وأخيراً، أي بعد ثلاث سنوات على انفجار أكبر أزمة مالية واقتصادية في تاريخ لبنان والمنطقة، قرّر مجلس النواب الانتقال إلى العمل الجدي واستدعاء وزراء ومديرين وموظفين ومقاولين، وفي مقدمهم حاكم البنك المركزي، لمساءلتهم حول أعمالهم وقراراتهم واستثماراتهم التي تسببت، مع سواها، بذلك الانفجار الذي ينعكس اليوم مأساة لا حدود لها. مأساة يدفع ثمنها اللبناني الذي وثق بالمصارف وأودع لديها جنى حياته، ليكتشف أنها لم ترع الأمانة بالأمس، ولا تكترث بتصحيح الأوضاع اليوم، بل تستمر، مع الحاكم بأمره، في استخدام التضخم، الذي ينزع اللقمة من فم الطفل والدواء من يد المريض، لتخفيض ديونها والفوز بكل الفوائد العالية التي غنمتها عليها منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي وأودعتها تباعاً في ملاذات خارجية «آمنة».إنّ المجلس، بقراره هذا، يتخذ مساراً محفوفاً بالمخاطر، لأن من سيتصدّى له ليس حفنة من المصرفيين أو مواقع معزولة في الإدارة، وإنما شبكة جهنمية متعددة الرؤوس واسعة النفوذ لها أتباع في كل مكان، ومن بينها مجلس النواب نفسه، والإعلام، ومختلف أجهزة الدولة والقطاع الخاص.
والمجلس، الذي استفاق على «المنهبة» التي تجري على رؤوس الأشهاد، سيكتشف أنّ معظم القوانين التي سنّها لا يؤخذ بها، وأنّ معظم مؤسسات الدولة لا تعمل. وأنّ الحاجة تكمن في تنفيذ القوانين وتفعيل القضاء متابعةً للتحقيقات وإصداراً للأحكام. كما تكمن في إلزام الحكومة تبني الإصلاحات المطروحة، والكف عن خدمة الأكثر فساداً في المجتمع، والتوجه إلى مراجعة الذات حتى يتوقف النهج المخزي الذي ما زلنا نشهد فصوله في أكثر من موقع.
ولا يفوت المجلس الكريم، مترقباً توافق الخارج على اسم الرئيس العتيد، أن يحاول النهوض لمعالجة جوانب من المأساة، فيبدأ في مراجعة الذات، شأنه شأن الحكومة، ليكتشف كم كانت الفرص الضائعة ثمينة، وكم كانت المبادرات المطلوبة مفقودة، فيحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه بالمساءلة ووضع المعنيين أمام مسؤولياتهم.
وحتى لا نضيع في صخب الأحداث، ومرويات الأطراف، وإنكار المعتمدين، وضغوط الكواليس، لا بأس من افتتاح المجمع المرتقب انعقاده بأسئلة يتلهف الجمهور لسماع ردود المسؤولين عنها، لإسقاط الغموض وكشف الحقيقة بشأنها، لما لذلك من أثر مهم في معرفة ما جرى ومن المسؤول وكيفية النهوض من المستنقع الرهيب.
الرأي العام يريد من المبادرة المعلنة أن تأخذ طريقها إلى التنفيذ، مصحوبة بالحزم والالتزام والشفافية


وخلال السنوات الماضية، طرح الرأي العام العديد من الأسئلة الأساسية من دون أن يحظى بجواب يروي الغليل ويضع العربة التائهة على مسارها الممكن. ومن هذه الأسئلة المحورية أذكّر بالآتي، وإن كان سواها موجود ولا يقل أهمية عنها:
أولاً: لماذا لم يصدر حتى الآن التقرير المتعلق بالتحقيق الجنائي لحسابات البنك المركزي على الرغم من أن موعد الصدور قد تم تخطيه عدة مرات، ومن هو المسؤول عن عرقلة تسليم المعلومات التي تبلور الصورة وتكشف الحقيقة وتفتح الطريق أمام اتخاذ قرارات طال انتظارها في كل الاتجاهات القضائية والاقتصادية.
ثانياً: ما هي حقيقة الهندسات المالية ولماذا لا يكشف حاكم مصرف لبنان ومعه أصحاب المصارف عن ملابسات هذه الهندسات وكلفتها الباهظة على المال العام. وهنا أذكّر بموقف النائب جورج عدوان -رئيس لجنة العدل النيابية- الذي طالب عام 2017 بتشكيل لجنة تحقيق برلمانية للتدقيق بحسابات مصرف لبنان، ذلك الموقف الذي جرى إهماله قبل أن يجف حبره.
ثالثاً: لسؤال وزارة المالية فيما إذا كانت شركة «فوري» التي يملكها رجا سلامة، شقيق رياض سلامة، والتي «حظيت» بثلاثمئة وعشرين مليون دولار «أرباحاً» من خزائن الدولة، قد دفعت الضرائب المترتبة عليها إلى مصلحة الضرائب أم لا. بعد ذلك، لا بأس من توجيه السؤال حول شرعية هذه الأرباح وهل تم كسبها بالنفوذ أم بالحلال. وبالمناسبة، فإن لجنة المال والموازنة النيابية ينبغي أن تكون لديها معلومات بهذا الشأن، مما يسهّل المساءلة واستخراج الحقائق، واستباق التحقيقات الأوروبية التي يمكن أن تستهلك الوقت نظراً لانشغال المجتمع الأوروبي بمشكلاته المالية والسياسية والأمنية فيما نحن بحاجة ماسة لمعرفة الحقيقة للانطلاق سريعاً على طريق المعالجة.
رابعاً: هل أنجزت المصارف مهمة الرسملة التي ندبت نفسها لها والتي أصر عليها حاكم البنك المركزي في تعميماته الأولى محدداً لمهل تم إهمالها.
خامساً: لسؤال حاكم البنك المركزي ووزير المالية عن حجم الكتلة النقدية ومن سمح بزيادتها إلى مستويات خيالية خلال وقت قياسي ممّا ألهب الأسواق ورفع الأسعار وترك الناس فريسة الجوع والمرض.
سادساً: لسؤال بعض أصحاب المصارف فيما إذا كانوا في بداية الأزمة عام 2019 قد سهلوا لأصحاب الرساميل سحب ودائعهم أو تحويلها إلى الخارج عندما كانت البنوك مقفلة بالتفاهم بينها وبين الحاكم والحكومة.
وبعد، ثمّة أسئلة كثيرة في الذهن يمكن طرحها، بخاصة في ما يتعلق بالقرارات الفردية للحاكم، وآخرها القرار المفاجئ بإضافة 16 مليار دولار للدين العام، من دون أي مسوغ قانوني، علماً بأن قراراً أسطورياً من هذا النوع يحتاج إلى مناقشات ومداولات ومشاركات لم تخطر في بال الحاكم، إمّا لاستهتاره بالجميع وإمّا لجهله، لا سيما أنّ معرفته بالشؤون المالية والنقدية محدودة كما تبيّن من التجارب المأساوية التي أدخل الاقتصاد اللبناني في لجتها بالتعاون مع أصحابه في المصارف ومؤسسات الدولة.
إلى ذلك، ثمّة أسئلة كثيرة تخص أعضاء المجلس المركزي، ومفوض الحكومة لدى البنك المركزي، ولجنة الرقابة على المصارف، وهيئة التحقيق الخاصة، فضلاً عن وزراء المالية المتعاقبين الذين فاتهم أن يمارسوا حق الرقابة الحكومية على أعمال البنك المركزي ونشاطاته.
يبقى من الضروري القول بأن الرأي العام يريد من المبادرة المعلنة من مجلس النواب أن تأخذ طريقها إلى التنفيذ، مصحوبة بالحزم والالتزام والشفافية في مقاربة الظواهر التي حوّلت الليرة اللبنانية إلى المستودعات الرديئة، وحوّلت المسؤول اللبناني إلى متسول للقروض والمساعدات، والمواطن اللبناني إلى كائن يعيش ما تبقى من حياته على صفيح حارق لا يرحم الصغير ولا الكبير.

* كاتب، ونائب سابق