في العقد الماضي، تكرّرت باستمرار لازمة أنّ الاسلاميّين الأتراك قد أوجدوا «نموذجاً» يحتذى، وهي مقولةٌ موجودة ــــ وهنا الغرابة ــــ في أوساط الاسلاميين العرب وفي الدوائر الغربيّة على حد سواء. المشكلة هي انّنا اذا ما تفحّصنا مسيرة «العدالة والتنمية» في العقد الماضي، على مستوى الاقتصاد أو السياسة الداخلية أو الأحلاف الدوليّة، نكتشف بسرعة أنّ «النّموذج» الوحيد الذي تفرزه هذه التجربة يتلخّص حصراً في كيفيّة انشاء تحالفات انتخابيّة رابحة، تضمن الوصول الى السلطة والاستمرار فيها.
حريّ بالاسلاميين العرب الذين يبحثون عن نموذج أن يقرأوا نقد نجم الدين أربكان، مؤسّس الحركة الاسلامية المعاصرة في تركيا، لـ «العدالة والتنمية» تحت قيادة غول واردوغان وأبناء جيلهما. أيّام حزب «الرفاه»، انطلق تحليل أربكان في السياسة من مفهومٍ ايديولوجي عن النظام العالمي مستوحىً من رؤيا عالمثالثيّة، اضافةً الى ضرورة ايجاد سياسات سياديّة ومستقلّة لتركيا تخرجها من دائرة الهيمنة الخارجيّة التي حدّدت خياراتها منذ زمن الحرب الباردة.
جاء حكم «العدالة والتنمية» ليخالف كلّ مبادىء أربكان: بدلاً من التوجّه الى الاسلاميين حصراً، انشأ اردوغان وغول تحالفاً اجتماعيّاً واسعاً يجتذب فئاتٍ محافظة غير اسلاميّة، ومصالح تجاريّة تؤيّد حريّة السوق، ومجموعات هويّة تتماهى مع حكم «العدالة» وتصوّت له على هذا الأساس. سمح هذا النمط من التحالفات للاسلاميين الأتراك بخلق ما يشبه «الأغلبيّة الدائمة» في البلد، يصعب على أيّ حزبٍِ ــــ أو تكتل أحزاب ــــ أن يخرجه من الحكم. الا أنّ هذا النجاح، تحديداً، والتنازلات المتعددة التي استلزمها، أفرغ حكم «العدالة والتنمية» من أيّ مضمونٍ خاصّ يمكن اعتباره «ايديولوجياً» أو «اسلاميّاً» (اللهم الا اذا اعتبرنا أن هوس اردوغان بخفض معدّلات الفائدة ينمّ عن حكمةٍ اسلاميّةٍ ما).
مسألة «النّموذج» هي محوريّة بالنسبة للفكر السياسي الاسلامي، خاصّةً بعد أن سمعنا، لعقودٍ، الناشطين والكتّاب وهم يتحدّثون بثقة عن «المستقبل الاسلامي»، فلمّا وصلت هذه الحركات الى الحكم، تبيّن انّها لا تملك نظريّة او أفكاراً أو مفهوماً خاصّاً عن الحاكميّة، بعضها أضحى مجرّد أحلافٍ انتخابيّة في خدمة الغرب، والبعض الآخر تقلّص الى حركاتٍ طائفيّة بدائية عصابيّة، كأنّها خرجت من زواريب الحرب الأهليّة في لبنان.