«- كنت أعتقد أنّني ماهرٌ في ما أفعله، أتعلم؟ طوال هذا الوقت، كنت أظنّ أنّي على الأقلّ جيّد وكفوء- أنت تبلي بلاءً حسناً، قال حسيني النّادل، لديك ببساطة وظيفة زبالة
- ولكنّي كنت جيّداً فيها
- أنت تبلي حسناً، أعاد حسيني القول - كأنّ تكراره سيجعله صحيحاً»


[من رواية «ليفياثان يستيقظ» لجايمس كوري]

من الأوهام العربيّة المنتشرة فكرة «استثنائيّة» لبنان عن محيطه، وأنّ بلدك -العربي- لا يمكن أن تجري عليه العجائب التي طالما نقلها الإعلام -بنهم- عن ذاك البلد الصغير. هي مقولة انطلقت خلال سنوات الحرب الأهلية وكانت تبغي، من ناحية، طمأنة النّفس (لا يمكن أن نتقاتل كاللبنانيين، أو أن تصبح مدننا خراباً مثل عاصمتهم، الخ). لقد نقلت في الماضي حديثاً لوزير الخارجية العراقي السابق طارق عزيز وهو يجزم لضيفه الأميركي، دونالد رامسفيلد، بأنّ ما يحصل في لبنان (نحن هنا في أوائل الثمانينيات) لا يمكن تخيّله في العراق، حيث هوية الإنسان العراقي وطنية بحت، وهو لا يمكن أن يرى نفسه جزءاً من طائفة كاللبنانيين. من جهةٍ أخرى، لدى العديد من اللبنانيين نزعة بأن يعلنوا، بتفاخر، عن استثنائيتهم تجاه «الآخر» العربي، وذلك له أسباب مختلفة تماماً، وهذا السلوك -أيضاً- ليس حكراً عليهم بين العرب.

يتمّ النظر إلى لبنان من خارجه اليوم باعتباره النموذج لمفاهيم «الانهيار» و«الأزمة»، التي لا تصل بعد إلى مرحلة الحرب والعنف. الذي قال لكم إنّ الأزمات تخرج الحسن في النّاس كان يكذب عليكم. خارج تفاصيل الانهيار الاقتصادي والوضع الاجتماعي، تظهر في البلد يومياً تصريحاتٌ وقفزات في مستوى التخاطب، تعني عادةً إمّا أنّك في حربٍ أهليّة أو أنّك مستعّدٌّ لها. المشكلة ليست في عبارةٍ محدّدة عنصريّة أطلقها أحدهم، أو الكلام الذي أصبح دارجاً عن التقسيم والفدرلة (في بلدنا مترامي الأطراف)، بل هي في أنّ كلّ حدثٍ يجري هذه الأيّام، مهما كان اعتيادياً و«يومياً» (وإن كان جريمةً جنائية، أو خلافاً بيروقراطياً، أو موضوعاً كفواتير الكهرباء وتغيير التوقيت)، يتحوّل مباشرة إلى تنابزٍ طائفي ودعوات إلى التقسيم و«مصارحات» عنصرية عن كلف العيش مع من «لا يشبهك». هذه دينامية تشبه الدينامية الثورية التي وصفتها روزا لوكسمبورغ، حين يتحوّل الحدث المفرد إلى شيءٍ أكبر منه، وينتشر ويولّد أحداثاً أخرى تتصعّد سياسياً وتكتسب معاني جديدة.
الأزمات لا تخرج أفضل ما في النّاس، بل هي تأخذهم إلى آخر حقيقتهم، في السيّء وفي الحسن. المجتمع اللبناني الذي كان أصلاً مقسوماً طبقياً بحدّة أصبح يأخذ شكلاً «نيو-إقطاعياً»، بحيث أن طبقة صغيرة من النّاس تتحكّم بأغلب الدخل ومصادره، وهي فعلياً «تملك» الباقين، بمعنى أنها هي التي تشغّلهم وتبقي المطاعم مفتوحة وتدخل دولارات إلى البلد وتدفع رواتب الموظفين، الخ. هؤلاء، في عزّ الأزمة الخانقة، يعيشون حياةً مهنيّة طبيعيّة ويلاحقون طموحاتهم في المؤسسات الأجنبية، ويستهلكون كما كانوا يفعلون من قبل، ورواتبهم تزداد وتأتيهم بالدولار، سواء كانوا في لبنان أو في الخارج. هم، بطبيعة الحال، من سيحكم أيضاً ويهيمن ويأخذ أكثر من حجمه في كلّ المجالات («هل تزعم أنّني لا أعايش بقية اللبنانيين همومهم، وتريد أن تحرمني من حقي السياسي في التعبير والاحتجاج؟ وذلك فقط لأني موظفٌ في الأمم المتحدة وراتبي عشرة آلاف دولار، نصفها بدلٌ عن مشقّة الحياة في الأشرفية؟» نعم، هذا بالضبط ما أقوله).
ما أريد شرحه هو أنّ لبنان، بالنسبة إلى بقية العرب، قد يكون هو مستقبلهم وليس «الاستثناء» عنهم. هو، من نواحٍ كثيرة، البلد الأقلّ مناعة، الأقلّ «سيادة» والأكثر عرضةً للتدخّل بلا حدودٍ ورقيب. وهو أيضاً البلد الصغير الذي من السهل أن توجّهه أو «تشتريه». تمكّن رفيق الحريري، مثلاً، من تنفيذ «خطّةٍ مالية-مصرفيّة» بشكلٍ صاعقٍ وسريع، وذهب بها إلى أبعد ما يمكن لأي بلدٍ عربيّ أن يصل إليه يومها (لأن البلد العربي «النمطي» فيه رئيسٌ لم يصل إلى كرسي الحكم بسهولة، وهو يتحكّم بالمصرف المركزي، ويريد لعهده أن يستمرّ). المسألة هي أنّ الكثير من «العوارض» التي تعتري الاقتصاد والمجتمع في دولٍ مثل تونس ومصر والأردن تشبه في جوانب كثيرة منها «المسار اللبناني». هذا ما تلمسه حين تسمع عن الانخفاض السريع في مستوى حياة الغالبية في الأردن، أو عن حجم الدّين العام في مصر، ودول أصبح وضع اقتصادها وماليتها يرتبط بمستوى الفائدة في العالم. بل إنّ المفارقة هنا هي أنّ لبنان، بفضل حجمه الصغير ومنظومات الدعم الكثيرة في المجتمع، والثروات الطائلة التي «استخرجها» اللبنانيون من مختلف أرجاء العالم (وبخاصة الدول الفقيرة)، فإنّ «الشتاء اللبناني» قد يكون أقلّ قسوةً وعنفاً من غيره.

العِلم المسموم
العديد من الناس يحلل ما يجري في بلادنا حصراً من الزاوية المحلية الداخلية (السياسات التي تدير البلد ونظامه الطبقي والفساد، الخ. هي مسؤولة عن كلّ شيء)، وهناك من يحصره بالمستوى الخارجي (النظام الدولي وأميركا وسياسات الدول الكبرى والأحلاف، باعتبار أنها ما يحكم، في نهاية المطاف، مصير الأحداث في بلادنا الصغيرة). وهناك أيضاً من يقضي وقته في الصراخ عن أنّ هذه الثنائية زائفة. ولكنّ قلّةً تمارس التحليل على المستوى الإقليمي، الأوسط بين الاثنين، كما كان يفعل العديد من باحثي سياسة الشرق الأوسط في الستينيات والسبعينيات.
النقاش على هذا المستوى يستلزم الكلام عن «أمور حقيقية»، أنظمة موجودة في جوارك وبالقرب منك، وهي أرست في الإقليم تراتبية في القدرة والحظوة، فمن الطبيعي أن يتجنبّ الكثيرون الخوض النقدي في الموضوع (إن كنت تودّ أن تظلّ «قابلاً للتوظيف» في المجال الفكري والإعلامي، فإنّ الكلام النظري عن النظام الدولي والإمبريالية، أو الفساد الداخلي والشخصية المحلية، هو أسهل بكثير من التعرّض للأمير وسياساته). هذا النظام الذي ولد في الأربعينيات من القرن العشرين تحت رعاية بريطانية، ثمّ شهد مرحلةً من «الحرب الباردة» بين أطرافه في الستينيات، قبل أن يبدأ ميزان النفوذ الإقليمي بالانحياز تدريجاً وبشكل مطرد لمصلحة الخليج والنفوذ الغربي. واثر انفجار الكويت عام 1990، رمّم النظام نفسه مع عودة الجميع صاغرين، بعد الحرب، إلى «الحظيرة العربية» (باستثناء العراق وليبيا)، ثمّ انفجرت الأمور من جديدٍ بعد حرب العراق و«الربيع العربي».
الحادثة كانت «كاشفة»، أظهرت الكمّ الهائل من «الثوريين» الذين يتلهفّون لإعادة الوصل مع الخليج وما يمثّله، وصولاً إلى اجتراح أي تحليلٍ «تبريريّ» يوافق أهواء صاحبه ورغباته


مصر هي مثال على تلاقي هذه العوامل كلها في أكبر بلدٍ عربي. تغطية الأخبار عن مصر تركّز غالباً على جزئيات أو أزماتٍ بشكلٍ منفصل (انخفاض قيمة الجنيه، ارتفاع أسعار المواد الأساسية، مشكلة الدّين، الخ). ولكن مختلف سياسات الدّولة تشير بوضوح إلى «خطّة عامّة» تدير هذه «الإصلاحات»، يجب تقييم الأمور من خلالها. باختصار، الرئيس المصري قرّر أن يستخدم مرحلة «طفرة» في الريوع الجيوسياسية (أي عشرات مليارات الدولارات التي أتيحت لتثبيت النظام في السنوات الأخيرة، سواء من الحلفاء في الخليج أم من المؤسسات الدولية وأسواق الدّين) بغية تحقيق «انتقال» جذريّ خلال سنوات. الانتقال إلى ماذا؟ إلى الوصفة النيوليبرالية المثالية: دولة «خفيفة»، ليست ملزمة بالتوظيف ولا دعم الغذاء أو الخدمات، ولا الدفاع عن العملة. دولة «حارسة» صغيرة، مصاريفها قليلة مقارنة بالماضي وموازنتها لا تسجّل عجزاً. الإرث الذي يريد أن يتركه الرئيس. وذلك بالترافق مع إصلاح البنى التحتية وتحديثها، وتوفير مدنٍ للاستثمار بخدماتٍ ومواصفات عالمية؛ ليكون الباقي متروكاً للقطاع الخاص.
الفكرة هي أنّه لا يمكن لأي نظام حكم اليوم، سواء في مصر أو الأردن أو المغرب، تخيّل خيارٍ مختلف عن هذا الطريق الليبرالي. هذه الوصفة هنا لا تمثّل موقفاً أيديولوجياً، بل هي «العلم» و«الحقيقة» بالنسبة إلى النخب الحاكمة. هذا ما يقوله الخبراء والدراسات والمانحون، وهو مقياس «الإصلاح» الاقتصادي اليوم. من السهل أن تنظّر من موقع المراقب أو الشعبوي، وأن تطالب بـ«سياسات اجتماعية» وانحياز للفقراء، بل واشتراكية حتى، فالكلام سهل. ولكن، في الواقع السياسي المعاش، هل ستقف فعلاً في وجه «الخبرة» والمؤسسات الدولية؟ هل ستنعزل عن المانحين وأسواق المال وتجرّب التنمية على طريقتك؟ هل ستجترح، حقاً، نموذجاً اقتصادياً عملياً، لا شعارات ومبادئ، يستبدل النموذج السائد؟ وقبل ذلك، هل ستتمكّن من مواجهة كل فئات النافذين في بلدك التي ستعارض بعنفٍ أياً من هذه السياسات، وهي فعلياً من يدير الاقتصاد؟
المشكلة دوماً في هذه الحالات، وإن نجح «الإصلاح الليبرالي»، هي أنّ النموذج النظري والأرقام لا تنطبق دوماً بشكلٍ «نظيف» على خريطة المجتمع البشري. حين تتقدّم الليبرالية الاقتصادية في بلدٍ فقير، ستنتج ردود فعلٍ وتحوّلات اجتماعية لا يمكن أن يلحظها الخبراء أو أن يتنبأوا بها. المصريون الذين ولدوا في السنوات الماضية سوف يعيشون في عالمٍ يختلف عن ذاك الذي عرفته الأجيال السابقة وهم، من هنا، سيكونون مصريين «مختلفين». البعض مهووس بفكرة «الثورة»، ويترجم الأزمة الاجتماعية دوماً إلى «ثورةٍ» ملحمية ينتظرها (كمن ينتظر على الدوام، بعيون حالمة ومن غير أن يفعل شيئاً، «انقلاب النظام الدولي»). ولكن هناك أشكالٌ مختلفة لتردّي المجتمع المأزوم، والثورة هي من أقلّ الاحتمالات هنا. الحالة «الإقطاعية الجديدة» مثلاً كما تتجلّى في لبنان حالياً تمثّل -في المدى المنظور- النموذج المقبل في هذه البلدان. مجتمعٌ مقسوم بين من هو مرتبط برأس المال الغربي والخليجي، ومن هو في الطبقات الشعبية. بين من يدرس في الجامعات الخاصة، ومن لا يتقن لغات. بين من يسكن في مدن الذوات والأجانب ومن يقطن في «المدينة القديمة». وبين من يعمل -في الأغلب وسيطاً- في «الاقتصاد الحديث»، وبين من دوره في الحياة هو أن يكون ثروة البلد الحقيقية - يد عاملة رخيصة (ويجب أن تظلّ رخيصة).

البنيوي والرغبوي
حين تمّ إعلان عودة العلاقات الديبلوماسية بين إيران والسعودية علّق أحد الأصدقاء أن أكثر من يتكلّم عن الاتفاق ويحلّله، منذ ساعاته الأولى، يفتي وكأنّه كان في جلسات التفاوض ويعرف تماماً علام اتفق الأطراف/ وقد قرأ الوثائق والمسوّدات. الخبر، في سياقه، يعني أن «تهدئة» ما قد تكون في المنطقة في المرحلة القصيرة المقبلة، أقلّه مع الثنائي الخليجي؛ ولكن الطريف كان كمية الخرافات التي نسجت حوله. ذهب البعض إلى اعتباره «تحالفاً»، والبعض الآخر تكلّم عن انحياز السعودية إلى «محور الصّين»، وما إلى ذلك من تحليلات.
المسألة هي أنّ إعلاناً كهذا لا يمكن أن يؤخذ إلّا بما هو عليه، لا أكثر ولا أقل: إعادة للعلاقات الديبلوماسية. وقد كانت للبلدان سفارات قبل 2016 وكانا يتصارعان في كلّ مكان، وقد يعود ذلك أيضاً في المستقبل. لا معنى «اقتصادياً» مباشراً للموضوع كما يزعم البعض، فالسعودية تقاطع إيران اقتصادياً منذ زمنٍ بسبب العقوبات الأميركية، ولا مؤشّر إلى أنها تنوي خرق هذه العقوبات في المقبل من الأيّام. قبل ذلك كلّه، كانت السعودية هي من قطع العلاقات، وهناك لإيران -بتوصيف أحد الأصدقاء- ما يشبه الـ«دوغما» في السياسة الدولية، وبخاصة تجاه الجيران: طهران تدعو، دوماً وبلا استثناء، إلى إقامة علاقات رسمية واقتصاديّة مع جميع دول العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة نفسها؟ الاستثناء الوحيد -لأسباب عقائدية- هو إسرائيل. بل إن الصحف الأميركية كانت تقتبس الأخبار عن كواليس الاتفاق من مسؤولين أميركيين في واشنطن (أي أن أميركا لم تكن بعيدةً عن الموضوع).

أصبحنا في زمنٍ لا يكفي فيه النّقد، بل يلزمه «هجمة مضادّة» حقيقية من الطرف الآخر، وتشكيل إجاباتٍ مختلفة وتشخيصٍ مضادّ للعالم وأهدافك فيه، وإلّا فإنّك لن تعرف ماذا تفعل بمساحتك في الأرض حتى وإن حصلت عليها


ولكن الحادثة كانت «كاشفة»، أظهرت الكمّ الهائل من «الثوريين» الذين يتلهفّون لإعادة الوصل مع الخليج وما يمثّله، وصولاً إلى اجتراح أي تحليلٍ «تبريريّ» يوافق أهواء صاحبه ورغباته: من تخريجة التحليل «العقلاني البارد»، أي أن الرياض قد قرأت أوراق المستقبل، وقررت نقل رهانها عن طاولة أميركا والبحث عن ضامنٍ آخر؛ وصولاً إلى نظرية أن محمد بن سلمان هو أميرٌ تحديثي واستقلالي، صحا عقله وضميره فجأة، وأصبح معك في الخندق - وها هو يخرج الآن عن طوع أميركا. ولا ننسى الاحتفاء الرومانسي بأنّ أي تقارب مع أنظمة السعودية والإمارات يمثّل إعادة ترميمٍ لـ«الحظيرة العربية» الشريفة، والتقاء للأخوة بعد جفاء، وإحياء للعروبة وأحلامها. هنا أسوأ ما في الموضوع: استغلال النبيل في فكرة العروبة. أي أننا، كشعوب تسكن هذه المنطقة، يجب أن نعيش سوية في نهاية المطاف، وفي درجة من التساوي والمنعة لكي نبني كيانات تعمل لمصلحة أهلها. هناك من يأخذ هذا الشعار التقدمي ويمسخه، ويختزله في معانقة بين الرئيس والأمير. الأسوأ هو أنّ الكثير من متملّقي حكّام الخليج اليوم كانوا أنفسهم من يجترح الكلام العنصري المتخلّف ضدّ شعوب الخليج وأهله العاديين و«عربانه»، حين كان أولئك الحكّام يحرقون بلاده.
لن أعيد شرح طبيعة النظام الدولي والحلف الأميركي السعودي، وهامش «الإرادة» فيه. أو أن هذا التحالف يمرّ أساساً، منذ السبعينيات، بتجاذباتٍ ومدٍّ وجزرٍ، مع اختلاف الإدارات في البيت الأبيض، ولكن من غير أن يمسّ ذلك جوهر الحلف. أو أن الرياض تفصل بالكامل بين خلافاتها مع إدارة بايدن وسياساته في المنطقة، من ناحية، وبين «الشراكة» المديدة مع واشنطن. المبدأ ليس فقط في أنه يجب أن تنتظر بوادر ملموسة للتغيير الجذري في أفعال الأمير الشاب قبل أن تستشرفها، بل في أنّك قد تضطرّ لإخفاء تحليلاتك الحالية مع وصول أول رئيس جمهوري إلى البيت الأبيض.
ولكن هناك شيئاً أعمق يتعلّق بنظرة هذه النخب (سواء عن سذاجة أو انتهازية) لمفهوم «النظام العربي» الذي يبتغونه في دواخلهم، ويسمّونه «عروبة» حين تكون مربحة. وباحتفائهم باللقاء بين الثري والفقير، والرؤساء والأمراء، وترجمة علاقات القوة في الإقليم باعتبارها «أواصر أخوّة» تمتدّ وتدعو إلى التفاؤل. هذا المفهوم عن الإجماع العربي، بالمناسبة، كان دوماً أسوأ ما يمكن أن يحصل للمنطقة: هذا هو النظام العربي الذي غطّى كامب دايفيد، ثم شنّ حرباً -باسم العروبة- على إيران، ثمّ ضرب بغداد وحاصر العراق وليبيا، وعزل الجزائر. ولكنّ هذه المنظومة، بالمقابل، قد موّلت كمّاً هائلاً من المجلّات والصّحف، وسمحت لعددٍ هائلٍ من المثقفين العرب بأن يعيشوا حياةً مريحة بين باريس ولندن.
ما سنعيده هو أنّ ما أعطى «العروبة» يوماً ما معنىً ثورياً كان جوهراً لها تبنّاه عبد الناصر، وجعلها مصدر ذعرٍ لـ«النظام العربي» الذي حاربها بلا هوادة. معنى «العروبة» هنا هو ليس في أن نحتفي بلغتنا الجميلة ولقاءات القمم وسباق الهجن، بل هو يبدأ بإعادة النظر بشرعية الحدود السياسية التي خطّها الاستعمار؛ الصدفة التاريخية التي جعلت البعض ثرياً فيما حبست الثروة عن الأكثرية، وجعلتنا أمّةً تابعةً مشرذمة. هذا يعني، إذاً، إعادة النظر في توزيع الثروة في الإقليم، وهنا بيت القصيد. إن كان هدفك النهائي هو القبول بهذه «البنية» التاريخية وعقد تسوية بين عناصرها تحت خيمة «العروبة»، فلا معنى لأن ترفع شعارات ثورية أو تحررية. الكلام عن «إخراج أميركا من المنطقة» لا معنى له إن كنت تقصد إخراج وحداتٍ للجيش الأميركي النظامي الذي جاء في يومٍ غازياً، فيما واشنطن لها من حولك جيوش وأنظمة؛ وهم قلّة تتحكّم بجلّ الثروة في المنطقة، وستستخدمها لغير مصلحة أهلها. هم، إذاً، الأقدر على الهيمنة في الثقافة والإعلام والاقتصاد، وهنا المعركة الحقيقية «ضدّ أميركا والإمبريالية» على المدى البعيد.

خاتمة: عن غياب النظرية
في غياب نظرية ثورية، يحصل ما رأيناه في مرحلة «ما بعد الربيع العربي». إن نظرت إلى الواقع الحالي ففي وسعك بسهولة أن تخرج بسرديّة مفادها أنّه في دول «الربيع» على اختلاف مصائرها (نموذج تونس، مصر، أو السودان)، لم يتمّ استئصال العناصر «السيئة» في النظام القديم، بل تجذّرت وتضخّمت. كانت الشكوى من أن الدولة الاجتماعية، قبل 2011، تسير في طور الضمور، فأصبحنا في نيوليبرالية مكتملة الأركان؛ كانت السيادة في التعامل مع الخارج منتقصة، أمّا اليوم فـ«الخارج» يموّل الأحزاب والانتخابات والمجتمع المدني؛ كان التعامل مع إسرائيل يجري تحت الطاولة فأصبح يجري فوقها، الخ. بل يمكن القول إنّه كان من الصعب أن نتخيّل زين العابدين أو حسني مبارك وهما يطرحان «الإصلاحات» الجذرية التي أقرّت بعد «الربيع»، وقد مرّ أغلبها بسهولةٍ ومن غير احتجاج.
التهدئة تجري بين الحكومات، ويستفيد من فتاتها المرتزقة، ولكنّ الأيام المقبلة ستكون مرحلة «شتاءٍ» لأغلب شعوب المنطقة، وهي تسير بدأبٍ على الطريق اللبناني. أصبحنا في زمنٍ لا يكفي فيه النّقد، بل تلزمه «هجمة مضادّة» حقيقية من الطرف الآخر، وتشكيل إجاباتٍ مختلفة وتشخيصٍ مضادّ للعالم وأهدافك فيه، وإلّا فإنّك لن تعرف ماذا تفعل بمساحتك في الأرض حتى وإن حصلت عليها. هذا ما سنحاول تطويره وشرحه في المقبل من الأيّام. لا يكفي أن تنظر إلى السماء وتنتظر «سقوط أميركا» و«تغيّر النظام الدولي» لكي يحلّ مشكلاتك كلّها المستقبل الذي تراه بوضوحٍ وثقة (لأنّك لا يمكن أن تخطئ). الهدف الحقيقي هو أن نستخرج من الماضي وممّا يجري حولنا نظريّةً جديدة تواكب هذا الغد المقبل، لعلّنا نعرف طريقنا فيه.
* كاتب من أسرة «الأخبار»