تتَّسعُ الحياةُ أو تكاد لما يُتلى على الملأ، وما تُدندن به نغمات المُواراة التي تنتقي استعاراتها من سياق العلن، وألوانِ الحقيقة أو ما يشابِه السياق واللون، ولا تكتفي بذاتها الأولى في حينها، بل تضيف رغبة الراعي الإشاعاتي لمفردات صوغها، حتى تضفي الحنكةُ عليها ملامح الحقيقة الموثقة بالدليل الدامغ!أحايين الاضطرابات فضاءٌ شاسع لاكتمال شروط الإيهام الموثَّق هذا، فكما لكل زلزال ارتداداته، للإشاعة ارتداداتها العفوية والقَصْديَّة. حين ينبري العارفون والدخلاء، المنجمون والشيوخ، نحو تفسير واقعٍ جيولوجي، يَحارُ في ترتيب منطقيته علماءٌ مختصون، فتنتشر النظريات الساذجة، التي سرعان ما تُحيل ذاتَها إلى رَكْب الإشاعات المُضاف لعبوات الألم. وهنا تبدو الفرصة سانحة للتلاعب بالغرائز الأقوى لدى البشرية، بخاصة غريزتي الخوف والتشكيك.
تحتاج غريزة الخوف للظهور علانيةً إلى عاملين، مخبوءٍ ومُتوارثٍ من ناحية، وواقعيٍّ ماثلٍ أو منطوق من أخرى، ليكتوي التكرار بنيران ذاته- ذاتها، فيكتمل نضوجه وتنهض التباسات الحقيقة من سُباتها، لتتحول إلى هاجس على هامشها المعرفي الواسع. وهكذا يستحيل الخوفُ بحدِّ ذاته إلى كارثة مستقلة عن مُسبباته. هذه حقيقة سايكولوجية-علمية، تشتغل على أساسها أنظمة الموت العالمي، بِرفقة حليفها المحلِّي وسائرِ العالم الخفي المُتَّحد سراً، والذي يرى في الشعوب المُسالمة فائضَ قيمةٍ لا كتلةً إنسانية.
لا يمكن غض الطرف عن واقع التخلف في مجتمعاتنا الشرقية ومؤسساتنا ودولنا، لكن واقع التخلف هذا -ناهيكَ عن أنَّ ركيزتَهُ كُتلةٌ استعمارية اقتصادية، ومواريث عرقية عنصرية وقبلية- يتطَّلبُ المعالجةَ لا بإبادة المتخلف، بل عبر إبادة أسباب التخلف وواقعه ورُعاته، وإنْ كانت ركائز التخلف، مقرونة بالسكونية الاجتماعية، كترسيخ من قبل الرجعية السياسية والدينية، المَسنودة بالقوى الدولية ذات الإرث الاستعماري، الذي اتخذَ له شكلاً معاصراً عبر مفردات الديموقراطية العنصرية، وتهويمات الثقافة الليبرالية، أعني تلك التي تبدو في تجلياتها المُنمَّقة أشدَّ التصاقاً بالبدائية المتوحشة منها بِروح ومستقبلِ الإنسانية التي لا تُرسم اليومَ إلا بأقلام الكوارث والأوبئة، ودعم الحروب والنزاعات والطائفية، وشتى أشكال التخلف والهمجية والدموية. فإنَّ دعم حالة احتلالية مبنية على عنصرية متوحشة -كما هي الحال في فلسطين- هو ترسيخ مُلوَّنٌ للَّا إنسانية التي تُطل برأسها على واجهة وسائل الإعلام لتكريسها كحالة اعتيادية يومية مع توفير دعم دولي كافٍ لعدم انقطاعها أو ارتباكها عن تنفيذ غاياتها المُناقِضة لروح ومستقبل الإنسانية «المشرق افتراضياً».
يبدو اليومَ جلياً بأن المقصود من التكرار الغريب لتغطية الجريمة، هو تعميدها بماء الاعتيادية، لتظهر كأمرٍ طبيعي الحدوث، ولتبدو على أنها حالة قَدَريَّة لا جريمة متسلسلة منظمة. هو ذا بالضبط الأمر الذي دعا الغالبيةَ في المنطقة للاقتناع بنظرية المؤامرة، حتى بخصوص الزلازل والكوارث الطبيعية، وليس فقط في ما يخص الصراعات السياسية والطائفية في المنطقة، بل تعدَّى ذلك ليصل الشكُّ في مصدر الأمراض والأوبئة للنتيجة ذاتها، التي لمَّحَ الروسُ صراحة إلى وجود آثار لتصنيعها في أوكرانيا بدعم «الناتو» وبيد «إسرائيل»، ويبدو أن هذا يُفشي بعضاً من سرِّ المشاحنات والمواقف الساخنة بين موسكو والكيان الصهيوني.
قراءة هادئة تفضي إلى فهم رسالة مفادها «لا تتبرعوا للشعب السوري المنكوب»، وهو في جوهره ليس خوفاً من اللصوص بقدر ما هو استباق لوصول المساعدات وتخفيض حجمها على الأقل


المفاجأةُ هي أنَّ الكتلَ التَّواصُليَّةَ ووحدات الإنترنت التابعة للكيان، تُروِّجُ بذكاء عالٍ ما لا يخطر في البال، هذا العقل الذكي قد يلبَسُ ثوبَ الشعارات الوطنية أحياناً، وقد شرب الجرعةَ العديدُ من الناس البسطاء وحتى المناضلين، والعشرات من الشريحة المثقفة أيضاً، إلى جانب قِلَّةٍ ممن يمارسون اللعبة مع إدراك كنهها، وبعضهم من الفلسطينيين!
لنضرب على ذلك مثلاً حدثَ لمرَّاتٍ عدة، يتوجه مندوب المنظمة إلى إحدى المنظمات الدولية كمحكمة الجنايات، فيقلق الكيان ولا يجد بداً من محاولة تخفيف الخسائر، فيبدأ مندوبو الإشاعات المنظمة بِحملةٍ فايسبوكية وتويترية على السلطة وعباس وأوسلو وفشل الوحدة وعقم الفصائل... لا أحد يسأل نفسه: لم يتوافق ذلك دائماً مع توجه ديبلوماسي ما للمنظمة ضد جرائم الاحتلال؟ علماً بأن الأصوات ذاتها كانت ساكنة اتجاه أي انتقاد، قبل اندلاع المشاحنة الراهنة بين المنظمة والاحتلال، فتضحي المعركة بين الفلسطينيين، لا مع المجرم المحتل. لا بل حتى حين يستشهد مواطن أو مقاتل، ينتقل فجأةً أبناءُ هذه الشريحة للبحث في فضائح فلان وتنسيق فلان الأمني وفساد ذاك، وذلك لتخفيف الغضب الشعبي على الاحتلال. هنا تحتدُّ الإشاعةُ الذكية المدروسة، لينتقل الجدال الفارغ بين فريقي الصراع السياسي الداخلي مُحيِّداً الاحتلال وجرائمه. ليس ما سبق دفاعاً عن «أوسلو» الكارثة بتجلياته كافة، لكنه قد يكون توضيحاً لضرورة عدم الانجرار في سياق رغبات الاحتلال!
الطَّامة ليست في المستوى الشعبي، بل في أن يقع «مثقفون» في وحْل الإشاعة الصهيونية فينجرون في الركب ذاته ويكررون ذلك في كل مرة.
في عودة للزلازل ومفاعيلها التي ما زالت تقلق الجميع هنا، فإن أصوات عدة جهرت بأنها من فعل أميركي وصهيوني، هذا غير مؤكد علمياً على الأقل، لكن إن كان صحيحاً، فلماذا تقوم الأصوات ذاتها بتحديد مواعيد لهزات وكوارث أخرى، بل إن بعضها يحدد يوماً وساعة ومكاناً، علماً بأن العلماء والمختصين أنفسهم، يصرحون بعجز العلم عن تحديد مواعيد الزلازل بدقة، ويصرون على أن شروحاتهم في هذا الأمر، لا تعدو كونها استقراءات توقُّعية قد تكون، وقد لا تكون واقعاً!
وفي عودة للإشاعة، درجَ الحديثُ منذ اللحظة الأولى عن سرقة طرف معين للمساعدات، وبثت حلقات وصور توثق سرقات من طرف معين قبل وصول المساعدات ذاتها -مرة أخرى هذا ليس دفاعاً عن أي طرف- إلا أن قراءة هادئة تفضي إلى فهم رسالة مفادها «لا تتبرعوا للشعب السوري المنكوب»، وهو في جوهره ليس خوفاً من اللصوص بقدر ما هو استباق لوصول المساعدات وتخفيض حجمها على الأقل. على المقلب الآخر ينبري المدافعون بالشتائم وتخوين دعاة الطرف الآخر، هكذا أيضاً تحال الأمور إلى الجدال الأعمى تحت صياغة مرافقة للكارثة «سرقة المعونات» فتخرج المسألة عن كونها صرخة لمساعدة المنكوبين!
للعلم فإن قسماً مهماً في جهاز الاستخبارات الخارجية الصهيونية يدعى «القسم العربي» يختص بترويج النزاعات والفتن والطائفية عبر الإشاعة، وهو يوظف العشرات مباشرة، ويُجنِّد تلقائياً المئات من الأبرياء المخدوعين عن غير دراية، وهناك نموذج ساطع يتمثل في مرضى «متلازمة التطبيع» الذين تم تجنيدهم من قبل الموساد والنظام الإماراتي، لحظة التطبيع الإبراهيمية، للهجوم على الإنسان والتاريخ الفلسطيني، وتشويهه بلغة شوارعية متخلفة، وترافق ذلك مع ترويج صورة «اليهودي الطيب» بل وصناعة العشرات من الفيديوهات عن حياة اليهود في أوطانهم الأصلية قبل النكبة، والأخوة اليهودية العربية والكردية، ولنتخيل أن مكافأة الواحد من هذه الفيديوهات الركيكة، بلغت من خمسة إلى عشرين ألف دولار أميركي، تدفعها مؤسسات صهيونية دولية!
تجد الإشاعة غايتها بين الشعوب التي تعاني من التخلف، وتبدو مستعدة جاهزةً للتبعية عبر تركيبتها الثقافية والاجتماعية، وربما تكون مصابة بحُمَّى انتظار الاستعمار، وهو من تبعات تجليات الحياة تحت ظل الدكتاتوريات وانعدام الديموقراطية وقهر حرية الرأي والتعبير. ليست المسألة تعميماً لنظرية المؤامرة بقدر ما هي محاولة لفهم جهد ذكي ومنظم!

* كاتب فلسطيني