أكثر الذين يعملون في حقل الدراسات الإنسانية مغرمون بمقولة العقل والعلم، ومنطق العلم، غير أنهم لم يكونوا متحمسين في الفصل بين منطق العلم ومنطق العلم المعين، إلا بعض محاولات تكاد تكون محدودة، ومنها محاولة الدكتور علي الوردي في كتابه «منطق ابن خلدون»، لكنه كان متحاملاً على طبقة رجال الدين وجاءت آراؤه رد فعل لذلك، ولذلك حملت الأمثلة التي ساقها شيئاً من الازدراء تجاه رجال الدين. والحقّ أن عمله لو كان مجرداً من هذا التحامل لكان عملاً أكثر إخلاصاً للعلم والمعرفة. وليس بعيداً عن هذا السياق المحاورة التي دارت بين علَمين من أعلام الفكر العربي في القرنين الثالث والرابع الهجريين، وكانا يمثّلان مدرستين مختلفتين؛ متى بن يونس المنطقي وأبي سعيد النحوي السيرافي. فكان السيرافي نحوياً يدفع عن مفهوم الدرس اللغوي في جانبه المعرفي، وكان متى بن يونس يتحمس إلى المنطق. والمتأمل في تلك المحاورة يجد أنها نتاج عمل فكري حثيث. ويرى محمد عابد الجابري من خلال هذه المحاورة أنها كانت من بواكير تكوين العقل العربي.وكانت المحاورة تلك قد كشفت جانباً من هذا الفهم، حيث مثّل أبو سعيد السيرافي بالباء في كونها حرف جر، ولا يعني هذا أن معرفة المنطقي بأن الباء حرف جر بأنه تناهى إلى معرفة معنى حرف الجر هذا أو ذاك، كما أن تفاعلنا مع اللغة على نحو عقلي محض، يفقدنا فهمنا الطبيعي لمنطقها، حيث إن اللغة ظاهرة رمادية، والحسم فيها يحجم عطاءها. لذلك كان منطق العقل المحض في مقاربة اللغة منطقاً منهاراً، يغاير حقيقة اللغة ومنطقها النابع من المفهوم العرفي، وكان المنطق العرفي التداولي أقرب إلى اللغة، إلى فهمها - إدراكها.
من هنا، فإن المقولات التي تقارب اللغة بمنطق العقل المحض تجاوزها الزمن، حيث شكلت النهضة العلمية التي رادها فيردنيان دي سوسيو مساراً كبيراً للدرس في أوروبا والعالم، وكان فهم سوسيو للغة فهماً عرفياً اجتماعياً، من خلال دراسة اللغة في ذاتها ولذاتها، وإذ فرّق بين اللغة والكلام وأن اللغة هي مخزون في ذهن الجماعة وأن الكلام فردي، ويشكل مساراً انحرافياً عن النمطية اللغوية السائدة. وهنا انبغى التوضيح، أن هذا المسار الذي مارسه المتكلم هو مسار ينتج بناءً نحوياً يميّزه سلوك نحوي معيّن، فمن الممكن أن يتّكئ على جوازات المسوّغات للابتداء بالنكرة أو ينحو منحى آخر في صيغ البناء، على مستوى الصرف أو التصوير البلاغي. فكل تلك الأبعاد كفيلة برسم معالم انزياحات لغوية أخرى.
ويمكننا القول إن إنتاج اللغة من بوابة المجاز هي الظاهرة الأبرز، في إنتاج الدلالة الجديدة، وإن التدفق الذي ينتجه المجاز هو ركيزة مهمة من ركائز الخطاب، وإن الخطاب يشكّل مرحلة أولى من مراحل التطور اللغوي، والتطور اللغوي باعتباره مفهوماً لغوياً أقصد به زيادة الإمكانات في لغة ما، تضيف إلى تلك اللغة قدرة لغوية دقيقة في وصف الأشياء. فاللغة العربية، على سبيل التمثيل، تصف الوقت على مدى اليوم، الكلام مثل: الشفق، الغسق، العتمة، السدفة، الفحمة، الزلة، الزلفة، البهرة، السحر، الفجر، الصبح، الصباح، الشروق، البكور، الغدوة، الضحى، الهاجرة، الظهيرة، الرواح، العصر، إلخ.
الأصل في اللغة المجاز لا الحقيقة


وإذا شئنا الدقة في الوصف، فإن اللغة العربية طال مداها وانتشارها باعتبارها لغة حية، فأصبحت من أكثر اللغات تطوراً في العالم، حيث بدت هذه اللغة من أبرز اللغات تعبيراً عن أغراضها، وهي كما يقول عنها ابن جني: أصوات يعبّر بها كل قوم عن أغراضهم. ويبدو لي أن البحث اللغوي تجاوز نظرية انبثاق اللغة أو تكوّنها أو نظرية فنّ القول، أو نظرية جماليات اللغة. وإذا خففنا من غلواء هذا الادعاء، فإن الدرس اللغوي والبلاغي قد قطع وقتاً مديداً في هذا الجانب، وأنتج تراثاً يصعب تجاوزه، غير أن السؤال الأبرز الذي ينشغل به اللغوي اليوم كيف يمكننا قراءة نص، وفي الحقيقة فإن الإنسان لم يستطع أن يرضي نفسه بإجابات مقنعة، يبلغ بها حد الكمال أو التناهي في فهم القول، حتى حاول إحالة ضمير القراءة إلى الآلة؛ الآلة التي يأمل أن تصل إلى حد الحوكمة أو الحوسبة اللغوية الدقيقة.
وهذا الاتجاه في البحث والعلم، يذكّرنا بالاتجاه الرياضي أو الإحصائي الذي مارسته بعض الدراسات اللغوية، حيث أصبحت اللغة تشبه جداول محدودة، أو أنها تحيل ذاكرتنا إلى مفهوم الاطراد الذي مارسته مدرسة البصرة في فترة التقعيد اللغوي، وحاولت النظر إلى اللغة محاولة عقلية أو تكاد، وكأننا نجهل أن منطق اللغة يختلف عن منطق الرياضة. وعلى أي حال، فإن الباحث اليوم يضطلع إلى حدس تمارسه الآلة كما يمارسه الإنسان، ولعلّي هنا أذكر أن الظاهرة الأبرز في اللغة هي الظاهرة الرمادية لا الألوان المفردة الواضحة. وما وددت قوله هو أن اللغة عبارة عن حدث لحظي يتراكم، يتجاور مع اللحظة التي تشكل ومضة، وأن الجملة يمكن القياس على بنائها النظري، ولكن لا يمكن القياس على ما تفرز من إيحاء يلوح في ذهن المتكلم على نحو الدقة.
وهذا يجعلنا نتحمس أكثر إلى أن الأصل في اللغة المجاز لا الحقيقة، دونما التحمس في كل آن إلى قرينة صارفة تصرفنا عن حقيقتها، بل نحن في حاجة إلى قرينة تجعلنا نتثبت أن المتلقّي يعني ما يقول، أم أنه يحيل فهمنا إلى معنى آخر؟ وإذا كنا نقول إن النظام اللغوي أكثر ثباتاً ويمكن الاعتماد عليه بوصفه بنية قارة في الفهم، فإن هذه البنية قد تتعرض لخلخلة، ومنها على سبيل التمثيل حروف المعاني، التي أثبتت بحوث مختلفة أنها قابلة للانزياح أو التنامي. وربما من المفيد أن نتأمّل في بعض المقولات التي تنسب إلى كبار اللغويين، مثل العقل عند تشومسكي، فهل كان العقل لديه عقلاً منطقياً محضاً، أم أنه عقل لغوي وأن هذه الكفاءة نشأت من الدربة اللغوية لا من القياس المنطقي الآلي؟
من هنا، من المفيد أن ندرس العقل اللغوي عند الخليل وعبد القاهر وتشومسكي، أقول العقل اللغوي وليس كما يتوهم البعض. وإذا أمعنّا النظر في العقل اللغوي، فهو عقل رمادي وعقل اعتباطي وعقل طبيعي، وهو فسيفساء من المكوّنات غير المتناهية ومن غير الممكن حصرها أو حدّها، لأن اللغة لا تحدّ ولا تحصر. وإذا كانت لا تحدّ ولا تحصر، فكيف يمكن للحاسوب حصر مجازيّتها؟ وعليه، فإنه لا يمكن للحوسبة أن تماثل الإنسان في فهم اللغة على نحو الدقة.
* عالم لغوي بحريني