أريد بهذا العرض أن ألفت اهتمام القارئ العربي والشيوعي خاصة، لهذا الكتاب الهام الذي جمعه وقدّم له الباحث الفلسطيني ماهر الشريف، ونشرته دار المدى في طبعة أولى عام 2004.إنّ قضية فلسطين قضية أممية بمقدار ما هي قضية قومية عربية، وهذا التقرير مصدره أن «المسألة اليهودية» كانت قد سمّمت جسد أوروبا السياسي، ومنه الاشتراكي في غربها وشرقها، بخاصة بعد فشل ثورات 1848 الديموقراطية في البر الأوروبي الغربي، وبعد هزيمة كمونة باريس أو الثورة الفرنسية الرابعة آذار 1871. سوف تنشط الاشتراكية الصهيونية بعد هذا التاريخ بشكل لافت بخاصة في أوروبا الشرقية، في بولندا وروسيا وأوكرانيا، وتمارس تشويشاً على الاشتراكية الماركسية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد سممت (المسألة اليهودية) أيضاً، بدايات نشوء الحزب الشيوعي الفلسطيني والأحزاب الشيوعية في المشرق العربي بقسميه الآسيوي والأفريقي.
يقول الشريف: «كانت سعادتي كبيرة، وأنا أتوجه، في الساعة العاشرة من صباح يوم الخامس عشر من آب 1989، للقاء يوري نيقولايفتش أميانتوف، نائب رئيس قسم الأرشيف المركزي التابع لمعهد الماركسية-اللينينية في موسكو. فبعد مساع حثيثة، بذلت على أكثر من صعيد، دنت اللحظة التي انتظرتها طويلاً وبات في إمكاني الاطلاع على الأرشيف السري الخاص بفلسطين، والمودع في قسم تاريخ الكومنترن (الأممية الشيوعية) لدى الأرشيف المركزي للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي».

كان اهتمام الشريف بـ«الأممية الشيوعية وفلسطين» قد بدأ عام 1974. يقول «في تشرين الثاني 1977، تقدمت برسالة جامعية إلى معهد تاريخ الحركة النقابية التابع لجامعة باريس الأولى – السوربون، تحت عنوان «الأممية الشيوعية وفلسطين 1919-1928»، صدرت باللغة العربية عن دار ابن خلدون في بيروت عام 1980. كانت الرسالة في السوربون لنيل درجة دكتوراه الحلقة الثالثة في التاريخ المعاصر. وقد اعتمدت في إعداد تلك الرسالة في الأساس على الطبعة الفرنسية من صحف ودوريات الكومنترن وعلى محاضر ومقررات مؤتمراته العالمية وعلى التقارير الصادرة عن الاجتماعات الدورية التي كانت تعقدها لجنته التنفيذية. بالإضافة إلى المذكرات الشخصية لعدد من الشيوعيين العرب واليهود، ومن أبرزهم محمود الأطرش المعروف كناية بالمغربي».
ويضيف: وكون الأرشيف السري للأممية الشيوعية كان محظوراً على نظر الباحثين بقرار من بيروقراطية جهاز الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي «ومع ذلك وبالاستناد إلى ما جمعته في موسكو وإلى ما توافر لي من المنشورات والوثائق الأصلية لعصبة التحرر الوطني، وهي الإطار التنظيمي الفريد الذي وحّد في صفوفه الشيوعيين العرب الفلسطينيين ما بين 1943-1951، نجحت إلى حد ما، في تعميق ما كنت قد توصلت إليه من نتائج علمية، وتقدمت في منتصف كانون الأول 1982، برسالة جديدة إلى جامعة باريس الأولى-السوربون نفسها، تحت عنوان: «الشيوعية والمسألة القومية العربية في فلسطين 1919-1948»، وحصلت على أساسها على درجة دكتوراه الدولة في الآداب والعلوم الإنسانية. وكنت قد أصدرت طبعة عربية مختصرة للرسالة نشرها مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية في بيروت عام 1981».
إنّ الدراسة العلمية لتاريخ الحزب الشيوعي الفلسطيني وارتباطه مع الكومنترن كان مرهوناً -بحسب الشريف- بتوافر فرصة الاطلاع على الأرشيف السري للكومنترن، باعتباره المرجع العلمي الأهم لدراسة تاريخ الحزب الشيوعي الفلسطيني وتاريخ مجمل الأحزاب الشيوعية في المشرق العربي في الفترة الممتدة من تأسيس الكومنترن 1919 إلى حلّه، بقرار من ستالين عام 1943.
يقول الشريف: «تضمنت الصناديق الأربعة الأولى عدداً كبيراً من الملفات التي اشتملت على التقارير والرسائل التي كانت تبعث بها بشكل دوري اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفلسطيني إلى اللجنة التنفيذية للكومنترن أو إلى القسم الشرقي التابع لها، كما تضمنت معلومات عن نشاط الحزب وتطور أوضاعه التنظيمية وحالته المادية. واتصالاته مع الحركة الوطنية العربية ومع الأحزاب الشيوعية بخاصة في مصر وسوريا (ولبنان). بالإضافة إلى معلومات عن تطور الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في فلسطين والبلدان المجاورة لها. كما اشتملت هذه الملفات على نسخ من النشرات والبيانات والصحف التي كان يصدرها الحزب الشيوعي الفلسطيني باللغة العربية أو باللغتين اليديشية والعبرية».
أقول من جديد: هذا الحضور السياسي اللافت لـ«المسألة اليهودية» في أوروبا في النصف الثاني للقرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، نلاحظه في بدايات تأسيس الأحزاب الشيوعية في المشرق العربي بعد قيامة الأممية الشيوعية 1919. وقد استغلت الاشتراكية الصهيونية هذه المناسبة لتلعب دوراً ملتبساً في هذا التأسيس. يكتب الشريف: «فمنذ صيف 1920 بدأ ممثلو «حزب العمال الاشتراكي-بوعالي تسيون» الذي تأسس في فلسطين في تشرين الأول 1919، يطرقون أبواب الكومنترن للانضمام إليه». ويضيف: «يغني الأرشيف الخاص بفلسطين الأبحاث التي أنجزها عدد من الباحثين في مقدمتهم الصديق رفعت السعيد، عن تاريخ الحركة الشيوعية في مصر، حيث تتضمن وثائقه كمّاً من المعلومات عن طبيعة العلاقات التي قامت بين الحزبين الشيوعيين الفلسطيني والمصري، منذ أن أعرب «الثوريون اليهود» في حزب العمال الاشتراكي (بوعالي صهيون) في عام 1920 عن رغبتهم في إقامة صلات مع مصر، مروراً بالمهمات التي قام بها بعض قادة الحزب الشيوعي في مصر، ومقترحهم الداعي إلى توحيد الحزبين في فلسطين ومصر، وإقامة جهاز حزبي موحد يشرف على نشاطهما، وانتهاء بإصدارهم النظام الداخلي للأحزاب الشيوعية الثلاثة في مصر وسوريا وفلسطين، في نهاية عام 1930».
ويضيف الشريف: «وتكشف (الوثائق) تفاصيل جديدة عن المهمة «السورية « التي أوكلتها قيادة الحزب الشيوعي الفلسطيني في تشرين الأول 1924 إلى جوزيف برغر، والتي تكللت بالنجاح في تشكيل لجنة لتنظيم الحزب الشيوعي السوري».
واللافت هنا، أن الشريف أخذ وجهة اللغة الفرنسية، ولم يترجم العبارة على حقيقتها، وهي أن هذا الحزب الاشتراكي في فلسطين إن هو إلا حزب اشتراكي صهيوني أخذ في الترجمة الفرنسية اسم «بوعالي تسيون»، وهو في الحقيقة «جمعية العمال العالمية الصهيونية» (بوعالي صهيون). وعند البحث عن هذه الجمعية نراها تتلون في أسمائها: مرة الحزب اليساري، وأخرى الحزب الشيوعي اليهودي، ومرة الجمعية العالمية، ورابعة جمعية العمال، وخامسة بوالي أو بوعالي، والثابت في الاسم إلى جانب كل ذلك كلمة «صهيون». يقول إسحاق دويتشر: «شهد عام 1939 آخر اقتراع لانتخاب قادة الطوائف اليهودية (كيحيلاس) من قبل السكان اليهود في بولندا. لقد اعتبر الشيوعيون وهم ذو نفوذ كبير وقتذاك، أن الكيحيلاس مؤسسات دينية ومن ثم فقد قاطعوا الانتخابات. واشترك حزب البوند Bund (الحزب الاشتراكي اليهودي) حزب الطبقة العاملة اليهودية، والذي يُكنّ عداء شديداً للصهيونية، اشترك في الانتخابات ونال الغالبية العظمى من الأصوات. ولم يكن هناك سوى قطاع صغير نسبياً من الحركة الاشتراكية وهو بوعالي صهيون Poaly Zion حاول أن يقرن الاشتراكية بالصهيونية» (دويتشر: اليهودي اللايهودي).
إنّ عدم التصريح بكلمة «بوعالي صهيون»، والسمة الصهيونية الاشتراكية لهذا الفرع، ومحاولة انضمامه للأممية الشيوعية، يبدو الهدف منه التغطية على دور بعض الاشتراكيين الصهاينة النشط في تأسيس الأحزاب الشيوعية في المشرق العربي بجناحيه الآسيوي والأفريقي. وعلى التساهل الذي تعاملت به الأممية الشيوعية مع هذا النشاط.
يقول الشريف: «نظراً لخصوصية تركيب الحزب الشيوعي الفلسطيني وتنوع منابع «الثوريين اليهود»، الذين لعبوا الدور الأساسي في إطاره، وبخاصة في عقد العشرينيات، فقد كانت مواد الأرشيف الخاص بفلسطين متنوعة جداً من حيث اللغة (الروسية والألمانية والإنكليزية والفرنسية والعربية والعبرية واليديشية)». مع مجيء ستالين لقيادة الحزب راحت اللجنة التنفيذية للكومنترن تحل محل المؤتمر العالمي، «فبعد المؤتمر العالمي الذي انعقد في موسكو في الفترة من 17 حزيران إلى 8 تموز 1924 صار الاجتماع الموسع للجنة التنفيذية يحل عملياً محل المؤتمر العالمي ويلعب الدور الرئيسي في حياة الكومنترن ونشاطه».
كان الكومنترن فترة وجود لينين أكثر حذراً تجاه الحزب الصهيوني، بعد سلسلة الاتصالات التي أجراها مع اللجنة التنفيذية للكومنترن باسم حزب العمال الاشتراكي في فلسطين كل من ميكائيل كون إيبر، مندوب مكتب التنظيم التابع للاتحاد العالمي اليساري بوعالي صهيون في فيينا، وج. ميرسون، أحد أبرز مؤسسي الحزب في فلسطين، أو باسم الحزب الشيوعي الفلسطيني، أو بالأحرى الحزب الشيوعي اليهودي-بوعالي صهيون، كل من ي. سار وآري، ما بين صيف العام 1920 ومطلع العام 1922.
أصدرت اللجنة التنفيذية للكومنترن في 25 تموز 1922 بياناً أعلنت فيه قطع العلاقة مع الاتحاد العالمي بوعالي صهيون لرفضه الشروط التي وضعتها للانضمام إلى الكومنترن، وهي التخلي عن الطموحات القومية الخاصة بفلسطين، وحل الاتحاد العالمي (بوعالي صهيون) وانضمام العناصر الشيوعية إلى صفوف الأحزاب الشيوعية في البلدان التي تقيم فيها. لقد عمل بوعالي صهيون التفافاً على شروط الكومنترن وافتعل انشقاقاً في الحزب الشيوعي في فلسطين ونال عبره موافقة الكومنترن للانضمام إليه. يقول الشريف: «بعد انشقاق الأقلية عن الحزب الشيوعي الفلسطيني، في المؤتمر الرابع الذي عقد في أيلول 1922 وإعلانها عن تأسيس حزب الشيوعيين الفلسطينيين، على قاعدة انسحابها من الاتحاد العالمي بوعالي صهيون وانضمامها غير المشروط إلى صفوف الكومنترن، ومن ثم توحدها مع الغالبية التي وافقت على هذا التوجه... أصبحت مسألة الاعتراف بهذا الحزب (الشيوعي الفلسطيني) بوصفه فرعاً للكومنترن في فلسطين، مطروحاً على جدول أعمال اللجنة التنفيذية للكومنترن، التي كلفت سكرتاريتها في 20 آب 1923 بمناقشة تقرير عن أوضاعه، وبالاستفسار مع القسم الشرقي عن طبيعة العلاقات التي أقيمت معه».
ويمكن للقارئ أن يتأكد ببساطة أن العناصر المنضمة إلى حزب الشيوعيين الفلسطينيين ولاحقاً الحزب الشيوعي الموحّد الفلسطيني، لم يكونوا فلسطينيين ولا حتى عرباً إنما هم عناصر اشتراكية صهيونية مهاجرة من بولونيا وروسيا لتأسيس وطن قومي ليهود العالم في فلسطين.
ويتبين من إحدى الوثائق أن اللجنة التنفيذية انتدبت في أيلول 1923 أحد قادة الحزب الشيوعي النمساوي لتمثيلها في المؤتمر الذي كان الحزب الشيوعي الفلسطيني يزمع عقده. «في 26 شباط 1926 صدر عن اللجنة التنفيذية للكومنترن قراراً اعتبر أن الحزب الشيوعي الفلسطيني قد استوفى كل شروط الانضمام وقد شارك في اجتماع اللجنة الخاصة التي شكلتها اللجنة التنفيذية للكومنترن لبحث مسألة الاعتراف، مندوب الحزب أبو زيام.
إن تكريس فكرة بناء الاشتراكية في بلد واحد، جعل التساهل مع الاشتراكية الصهيونية ضرباً من تحصيل الحاصل. لكن الاشتراكية الصهيونية كان لها أثر أبعد على الثورة الاشتراكية الأممية


وأبو زيام بالطبع ليس مواطناً عربياً في فلسطين، يقول الشريف: «وأبو زيام أو دانييل، أو حيدر أو اختيار، هو وولف أفيربوخ الذي وصل إلى فلسطين في تشرين الثاني عام 1922 موفداً من الاتحاد العالمي اليساري بوعالي صهيون، حيث تزعم جناح الغالبية في الحزب الذي حمل اسم الحزب الشيوعي الفلسطيني أو الحزب الشيوعي اليهودي وبعد إقرار الوحدة بين اتجاه الغالبية واتجاه الأقلية في تموز 1923 شغل موقع الأمين العام للحزب الشيوعي الفلسطيني. وقد استدعته قيادة الكومنترن إلى موسكو عام 1930، بعد أن اتهمته بعرقلة «خطة التعريب».
ونظراً لحساسية (المسألة اليهودية) عام 1937 حيث راحت المذابح الفاشية تقرع ناقوس خطر مزدوج (فاشي-صهيوني)، كأن النازية في تحالف مع الصهيونية لحل المسألة اليهودية في أوروبا على حساب فلسطين ولمصلحة المشروع الصهيوني والإمبريالي، راح ستالين ينظر بنوع من البراغماتية إلى الحزب الشيوعي الفلسطيني، وإلى الأحداث الثورية في فلسطين، يقول الشريف: «يعتقد أن العلاقة بين قيادة الحزب الشيوعي الفلسطيني وقيادة الكومنترن راحت تضعف في عام 1937، ثم انقطعت بصورة نهائية عام 1938». ويضيف: «آخر وثيقة تضمنها الأرشيف فهي تعود إلى مطلع تشرين الثاني 1937 وتتضمن موقفاً مستفيضاً لموقف الحزب الشيوعي الفلسطيني من الأحداث الثورية التي كانت تشهدها فلسطين إثر اندلاع الاضراب العام ومن ثم الثورة المسلحة عام 1936». «يلاحظ أن تنامي الخطر الفاشي وما انطوى عليه من احتمال اندلاع حرب عالمية جديدة، والمذابح الجماعية التي صارت ترتكب بحق اليهود، قد أحدثا في تلك الفترة انعطافاً في موقف قيادة الكومنترن من المسألة الفلسطينية والمسألة اليهودية».
يبدو أن قيادة الكومنترن تحت هيمنة ستالين راحت تراهن براغماتياً، بحكم تعقد المسألة اليهودية في روسيا وشرق أوروبا قبيل الحرب العالمية الثانية، وهي واهمة، على الاشتراكية الصهيونية لمواجهة التمدد الفاشي في المشرق العربي، ولكسب ود يهود أوروبا الشرقية ويهود روسيا. هذا الوهم يلخصه كلام الشريف: «منذ عام 1938 صارت دوريات الكومنترن الرسمية، بخاصة مجلة «الأممية الشيوعية» تتطرق في كل عدد تقريباً من أعدادها إلى الحملة الفاشية التي استهدفت اليهود، وتحذر من تحركات الفاشيين في الشرق الأدنى، وتؤكد ضرورة العمل على حماية السلم العالمي». إنّ هذا الوهم يتلخص بأنه يتعامى عن التحالف الضمني بين النازية والصهيونية بما يخص الحل الصهيوني للمسألة اليهودية، وهو دفع اليهود في أوروبا للهجرة إلى فلسطين سواء بالقوة والترهيب (النازية) أو بالإقناع والترغيب (الصهيونية).
لم ينظر البلاشفة مع صعود قيادة ستالين ونظام الحزب الواحد إلى الأحزاب الاشتراكية الصهيونية على أنها خطر يهدد الثورة.
يقول دويتشر: «كانت قضية استئثار الحزب بجميع القضايا غير واردة في عهد لينين. لكن نظام الحزب الواحد كان ينذر بالسوء من قبل. فقد كان النقاش الحر والمفتوح قائماً حتى عام 1924 وامتد إلى السنتين والثلاث التاليات (1927). وكان اضطهاد الأحزاب الأخرى يسير بشكل تدريجي. ولندلل على ذلك بمثل الحزب الاشتراكي الصهيوني (بوعالي صهيون) Poaly Zion، الذي لم يقم بصورة شرعية حتى عام 1925 أو 1926. وبالرغم من معارضة البلاشفة للصهيونية فإن الاضطهاد الشامل للرأي الصهيوني لم يكن ضمن برنامجهم». ويضيف: «الصهيونية لم تضع كل آمالها على الاشتراكية والتضامن الأممي إنما وضعت آمالها على تكوين دولة يهودية مستقلة (بمساعدة النظام الإمبريالي البريطاني). باختصار أدارت الصهيونية ظهرها للثورة أو أنها عمدت في أحسن الأحوال إلى تجاهلها. غير أنه لم يكن هناك سبب موضوعي لاعتبار الصهيونية عقيدة خطرة ومخربة. إن الحجة القائلة بأن الصهيونية تهدد الثورة الروسية زائفة وسخيفة بالنظر إلى ضعف وعجز التجمعات اليهودية في روسيا بكاملها» (اليهودي اللايهودي). لم يكن التهديد الصهيوني لروسيا كدولة قومية، بل كان تهديداً أممياً، لأن الصهيونية كانت قد تحالفت لحظة انتصار الثورة الروسية مع عتاة رأس المال المالي العالمي عبر وعد بلفور قبيل انتصار الثورة الاشتراكية عام 1917. إن تكريس فكرة بناء الاشتراكية في بلد واحد، جعل التساهل مع الاشتراكية الصهيونية ضرباً من تحصيل الحاصل.
لكن الاشتراكية الصهيونية كان لها أثر أبعد على الثورة الاشتراكية الأممية مرة أخرى، في المشرق العربي عبر دخولها على خط تأسيس أحزاب شيوعية في فلسطين وسوريا ولبنان ومصر وصولاً حتى السودان. وهو ما لم يكن ضمن حسابات ستالين. يقول دويتشر: «إن سنوات العزلة، وخيبة الأمل من تلقي العون من الخارج، وانهزام الشيوعية في أوروبا، كل هذه قد مهدت لمذهب ستالين في بناء الاشتراكية في بلد واحد» (اليهودي اللايهودي) وتهميش البعد الأممي للثورة الروسية.
من المثير حقاً أن نلاحظ عدم انتصار ثورة اشتراكية بوجود الأممية الشيوعية، فبعد أن تم حلها بقرار من ستالين 1943 انتصرت الثورة الاشتراكية الصينية عام 1949 وبعدها الثورة الكوبية عام 1959. ولم تنتصر الثورة الروسية إلا بعد خروجها بعد خمس سنوات على الأممية الشيوعية الثانية، وضد إرادتها.
منذ عام 1929 صار يبرز اسم ماديار كمسؤول عن علاقة القسم الشرقي للأممية الشيوعية بالحزب الشيوعي الفلسطيني إلى جانب أفيغدور (يئيل كوسي) الذي كان من أوائل موفدي الكومنترن إلى مصر في مطلع العشرينيات. في الجانب الفلسطيني فقد كان المسؤول الرئيسي عن الصلة مع قيادة الكومنترن طوال العشرينيات ومطلع الثلاثينيات جوزيف بيرغر برزيلاي أو بوب، وهو جوزيف ميكائيل زلسينيك، الذي هاجر إلى فلسطين من بولونيا في أيلول 1920 وانضم إلى الحزب الشيوعي اليهودي (بوعالي صهيون) ثم تزعم الانشقاق الذي وقع في داخله عام 1922 وأفضى إلى تشكيل حزب الشيوعيين الفلسطينيين، وأصبح بعد توحيد الاتجاهين في تموز 1923 وحتى مطلع الثلاثينيات الرجل الثاني في قيادة الحزب الشيوعي الفلسطيني بعد أبو زيام، ثم بات بمثابة الشخص الأول من عام 1930 إلى عام 1932.
في فترة بدء التعريب أواخر العشرينيات وبدء الثلاثينيات كلفت قيادة الكومنترن في عام 1931 أحد قادة الحزب الشيوعي السوري ويدعى حسان (اللبناني فؤاد الشمالي على الأرجح) أحد أعضاء النواة الأولى للحزب الشيوعي السوري وسكرتيره العام في النصف الثاني من العشرينيات ومندوبه إلى المؤتمر العالمي السادس للكومنترن، للسفر إلى فلسطين للمشاركة في قيادة الحزب الشيوعي الفلسطيني. ومعروف أن الحزبين السوري واللبناني شكلا حزباً واحداً من 1924 حتى 1943 تاريخ حل الأممية الشيوعية. بالإضافة الى أبو زيام وبيرغر، اطلع بمهمة تأمين الصلة بين الحزب وقيادة الكومنترن عدد آخر من قيادة الحزب، كان من أبرزهم في العشرينيات إيميك وشامي ونداب، وهي شخصيات تنتمي إلى «بوعالي صهيون» أيضاً. إيميك هو موشي كوبرمان الذي هاجر إلى فلسطين من بولونيا، حيث انضم في عام 1922 إلى الحزب الشيوعي اليهودي-بوعالي صهيون. وشامي، أو أناتولي، هو يعقوب أو ايلي تيبر، الذي هاجر إلى فلسطين من روسيا، وأصبح عضواً في اللجنة المركزية للحزب منذ عام 1922. أوفدته قيادة الحزب إلى سوريا في مطلع عام 1925 للمشاركة في تثبيت أوضاع الحزب الشيوعي السوري الوليد. منذ عام 1930 بعد تدخل قيادة الكومنترن لفرض «خطة التعريب»، برزت أسماء قادة عرب كنجاتي صدقي وسليم عبود ومحمود الأطرش أو المغربي كونه ابن لأبوين قدما فلسطين من الجزائر.
يقول الشريف: «تساهم وثائق الأرشيف في إغناء المعلومات عن حيثيات تأسيس النواة الأولى للحزب الشيوعي في سوريا ولبنان في تشرين الأول 1924 حيث تسلط الأضواء على المساعي التي بذلتها المجموعات «الثورية» اليهودية المختلفة والتي كانت مرتبطة بالاتحاد العالمي «اليساري» بوعالي صهيون، منذ مطلع العشرينيات وقبل اعتراف الكومنترن بحزبهم من أجل مدّ نشاطهم الى مصر وسوريا». كما تسلط وثائق الأرشيف أضواء جديدة على الجهود الحثيثة التي بذلتها قيادة الحزب الشيوعي الفلسطيني لإقناع قيادة الكومنترن بأهمية إقامة فيدرالية للأحزاب الشيوعية في البلدان العربية وبخاصة في فلسطين ومصر وسوريا، يلعب الشيوعيون الفلسطينيون في إطارها الدور الرئيس.
* كاتب سوري

مراجع:
(1) ماهر الشريف (جمع وتقديم): فلسطين في الأرشيف السري للكمونترن، دار المدى للثقافة والنشر، ط1 2004
(2) إسحق دويتشر: اليهودي اللايهودي، ترجمة ماهر الكيالي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط3 1986 بيروت.

كتب للمراجعة:
(1) رفعت السعيد: تاريخ الحركة الشيوعية المصرية المجلد الأول 1900-1940
(2) فؤاد الشمالي: كتابات مجهولة