دأب معهد «أبحاث الأمن القومي» الإسرائيلي على إصدار «تقرير استراتيجي» كل عام في محاولة بحثية لتشخيص الواقع الإسرائيلي وتحدياته على المستوى الداخلي والخارجي ورفع الخلاصات والتوصيات إلى أصحاب القرار في الكيان الإسرائيلي. وفي بداية هذا العام، أصدر المعهد تقريراً، تناول فيه العديد من العناوين والمحاور التي تكوّن الحال الإسرائيلية، محاولاً أن يستشرف فيه آفاق العمل بالمدى المنظور وآفاق المستقبل، ومستقبل التعامل مع ما يسميها بالتحديات التي تنتصب أمام الكيان.إنّ قراءة هذا التقرير الاستراتيجي يجب، بقدر ما، أن تكون قراءة فاحصة وكاشفة عن التناقضات في متن التقرير، وهذا يحتاج إلى قراءة ما بين السطور والعبارات، والكشف عن طبيعة العقل النخبوي الإسرائيلي، وحالته النفسية وتجلياتها في متن التقرير. إنّ أخذ الإجابات الجاهزة والمنمطة التي يقدّمها التقرير باعتبارها أجوبة وعلاجاً شافياً للأمراض/ التحديات التي يواجهها الكيان، هي قراءة قاصرة في تناول الأهم والمخفي في هذا التقرير. فالأسئلة الصعبة التي يخفيها أكبر بكثير من المحاولات التي يحاول أن يقدمها كأجوبة على كل التحديات.
(أ ف ب )

والواقع أننا أمام تقرير يصح أن يسمى «التقرير الأزموي لإسرائيل» فهذا التقرير لا تنطبق عليه صفة الاستراتيجي بقدر ما تنطبق عليه «إدارة أزمة الكيان». فهو تقرير مهزوز، وانعكاس لحالة عامة مهزوزة داخل الكيان في مسلماتها وأفكارها وخياراتها. فالتقرير لا يملك حلولاً استراتيجية في مواجهة العديد من الأزمات الراهنة والتي تتفاقم داخل الكيان. وتكاد تلك النخب التي صاغت هذا التقرير أن تقول ليس لدينا حل إلا المشاغلة مع الآخر والأزمات، فليس لدى النخبة أجوبة حاسمة وقطعية على معالجة الأزمات المحيطة بالكيان.
وإذا حاولنا أن نتلمّس البنية الفكرية والنفسية لمدير معهد الأبحاث، أودي ديكل، ورجل الاستخبارات السابق واللواء الاستراتيجي في شعبة التخطيط بالهيئة العامة، لاكتشفنا أن هذا الرجل يعاني، كما غيره، من اهتزاز اليقينيات أو المسلمات التي كان مؤمناً بها. فهو اليوم صاحب عبارة «الدهر دوار»، تلك العبارة التي تشي بتخوفه من تغير الأحوال، أو تحولات القوة من زمن إلى زمن، ومن دولة إلى دولة، وتوقعه بمتغيرات جذرية ممكن أن تواجه الكيان.
وهو أيضاً القلق المسكون بالخوف من مآلات تفكك السلطة الفلسطينية، حيث عبارته أو كتابه الشهير «ما بعد اليوم التالي لمحمود عباس» تعكس حالة القلق العام لدى الكيان من مواجهة استحقاق غياب محمود عباس وتفكك السلطة، ولا يقدّم حلولاً لهذا اليوم/ الاستحقاق، إلا عبر خيارات غير محسوبة أو حاسمة. كأن يطرح خيار تقوية السلطة الفلسطينية والحفاظ على استقرارها، والحد من تفككها، وذلك من خلال استمرار التنسيق الأمني معها على أكثر من مستوى، ومن خلال منع الأمور أن تتدحرج إلى انتفاضة شعبية شاملة، وذلك من خلال التركيز على التسهيلات الاقتصادية للسلطة، وتسهيلات العمالة الفلسطينية داخل الكيان. وفي الوقت الذي يطرح فيه هذا الخيار، فإنه يعترف أن السلطة الفلسطينية تفقد شرعيتها في أوساط الجمهور الفلسطيني! ولم يعترف أن شرعية السلطة تتآكل كلما كان الاحتلال معها وكلما تحولت إلى حاجة إسرائيلية وليس حاجة فلسطينية.

هاجس الدولة الواحدة وبعبع الدولة الفلسطينية المستقلة
يتناول التقرير الاستراتيجي، مرة أخرى، هاجس الدولة الواحدة، فالخوف من انزلاق الأمور إلى واقع الدولة الواحدة لا يزال يمثّل قلقاً وجودياً متزايداً في كل تقارير أو التقديرات الاستراتيجية لمعهد الأمن القومي الاستراتيجي. والواقع أن الخشية من تداعي الأمور إلى خيار الدولة الواحدة، ليس تقديراً استراتيجياً بقدر ما هو موقف ماضوي مسبق ينسجم مع الموقف السياسي العام لكل الأحزاب والقوى العلمانية والدينية، والمجتمع الإسرائيلي بشكل عام، وهو موقف يستند إلى اليقينيات المهزوزة حول «أرض الميعاد»، أي الالتزام بالرؤية التوراتية، مما يعني أن ليس هناك تقدير سياسي راهن، إنّما مرجعية توراتية، وانطلاقاً من هذه المرجعية فإن الدولة الواحدة تعني الإنهاء الفكري والتاريخي والمبدئي لقيام دولة عبرية يهودية إسرائيلية وفق مواصفات التوراة، الأمر الذي يفقد الكيان «هويته اليهودية» التي لم تتشكّل بعد، كما تعني سياسياً أن قانون الدولة اليهودية يصبح لاغياً، وعليه فإن الدولة الواحدة تقود الأمور إلى شطب الأيديولوجية الصهيونية، ونسف أسس الحركة الصهيونية ودعاياتها.
إنّ الدولة الواحدة تستشعرهم بالخطر الديموغرافي الذي يتزايد على أرض فلسطين، وهو خطر داهم واستراتيجي، ويشكّل هاجساً لدى كل إسرائيلي من سياسيين ونخب فكرية وثقافية إلى المواطن العادي. إنّ «التقرير الاستراتيجي» لم يستطع أن يضع رؤية مضادة لخيار الدولة الواحدة، كخيار الدولة الفلسطينية، كي يقطع مع خيار الدولة الواحدة، فالقلق الوجودي يسكن كل الخيارات، سواء حل الدولتين أو الدولة الواحدة، مما يجعل هذه النخب المفكرة، والتي تقدّم توصياتها إلى أصحاب القرار السياسي، تعيش حالة من الإرباك الاستراتيجي، حيث يقدّمون خيار دعم السلطة الفلسطينية من دون وصولها إلى خيار الدولة الفلسطينية!
يريدون سلطة فلسطينية تابعة، لها وظيفة أمنية، وسلطة كابحة لأي شكل من المقاومة، حيث يوصي التقرير بضرورة الحفاظ على السلطة ومنع تفككها أو تآكلها. وتقول التوصية بضرورة إجراء حوار أمني مع السلطة الفلسطينية، وليس حواراً سياسياً يفضي إلى حل سياسي، إنما حوار أمني يفضي إلى الاستقرار والهدوء، أي إبقاء الوضع الراهن كما هو، كوضع مثالي للكيان، لا لدولة فلسطينية ولا للدولة الواحدة، ولا لأية مقاومة، ونعم للاحتلال والاستيطان، هكذا تكون النتيجة منطقية عند معدّي التقرير الاستراتيجي. وفي سياقه، يعترف «التقرير الاستراتيجي» بأن هناك نية بتغيير قانون الانفصال، ولكنه يقترح على الحكومة بأن تمنح السلطة الفلسطينية السيطرة الكاملة على شمال الضفة، كونها منطقة لا يوجد فيها استيطان يهودي! وذلك لإظهار أن «إسرائيل غير معنية بالتخلي عن رؤية الانفصال إلى كيانين منفصلين» أمام الفلسطينيين والرأي العام العالمي، أي أن هذا المنح هو مناورة سياسية لكسب الداخل الفلسطيني، وتعييشه على وهم خيار الدولة الفلسطينية.
لكل ما سبق، فالتقرير ومعدّوه، لا يضعون تقريراً سياسياً فيه رؤية استراتيجية للحل، إنما يرسمون خطوطاً عامة للمشاغلة وإدارة الأزمات المتوالية.
الواقع أننا أمام تقرير يصح أن يسمى «التقرير الأزموي لإسرائيل» فهذا التقرير لا تنطبق عليه صفة الاستراتيجي بقدر ما تنطبق عليه «إدارة أزمة الكيان»


القلق الوجودي والخطر الإيراني
أيضاً القلق الوجودي مرة أخرى يتجسد في رؤية الخطر الإيراني، وتمدده مكانياً وزمنياً ونووياً، فلا يزال الخطر الإيراني قائماً منذ نجاح الثورة الإسلامية، أي أنه ممتد زمنياً حتى الوقت الحاضر، وممتد مكانياً مروراً بالعراق وسوريا ولبنان وأكثر من ذلك، بيد أن الخطر النووي تحول إلى هاجس وجودي، وفقدان الحيلة لمواجهته.
فالتقرير الاستراتيجي لعام 2023، الذي يتحدّث عن أن «إسرائيل» لا يوجد لديها أي تأثير على وجود أو عدم وجود اتفاق نووي، يصل إلى أن «إسرائيل» ليس لديها رد في المدى المنظور على التقدم الكبير في البرنامج النووي، ويصل إلى نتيجة أخرى بأن كل البدائل القليلة غير مرغوب فيها، كخيار التسليم بأن إيران أصبحت دولة نووية، أو خيار إحباط أو تعطيل وإعاقة البرنامج، أو الخيار العسكري بشكل مستقل، أي أن التقرير لا يحدّد خياراً ولا يحبّذ خياراً. فالتقرير السابق لعام 2022 يقول بصريح العبارة «وفق الظروف المعقدة، فإنه من الأفضل لإسرائيل العودة إلى الاتفاق النووي»، وتقرير عام 2023 يتحدّث عن «تأييد إسرائيل في عدم العودة إلى الاتفاق النووي».
وهنا أيضاً تتجلى حالة الإرباك وعدم اليقين من أي خيار لمواجهة هذا التحدّي الإيراني، فليس لدى الكيان أي قدرات أو سيناريوهات حاسمة على غلقه، حيث يقول التقرير السابق «توجد لدى إسرائيل حالة من الحرج الاستراتيجي في متابعة هذا الملف، فالسيناريوهات المختلفة، وسواء اتفاقية جزئية أو المراوحة الطويلة أو انفجار المفاوضات، كلها سلبية بالنسبة لإسرائيل». إرباك وتناقض وقلق، وفقدان البوصلة، هي مرادفات الفشل وانسداد الأفق في التعاطي مع هذا الملف، فمرة مع الاتفاق ومرة ضده، ومرة مع الخيار العسكري ومرة مع تعطيله... إلخ من فقدان الحسم.
أمّا بشأن خطر التموضع الإيراني في سوريا، فإن كل ما يستطيع أن يوصي به هو العمل على «تعطيل التموضع الإيراني» والحد من النشاط الإيراني عبر عمليات «المعركة بين الحروب»، في الوقت الذي يعترف فيه بأن هذا التهديد «سيبقى قائماً وإن كان بعيداً من إسرائيل، إلا أنه لا يلغيه»!

الخطر الوجودي الداخلي
وفي سياق تحديد التحديات التي تواجه الكيان، أكد التقرير أن الانقسام الداخلي في المجتمع الإسرائيلي هو تهديد يستهدف مستقبل الدولة العبرية، ولم يكن ممكناً أن يتجاهل التقرير هذا الخطر الداخلي الذي يداهم الكيان، حيث خرج الساسة الإسرائيليون والإعلام يتحدّثون بصريح العبارة عن هذا التهديد الوجودي الذي يتمثّل في الصراع الداخلي من خلال الاستقطاب الاجتماعي المتفاقم الذي يضعف الحصانة الاجتماعية، حيث لم يعد ممكناً تجاهل هذا التهديد أو التعتيم عليه، لا سيما وقد انتقلت مظاهره من صراع الأحزاب والساسة إلى الصراع والزحف إلى الشارع الإسرائيلي بما قد ينبئ، وفق تصريحات ساسة إسرائيليين، بحرب أهلية.
إنّ صعود الصهيونية الدينية إلى سدة الحكم برئاسة نتنياهو، المتهم بالفساد والرشوة والديكتاتورية، يمثّل انقلاباً داخلياً، ليس في السياسة مع الفلسطينيين، إنما انقلاباً على بعضهم البعض، وانقلاباً على تقاليد إدارة تداول الحكم في الكيان، وصعوداً أكثر في التطرف والعنصرية، وبما يشي بأن الصراع الداخلي يأخذ هذه المرة أبعاداً اجتماعية طبقية وإثنية، تجلّت في تلك التظاهرات اليومية منذ أشهر لرفض الانقلاب في إدارة الحكم. هذه التطورات الداخلية دفعت العديد من الساسة الإسرائيليين إلى التعبير عن خشيتهم من مآلات وجودية تستهدف الكيان من أساسه، ولعل تصريح الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، الذي تحدّث فيه عن أن «إسرائيل تواجه أزمة دستورية تاريخية» يؤشر إلى أي مدى يصل الاستشعار بالقلق من سؤال الوجود الذي يضج به الوعي الإسرائيلي اليوم.
فالانقلاب اليوم يأخذ أبعاداً ذات طابع «قانوني دستوري» حين تسعى الحكومة الجديدة إلى وضع ما تسميه خطة إصلاحات القضاء التي تستهدف الحد من سلطة المحكمة العليا في إبطال القوانين، ومنع المحكمة من التدخل في القوانين الأساسية، وهيكلة المحكمة، وتعيين أعضائها بآلية مختلفة تضمن ولاءها للحكومة. هذا الانقلاب في القضاء، أحدث خوفاً حقيقياً من ما سمّاه إيهود باراك «الخطر الواضح والملموس على الديموقراطية الإسرائيلية»، مما يجعل احتمالات تفاقم التوتر بين المؤسسة التنفيذية والمؤسسة القضائية، وانتقال هذا التوتر إلى الشارع الإسرائيلي احتمالاً يهدد بقاء الحكومة الحالية ويفاقم الوضع السياسي والاجتماعي.
إنّ هذا الخطر الداخلي يؤذن إلى تداعيات ذات طابع استراتيجي وجودي، لم يستطع التقرير الاستراتيجي أن يضع حلولاً لها بقدر ما عمل على تشخيصها وتوصيفها، فهي خلافات وصراعات في عمق الكيان ومستقبله. وكان قد أشار تقرير 2022 إلى أن 36% فقط من الجمهور الإسرائيلي يضعون ثقتهم في الحكومة السابقة، أمّا اليوم، فقد تتغير النسبة إلى ما هو أضعف وإلى ما هو أعمق، في ضوء التطورات في الشارع الإسرائيلي المتصدّع على أكثر من صعيد.

الجبهة الشمالية وفشل المراهنة
إنّ إحدى مفردات الأزمة التي تواجه الكيان، هي تلك المتعلقة بالنظام السوري، وقدرته على الصمود في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، حيث فشلت المراهنة على سقوط الأسد، والوصول إلى نتيجة بأن «الأسد هنا ليبقى». بعد هذه المراهنة الفاشلة التي عمل عليها الاحتلال أكثر من عشر سنوات، يلجأ إلى المراهنة على أن «الانفتاح العربي والدولي على الأسد قد يقلّص الفجوة التي تتسلل منها إيران إلى سوريا»، وهذا قد يخلق حاجزاً سيتم توسيعه تدريجاً بين سوريا وطهران، ويعود التقدير يتحدث عن أن «المعركة بين الحروب» هي الرد الممكن على هذا التهديد التقليدي، كما لو أنها الرد الاستراتيجي، في حين أن التقرير يعترف بتواضع آثارها.
وهنا يتحدث التقرير عن محاولة تفسير ذلك «الصمت» الذي يلتزم به النظام السوري إزاء الضربات الإسرائيلية في سوريا، ومن الواضح أن هذا الصمت يقلق الكيان، لماذا هذا الصمت وما هي أسبابه وخلفياته؟ وما هي المفاجآت؟ إنّ معادلة الصمت تحتاج إلى فك طلاسمها لدى الكيان.
ولا ينسى التقدير أن يفتح قوساً ليظهر قوة حزب الله في سوريا ولبنان، من دون أن يتحدّث عن كيفية مواجهة هذا الخطر، سوى التصميم على إحباط تعاظم قوة حزب الله، عبر الاستفادة من الضائقة والأزمة اللبنانية، بمعنى تثمير هذه الأزمة في التضييق على حزب الله، والعمل على تكثيف الجهود ضد الحزب، إقليمياً ودولياً، باتجاه الاعتراف الدولي بأن الحزب هو حزب إرهابي.
وفي السياق، لا ننسى أن التقرير يقول إن هناك انخفاضاً في معنويات الجيش الإسرائيلي بفعل تنامي قوة حزب الله.
* كاتب فلسطيني