بلا عناء تشابهها في الشكل إلى حد التماهي حول ما يبدو كأنه مكمن المصلحة الدينية الأعلى لكل منها. وهو ما قوامه نزعة لديها جميعاً إلى التشكُّل، كلاً على حدة، كـ«متّحد عضوي»، موحّد وقائم بذاته، في مقابل «الطوائف - المتّحدات العضوية» الأخرى. وأعني بـ«المتّحد العضوي» جماعة تتعدّد بصورة طبيعية الحاجات في داخلها وتتنوّع، فإذا بالوظائف الحيوية، على امتداد هذه الحاجات، تتمايز بدورها ومن ثم تنشأ لتلبيتها في داخل الجماعة، على مثال الحاصل في الجسد الحيّ، أجهزة عضوية متخصصة تتكامل الوظائف التي تؤدّيها في تحقيق المصالح العليا لهذه الأخيرة.
ولكن ما تقدم لا يفترض بالضرورة انتفاء التناقضات والانقسامات والصراعات من كل نوع اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي أو عقائدي في داخل المتّحد الموصوف على هذا النحو. بل جلّ ما يفترضه هو تسليم الفئات المتناقضة والمتصارعة في داخله بالانتماء إليه، بصفته وحدة جامعة لها في مقابل الطوائف - المتّحدات العضوية الأخرى.
أمّا ما يفضح وجود النزعة هذه عند الجميع، ودخولها الفاعل في حيّز الاشتغال، فهو، في الواقع، مؤشرات عدة، تتوافر تقريباً هي هي عند كل طائفة على حدة، وتتضافر بمجموعها، على ما يبدو، لتحقيق المصالح الدينية لهذه الأخيرة - بل لنقل بالأحرى لتحقيق مصالحها الدينية الثانوية، باعتبار أن النزعة إلى «التبَنيُن المتّحدي» الآنفة هي المحققة لمصلحتها الدينية الرئيسة. وفي ما يلي أبرز المؤشرات هذه، مصنَّفةً وفق معيار النوع في بابين ملائمين، على حد ما ينكشف من أمرها عند كل طائفة بلا استثناء. فإذا بها:
- من جهة، انتظام الطائفة - كل طائفة - في الأساس تحت سلطة رئيس ديني، من مقام بطريرك، أو مفتٍ للجمهورية، أو رئيس لمجلس شرعي أعلى، أو شيخ عقل، إلخ، ومعه، إلى الجهاز القضائي المذهبي المنوطة به رعاية شؤون الأحوال الشخصية الخاصة بطائفته والفصل في نزاعاتها المحتملة، جملة من المؤسسات والأجهزة المعنية بتأطيرها، لنقل، إن جاز التعبير، على «الصعيد الديني البحت» (أبرشيات، رعايا، جمعيات رهبانية، خلوات، دور إفتاء مناطقية، جماعات عُلَمائِيَّة، كنائس، جوامع، حسينيات، جمعيات ذات غايات دينية أو روحية صرف كالحركات الرسولية عند المسيحيين أو ما شابهها من حركات عند المسلمين، إلخ).
- ومن جهة أخرى، تباريها - كدنا نقول في المجال «الدنيوي» - مع سائر الطوائف على التزوّد بما تيسّر لها من مؤسسات وأجهزة مختلفة الأنواع والاختصاصات، من وظائفها البديهية، إلى العمل على استقطاب أعضاء الطائفة وتلبية حاجاتهم وتطلّعاتهم في المجالات المعنية، تمكينها من إبقائهم على المستويات كافةً في كنفها هي، والحؤول ما أمكن دون خروجهم عنه إلى أيّ كنف آخر. عنيت بها، تحديداً، مؤسسات وأجهزة كالمدارس والجامعات ودور النشر والجمعيات الخيرية والثقافية والأندية وحركات الشبيبة، والأحزاب السياسية، ووسائل الإعلام الجماهيري، ومؤسسات الرعاية الاجتماعية، والشبكات الصحية، وما شاكلها جميعاً. ناهيك طبعاً بجميع ما تقوم به كل طائفة على حدة، ممثلة بزعمائها، وأعوانهم من نواب ووزراء، ومحاسيبهم المزروعين في مختلف الأجهزة والدوائر الرسمية، من تسخير لديناميات الطوائفية السياسية وألاعيبها لتوسيع رقعة نفوذها وخدمة مصالحها الخاصة ومصالح أبنائها وبناتها بواسطة مؤسسات الدولة على حساب الآخرين. ولكن هذا الجانب، الآن، شأنه آخر.
وصحيح، للمناسبة، أن التباري، في بلدنا، للتزوّد بمثل هذه الأنواع من أجهزة الخدمة والتأطير الاجتماعيين والتربويين والتوجيه والتأثير على العقول، ليس حكراً على الطوائف بوجه بعضها البعض. ذلك أن الدولة، من جهتها، هي أيضاً منخرطة فيه، ومثلها أيضاً وأيضاً، بالإضافة إلى بعض الجهات الأجنبية، جهات وطنية تنتمي إلى ما يسمّى المجتمع المدني. وهذا ما من نتائجه المحتملة أن يفتح ثغراً كبيرة أو صغيرة في جدار استئثار الطوائف بحلبة التسابق. بيد أن المعطى هذا، إن توقفنا عنده الآن لأكثر من مجرد ذكره، من شأنه أن يخرجنا من نطاق البحث الحاضر إلى نطاق آخر. وبالتالي، فتداركاً لمثل هذا الاحتمال، نجدنا ميّالين إلى وضعه الآن بين هلالين، لمصلحة المضيّ قدماً في سياق بحثنا الأساسي.
فعليه، ممّا تقدم، يتّضح ولا ريب كم هو غير هامشي، بالنسبة إلى حياة الإنسان الفرد في لبنان، نزوع الطائفة - المتَّحد التي ينتمي إليها، بجميع إمكانات الخدمة ووسائل التأثير المتاحة، إلى الحؤول دون تسرّبه منها، بل حتى إلى ربط مصيره الشخصي ربطاً محكماً بمصيرها هي كمتّحد ذي ثقافة خاصة تأبى الانزواء أو الأفول.
فماذا، والحال هذه، الآن عن الأحوال الشخصية، مفهوماً وأحكاماً وتطبيقات على امتدادها؟ وهل ثمّة إسهام لها في تعزيز نزوع الطوائف الآنف الذكر، إلى التبنين المتَّحَدي؟
(يتبع)

* باحث وناشط سياسي