ولدت منظمة التحرير الفلسطينية بقرار من الجامعة العربية عام 1964 في عملية قيصرية بين من يحاول منع ولادتها ومن يعمل على قيامها. واستطاعت البقاء والصمود عبر تضحيات جسيمة قدّمها الشعب الفلسطيني لتكون ممثلاً شرعياً. وفيما استمرت الحرب على المنظمة من أطراف كثيرة، الكيان الصهيوني أولاً، والقوى الغربية على رأسها الولايات المتحدة، وقوى عربية، غير أنها صمدت إلى حين، ولكن مثل كل القلاع التي تنهار من الداخل، كان تحجيمها، ثم تهميشها لاحقاً، وجرى ذلك على يد من هيمن على قرارها، وبعد أن فقدت أهم صفتين لها: التمثيل الشرعي، والوظيفة السياسية العليا. حيث ما عادت تمثّل جميع الفلسطينيين، وتكرّس هذا الواقع عندما أصبحت دائرة من دوائر «السلطة». أمّا فقدان الوظيفة السياسية العليا، فارتبط بغياب الهدف الجامع، حيث لم تعد منظمة هدفها تحرير فلسطين، وفقدت التسمية مسماها.ومثل أي شعب يناضل عبر قواه الحية ويحاول إصلاح ما فسد، فلا بد أن يتحرك شعبنا الفلسطيني نحو التغيير. إنّ أسلم الطرق هو الإصلاح، فيما أكثرها جذرية هي الثورة، ومن المعروف أن الثورة تغيير جذري لنظام الحكم والسلطة القائمة، وقد تأخذ أشكالاً عدة، وتتميز بالعنف، وتشارك فيها كل فئات المجتمع. أي أن الثورة بالدرجة الأولى ضد نظام حكم، وكونها عنيفة فهي تحطم كل شيء.
من الصعب معرفة اتجاه التغيير من البداية، فقد يكون الانفجار المجتمعي ثورة تُعيد بناء ما فسد على أُسس عصرية، وقد تقع حرب أهلية تُحطم عُرى التلاحم الاجتماعي، وعليه فالحديث الرومانسي عن «الثورة» فيه قدر كبير من خطورة إن لم تكن هناك قوى اجتماعية ناضجة تسيطر على مجريات الأمور في اليوم التالي. وهذا ليس رفضاً أو قبولاً، فالثورة في حد ذاتها لا تأتي بالحلول لمشكلات ومعضلات يعاني منها المجتمع بالضرورة، بل القوى الاجتماعية التي تقود مسيرة التغيير، ومن المفروض أن تبدأ قبل الوصول إلى مرحلة الانفجار بوقت طويل.
أمّا الإصلاح السياسي، فهو الطريق الأقل كلفة ويأتي تدريجاً، وسلمياً، بطيئاً وبدأب، ولا بد أن يكون الإصلاح شاملاً حتى نستطيع القول إنه إصلاح حقيقي. شرطه الأساسي قبول السلطة المتنفذة لأنها الجهة التي تقبض على مقاليد الأمور، فإن لم تتبنَ الإصلاح، حقاً وفعلاً، وتدفع به إلى غاياته القصوى، فلن نشهد إلا المزيد من الخراب.
والفرق الذي نريد أن نتوقف عنده هو أن الثورة تأتي رغماً عن إرادة السلطة القائمة وضدها، بينما الإصلاح هو بإرادتها ورضاها، فحتى لو قبلته نتيجة ضغط قوى خارجية أو قوى معارضة داخلية، فهو بهذه الحالة، على الأقل شكلاً، بموافقتها، فإن لم تستجب فلا تغيير ولا إصلاح، حيث يمكن أن توافق شكلاً ثم تعرقل العملية أو تقوم بإصلاحات شكلية غير جوهرية، ويمكن أن تقوم بإصلاحات حقيقة لكن بعد فوات الأوان، وهنا يطل «خطر الثورة»، نقول خطر لأن الانفجار المجتمعي المسمى لا نعلم هل يُنتج بناء جديداً خالياً من الفساد أو أقل فساداً أم يقدم لنا المزيد من الفوضى تجعل الناس تتحسر على زمن الفساد.
أثبتت الوقائع أن الطبقة الفلسطينية الحاكمة لا تريد إصلاحاً، فهي مستفيدة، حيث تقوم على ولاءات فئوية وولاءات عشائرية وأمنية


وفي الحالة الفلسطينية أثبتت الوقائع أن الطبقة الفلسطينية الحاكمة لا تريد إصلاحاً، فهي مستفيدة، حيث تقوم على ولاءات فئوية وولاءات عشائرية وأمنية، ومن خلال هذه الولاءات تحقق مصالح اقتصادية ومواقع اجتماعية مرتبطة بها ومرتهنة لسياساتها. لقد فقدت الشرعية الوطنية بسبب ارتباطها بالاحتلال، وفقدت الشرعية الديموقراطية حيث لا انتخابات رئاسية أو تشريعية، فضلاً عن الشرعية الدستورية. ترفض الانتخابات لخوفها من نتائجها وإذا لم تأتِ على هواها، وتستمر بقوى الدعم الغربي لها بموافقة الاحتلال. هذا التناقض بين قوى اجتماعية فاعلة حية ومؤثرة وبين السلطة القائمة سينتهي إلى انفجار مجتمعي نتمنى ألا يكون حرباً أهلية يُغذّيها الاحتلال أيضاً.
أمّا البرامج الإصلاحية، فلم تكف القوى الفلسطينية المعارضة عن تقديم برامج ورؤى عن الإصلاح، وتستمر الوساطات وجولات المصالحة، من القاهرة إلى اليمن فالدوحة ومكة والجزائر وصولاً إلى موسكو، ولم تكف السلطة المتنفذة عن رفض نتائج اللقاءات، وأحياناً علانية، أو إفشالها بعد الموافقة الشكلية في أحيان أخرى، وإن قبلت مرغمة تحت الضغط بإجراء إصلاحات في «م.ت.ف»، فالإصلاحات مع الوقت يتم تعطيلها، ثم تُفشل من جديد، وما يُنفذ منها شكلي، ولم تستطع أي قوة من قوى المجتمع الفلسطيني فرض رؤيتها. فالقوى المعارضة ترضخ لنظام المحاصصة (الكوتا) الذي تفرضه القيادة المتنفذة في «م.ت.ف» أو «السلطة الفلسطينية» أو سمّها ما شئت.
إنّ حُكمنا بأن الإصلاح في منظمة التحرير دعوة متهافتة ليس بحاجة لإثبات صحته أمام الوقائع والحقائق الماثلة أمامنا. فنظرياً يحتاج الإصلاح إلى توافر شرط أساسي وهو أن تكون السلطة من يقوم به، وهذا غير متحقق، وعملياً تثبت هذه السلطة، في كل مرة، أن لا تغيير ولا إصلاح لمنظمة التحرير الفلسطينية.
وعليه، فإن أي دعوة إصلاحية من قوى المعارضة باتجاهاتها كافة، هي دعوة متهافتة، لأنها غير واقعية، فشرط الإصلاح هو قبول السلطة بالتغيير، وعندما يثبت لدينا أن السلطة لا تقوم بإصلاح جذري ولا تقبل به، فأي دعوة وكل دعوة لا معنى لها. إنها فقط لتسجيل مواقف للتاريخ ورفع العتب، ولسان حالهم يبرر ذلك: قلنا ولم يستمع أحد. فماذا نفعل؟
من أراد دوراً تاريخياً فاعلاً ومؤثراً، فعليه تركيم شروط نجاح الإصلاح والتغيير عبر خوض مجابهة سياسة واجتماعية لتحقيق الهدف الأساسي: وحدة الشعب الفلسطيني ومشروعه الوطني التحرري من أجل انتزاع حقوقه الوطنية، وهذه العملية ليست سجالاً سياسياً فوقياً، بل مواجهة اجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية شاملة، تجعل النخبة الحاكمة في مواجهة كتل اجتماعية تزداد اتساعاً وفاعلية. هذا النهج يربط بين الأهداف الاستراتيجية وما يسمح به الواقع.
تأخرنا كثيراً، نعم، لكن لا بد من البدء والمضي في محاولة لجعل التغيير يحقق الغايات المرجوة من تنمية وتطوير وتحديث، بدل أن يحدث انفجار يذهب بالسلطة قبل الاحتلال، ويطيح بالترابط الاجتماعي بعد أن أطاح بالترابط السياسي. ونفقد وحدتنا كشعب له قضية بعد أن فقدنا وحدة الهدف والبرنامج والمشروع الوطني.
* كاتب فلسطيني