لا شكّ في ان تجربة المقاومة في لبنان تجربة فذّة لم تنتهِ بعد، ولن تنتهي طالما بقيت دولة العدوّ الإسرائيلي على أرض فلسطين. ولا شكّ في أن تجربة المقاومة في غزة بين 2008 و2014 شهدت تطورّاً ملحوظاً (حتى لا نقول نوعيّاً لأن كل الجيوش العربيّة باتت تسبغ صفة «النوعيّة» على كل عمليّاتها من ضرب المتظاهرين بالهراوات إلى إطلاق النار على معارضين ومعارضات إلى الاستعراض في شوارع المدينة والمدارس) يبني ويستفيد ويستلهم من تجربة المقاومة في لبنان.
مرّت مقاومة العدوّ الإسرائيلي بأطوار ومراحلة مختلفة لا يجمع بينها إلا العفويّة وعدم التحضير المسبق، والارتجال المشوب بالذعر أحياناً. يمكن رصد بداية التحرّك المقاوم إلى الثلاثينيات من القرن الماضي عندما لاحظ الفلسطينيّون جملة من الأمور المُريبة في فلسطين:
1) تبنّي سلطة الاحتلال البريطاني في فلسطين وجهة النظر الصهيونيّة بالكامل، وحتى لا تترك مجالاً للشك، عيّنت الحكومة البريطانيّة اليهودي الصهيوني هربرتسمويل كأوّل مفوّض سام لفلسطين المُحتلّة.
2) كثافة الهجرة اليهوديّة إلى فلسطين، «القانونيّة» منها والسريّة - تسرّب الكثير منهم عبر الحدود اللبنانيّة مقابل مال للمزارعين المحليّين.
3) زيادة عمليّات تهريب السلاح الأوروبي (الحديث) إلى فلسطين واكتشاف عمّال فلسطينيّين في مرفأ يافا عام 1935 لشحنة سلاح كبيرة لـ«الهاغاناه».
4) القضاء على حركة عزّ الدين القسّام واغتياله (قبل الثورة في 1936).
5) طرد الفلاّحين الفلسطينيّين من أراضيهم بعد شرائها من قبل اليهود (مع ان أرقام الشراء بولغ فيها كثيراً في الثقافة العربيّة السائدة ولم يملك اليهود حتى 10% من أرض فلسطين عام 1948، وما بيع من الإقطاعات بيع من قبل ما يُسمّى الملاّك الغائبين - من اللبنانيّين في أحيان كثيرة).
6) منع العرب من العمل في المدن بسبب عنصريّة ما أسماه الصهاينة بـ«العمل العبري»، والذي على أساسه لم يُسمح بحق العمل في المنشآت اليهوديّة للعرب.
7) التحدّي والاستفزاز الذي مثّلته الحركة الصهيونيّة مُبكّرة (كتب عن ذلك رمز ما سُميّ بـ«الصهيونيّة الثقافيّة»، أحاد عا آم (وهو اسم فني يعني بالعربيّة «واحد من العامّة») في مقالة «الحقيقة من أرض إسرائيل» عام 1891 والتي تطرّقت إلى الاضطهاد والتشنيع الذي كان المهاجرون اليهود يقومون به ضد الشعب الفلسطيني (من الضرب إلى التحقير إلى الإهانة... إلخ).

إن إجهاض الثورة
الأولى كان في جانب منه محاولة لنزع الشعبيّة عن الخيار المسلّح

ضد كل هذا بدأت حركة مقاومة تتبلور لكنها لم تكن منظمّة خصوصاً ان الطبقة الفلسطينيّة المُثقّفة كانت - ويا للأسف - من أنصار النضال اللاعنفي، فانحصر مفهومها للمقاومة بالعرائض والإضرابات والاحتجاجات والخطب، التي - من دون مقاومة مُسلّحة - تبقى عقيمة في مواجهة احتلال عنيف ومُسلّح بأسلحة حديثة، ومدعوم من دول كبرى.
صحيح أن العامّة كانت خارج «حزب الاستقلال» وكانت في نطاق الحركة الوطنيّة التي قادها الحاج أمين، لكن محاولات الفلاحين الفلسطينيّين للقيام بثورة مُسلّحة واجهتها صعوبات كثيرة، منها اعتدال الحاج أمين الذي كان دائماً، قبل طرده من فلسطين عام 1937، يحاول مسايرة الاحتلال البريطاني بإيعاز ومن دون إيعاز من الحكومات العربيّة الرجعيّة. والسلاح الذي كان متوافراً للشعب الفلسطيني كان بدائيّاً كما ان مراجعة جدول مصادرة السلاح في الثلاثينيات من قبل السلطات البريطانيّة المُحتلّة تكشف إصراراً واضحاً على دعم التسليح الصهيوني مقابل نزع السلاح العربي (يمكن مراجعة الوثائق عن قوائم مصادرة السلاح حول ذلك في ملاحق الكتاب الموسوعي - الأهم عن القضيّة الفلسطينيّة وإن لم يُترجم إلى العربيّة بعد -، «من المأوى إلى الاستعمار» من إعداد وتحرير، وليد الخالدي). والدول العربيّة لم تكن تريد بأي صورة من الصورة فتح مجابهة مُسلّحة ضد الصهاينة. على العكس، إن إخماد الثورة الفلسطينيّة في مرحلة عام 1937، والذي نزع الزخم الثوري الذي سادها، كان بطلب من الحكومات العربيّة الرجعيّة. والمرحلة الثانيّة من الثورة كانت فاشلة حكماً لأن الهاشميّين وأعوانهم من آل النشاشيبي (والطرفان كانا متلقيّين للرشاوى الصهيونيّة بحسب ما ورد فيما أفرج عنه من الأرشيف الصهيوني) حوّلا الثورة من مقاومة ضد الصهاينة إلى شبه حرب أهليّة بين الفلسطينيّين أنفسهم، بحسب الخطة الصهيونيّة.
إن إجهاض الثورة الأولى كان في جانب منه محاولة لنزع الشعبيّة عن الخيار المسلّح امام الخطر الصهيوني الداهم. ومن دون مراجعة ما جرى بعد ذلك وصولاً إلى النكبة يمكن القول إن الحكومات العربيّة وعدت بحرب لمنع احتلال فلسطين، من دون ان تكون صادقة أو جديّة في وعدها، من أجل تفويت الفرصة على الشعب الفلسطيني كي يقوم هو بثورته المُسلّحة وإن بإمكانات ضئيلة. من يعود لوثائق تلك الحقبة يرى بأم العين ان الشعب الفلسطيني، حتى بمثقّفيه ومعتدليه (من خارج شلّة الحكم الهاشمي والقيادة النشاشيبيّة) توصّل في الأربعينيات إلى إجماع حول ضرورة المواجهة المُسلّحة من أجل الحفاظ على ارض فلسطين. كانت الوفود الفلسطينيّة تجول في دول العرب من أجل دعم خيار السلاح ومن دون فائدة تُذكر. على العكس، إن التدخّل العربي، وبأعداد رمزيّة (بلغت نسبة الجيوش العربيّة إلى جيش الصهاينة 1 الى 3 في ذروة المعارك) ومن قبل جيوش غير مجهّزة وغير جادة في القتال (يكفي أن الجيوش (اللبناني والأردني والعراقي) أوكلت لها مهمّة الدفاع عن فلسطين)، ساهم في تسهيل مهمّة الاستيلاء على أرض فلسطين (جرى قتال بين وحدات من الجيوش العربيّة على أرض فلسطين بسبب غياب التنسيق والفوضى السائدة).
أما بعد النكبة، فقد أسقط الخيار العسكري بالقوّة عن شعب فلسطين: من قبل سلطات الاحتلال التي وضعت الشعب الفلسطيني برمّته في أراضي 1948 تحت حكم عسكري مباشر، ومن قبل الأنظمة العربيّة التي فرضت تضييقاً مخيفاً على حركة الشعب الفلسطيني في المخيّمات. وحتى إنشاء منظمة التحرير الفلسطيني نفسه وإنشاء جيش التحرير الفلسطيني لم يكونا إلا مبادرة من الدول العربيّة (بما فيها النظام الناصري الذي وضع قائد المنابر، أحمد الشقيري في سدة رئاسة المنظمّة) لقطع الطريق على إمكانيّة ولادة عمل ثوري فلسطيني مستقلّ (مستقلّ عن كل الأنظمة وليس مستقلاً عن كل الأنظمة باستثناء دول النفط والغاز، بحسب المفهوم العرفاتي). صحيح أن الجناح الفلسطيني لحركة القوميّين العرب وحركة «فتح» وبعض التنظيمات الفلسطينيّة الأخرى حاولوا جميعاً كسر الحصار، إلا ان عملها كان محدوداً ومن دون سقف برنامج عسكري للمقاومة.
أما تجربة منظمة التحرير فلا داعي لمراجعتها في عجالة هنا أما وقد كتب فيها دراسة مستفيضة يزيد صايغ «الكفاح المُسلّح والبحث عن دولة». لم يكن عرفات جديّاً في إنشاء حركة مقاومة مسلّحة ضد الاحتلال الإسرائيلي: لا من الأردن ولا في لبنان. كان يكتفي بالعمليّات الاستعراضيّة (حتى العمليّة الأولى لـ«العاصفة» كان بيانها المكتوب من قبل عرفات يتسم بالمبالغة والكذب الذي وسم عمل الرجل الخطابي - هو الذي كان يسخر من أسلوب أحمد الشقيري). وإنشاء الدائرة العسكريّة لمنظمة التحرير كان عملا رمزيّاً خصوصاً ان الذي ترأسه كان زهير محسن، الذي لم يمت بصلة للكفاح المُسلّح والذي كان تنظيمه «الصاعقة» (مجرّد أداة بيد النظام السوري) من أكثر التنظيمات العسكريّة فساداً في تجربة منظمة التحرير في الحرب الأهليّة اللبنانيّة (قتل محسن في مدينة «كان» على الشاطئ اللازوردي الفرنسي). وطابع التجييش كان غالباً، ولا ننسى ان عرفات وضع في سدّة القيادة العسكريّة خرّيجي الجيش الأردني الهاشمي الذين انشقّوا، وكان عرفات يزهو أن بعضهم (مثل أبو الوليد وأبو موسى من خرّيجي كليّة ساند هرست العسكريّة البريطانيّة، والتي تتخصّص بإعداد دورات قصيرة جداً ورمزيّة لأولاد حكّام النفط والغاز مقابل مبالغ ماليّة هائلة).
لكن الملامة تقع على كاهل عرفات الذي لم يعدّ للعمل العسكري في قاعدة لبنان. كان الوجود المُسلّح في لبنان مجرّد ورقة تفاوض دبلوماسيّة بانتظار عطيّة الدويلة المسخ (وهذه يدحض دعايات اليمين اللبناني عن نيّة عرفات للتوطين في لبنان).
كانت هناك محاولات لإعداد بنية عمل عسكري مقاوم في لبنان لكن عرفات جابه تلك المحاولات بالرفض. لنأخذ مثلاً قصة الأنفاق التي أثبت حزب الله، وفيما بعد المقاومة في غزة، أهميّتها البالغة في مجابهة العدوّ. الحق يُقال، كان احمد جبريل (قائد «الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين - القيادة العامّة» والذي حوّل تنظيمه إلى أداة بيد النظام السوري، مثل تنظيم «الصاعقة» سابقاً) شديد الإلحاح على عرفات من أجل إقامة شبكة من الخنادق في كل مناطق وجود المقاومة في لبنان، وكان عرفات كعادته يعد من دون أن يفي. فما كان من جبريل، وبإمكانات محدودة، إلا ان أنشأ شبكة (متواضعة نسبيّاً) من الأنفاق في قواعد «القيادة العامّة» وكان العدوّ يقصفها باستمرار من دون ان يزيلها من الخريطة كما كان يفعل في قواعد تنظيمات أخرى. وتتحمّل «جبهة الرفض» هي الأخرى مسؤوليّة كبيرة عن التقصير في بلورة خيار عسكري بديل، لكنها، مستفيدة من دعم مالي هائل من قبل عرفات، استكانت وأنشات قواعد عسكريّة من دون أفق عسكري واضح، أو نهج مقاومة مغاير. نعود لكتابات تلك الفترة لنرى النواقص. كان يمكن لـ«جبهة الرفض» تكريس مدرسة عسكريّة مغايرة.

الجهاز الأمني
لحزب الله يختلف تماماً عن تجربة المقاومة الفلسطينيّة المُنفلشة
تلّهت كل التنظيمات بالعسكرة على طريقة الجيوش (حتى ان بعض التنظيمات كان يرسل ضبّاط للتدرّب على قيادة طائرات حربيّة في دول المعسكر الشيوعي وكأن قوّات المقاومة في لبنان كانت تملك الطائرات).
الطامة الكبرى تمثّلت عام 1977 في إنشاء «جبهة الصمود والتصدّي» ضد مبادرة السادات: كان التنافر والصراع سمتها، إن بين النظاميْن السوري والعراقي أو بين فصائل «الرفض» وفصائل القبول أو بين الموالين لليبيا والموالين لخصومها. تعثّرت «جبهة الرفض» وانتهت تجربتها بسبب الاستيلاء عليها من قبل النفط العربي «التقدّمي». لكن كل الفصائل قصّرت في بلورة أسلوب مقاومة خاص بالأرض اللبنانيّة والفلسطينيّة والأردنيّة.
خذ مثلاً كتاب «أبو همام»، «المقاومة عسكريّاً» الصادر في عام 1971. كان الكتاب من أوّل الكتابات الرصينة عن المقاومة المسلّحة لكن الخلل يكمن ان «أبو همام» مثل باقي القادة العسكريّين لفصائل المقاومة لم تعدّ مدرسة مقاومة خاصّة بالحركة الوطنيّة الفلسطينيّة. تجد ان الكتاب يعتمد على «كلاوسفتز» وعلى كتابات ماو وتشي غيفارا وريجيس دوبريه (متى يُكشف دور الأخير في عمليّة الإفشاء عن موقع تشي غيفارا؟). والكتاب نظري مثل الكتابات العسكريّة الثوريّة من تلك الحقبة. يتحدّث الرفيق «أبو همام» عن إمداد المقاومة بالسلاح «عن طريق الجو» (ص. 90). من سيفعل ذلك من دول ما كان يُسمّى بالمواجهة يا أبا همام؟ أكثر من ذلك، خذ كتاب «كرّاس عسكري» الأساس الصادر عن فرع التدريب في الدائرة العسكريّة المركزيّة لـ«الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين» (الكتاب غير منشور وكان محدود التوزيع لكنه يعود لأواخر السبعينيات. ليس هناك من جديد في الكتاب عن التجربة الخاصّة بالمقاومة. هذا كتاب يختصّ بالجيوش ومعظم ما جاء فيه عن السلاح مُترجم عن لغة أجنبيّة. ومن الواضح ان الكتاب لا يتعلّق البتّة بتجربة المقاومة في لبنان (حيث أنشأت الجبهة كليّة خاصّة بالضبّاط) إذ ان هناك قسماً بقراءة الخرائط الجويّة وكأن للمقاومة سلاح جوّي أو حتى أقمار اصطناعيّة (ص. 305)).
الذي مرّ في تجربة التدريب العسكري في المنظمات الفلسطينيّة أو الذي «خدم» في قواعد عسكريّة متقدّمة للمقاومة الفلسطينيّة يذكر أن الإعداد كان عامّاً ونظريّاً، ولم يتعلّق بالأرض التي كانت الأقدام تجري عليها. وكان هناك هوس بالعروض العسكريّة - من مخلّفات الجيوش العربيّة التي تخرّج منها كثير من المدرّبين. كان المنهج عبارة عن مواد تدريس مُترجمة عن قطع السلاح وقسم يتعلّق بـ«التكتيك العسكري» الذي كان يُهمل (مثل حماية القواعد من أعين العدوّ الجويّة وضرورة عدم ترك المعلّبات المعدنيّة غير مطمورة. كنت تغادر قاعة التدريس لتجد أكوماً من المعلّبات غير مطمورة). وكان هناك حديث كثير عن نجاحات الشعب الفييتنامي، من دون الأخذ في الحسبان الخلاف بين طابع الأرض والثقافة.
هنا فذاذة تجربة حزب الله. طوّر المقاومة إلى علم قائم بذاته، ومدرسة خاصّة نابعة من البيئة التي توجد فيها. صحيح ان وديع حدّاد كان أوّل من أراد ان يطوّر المقاومة إلى علم، واستعان بفريق من العلماء في اختصاصات شتّى في عمله لكن إقصاءه عن الجبهة حرمه من قاعدة كبيرة كان يمكن له ان ينشئ منها حركة مقاومة مُسلّحة خاصّة بالتجربة الفلسطينيّة. من المعروف ان حدّاد، عندما كان يعدّ لعمليّة ما، كان أحياناً (على ما روى لي رفيق شارك في عمليّة «أوبك» في فيينا) يرسل إلى المخيّمات الفلسطينيّة في لبنان أنه يبحث عن مقاتل ذات مواصفات كذا وكذا (هذا ساعد أبو جهاد في المراقبة)، وكان يُشار إليه برفيق أو آخر، ثم يُبعث إليه لإخضاعه لتدريب خاص. من يريد ان يرى العمل الدؤوب لحزب الله يجب عليه أن يزور متحف «مليتا» المقاوم (متحف المقاومة هذا يجب ان يصبح تحت الرعاية والتمويل الحكومي بدلاً من «المتحف الوطني» الذي يحتوي على بقايا أوان فينيقيّة وعلى مجسّمات لغرفة جلوس الأمير بشير الشهابي).
إن جدليّة عمل المقاومة التي طوّرها حزب الله، والتي لم يسبقه تنظيم عربي إليها، هو في الربط بين التجربة الميدانيّة وبين استيعاب دروسها من أجل تطوير تدريس المقاومة في معاهدها. من هنا نبعت الحاجة إلى إنشاء مدرسة متطوّرة لتعليم اللغة العبريّة فيما كانت فصائل المقاومة الفلسطينيّة تستعين بمترجمي العبريّة من مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة في بيروت. وكل ما يُقال من يساريّين معارضين لحزب الله ان فذاذة حزب الله في المقاومة تعود لسخاء تمويله هو كلام مردود لأن فصائل المقاومة الفلسطينيّة (خصوصاً حركة «فتح») والحركة الوطنيّة اللبنانيّة (خصوصاً الحزب الشيوعي اللبناني و«المرابطون») كانت تتمتّع بتمويل هائل سُيّب معظمه في نمط معيش باذخ لقادته وفي الإنفاق على بيروقراطيّة باتت منفصلة تماماً عن أهداف المقاومة.
ليست مقاومة حزب الله في أيّام صبحي الطفيلي على ما أصبحت عليه في أيّام حسن نصرالله حيث طورت بصورة علميّة مدروسة. كان الربط بين التجربة العمليّة للمقاومة وبين المنهج التدريبي متلازم، وهذا ما ساهم في إنشاء قيادات وأجيال جديدة من المقاومين. وكلّما برزت حاجة ما في الميدان، كانت تُطوّر. والجهاز الأمني الاستخباراتي لحزب الله يختلف تماماً عن تجربة المقاومة الفلسطينيّة المُنفلشة بالرغم من كفاءة بعض من أجهزتها (بعض عناصر جهاز «أبو أياد» مثلاً. لا يتسكّع قادة الجهاز الأمني لحزب الله في مقاهي بيروت ولا يرتادون الحفلات البورجوازيّة ولا تزيّن صورهم الصفحات الاجتماعيّة. هؤلاء من غير طينة ولهذا صعب على العدوّ معرفتهم أو مطاردتهم بالرغم من بروز بيئة حاضنة للعدوّ (ضد حزب الله) في لبنان خصوصاً بعد اغتيال رفيق الحريري. حزب الله طوّر علم المقاومة ثم حوّله إلى كليّة للمقاومة تُدرّس من قبل من يبتغي مقاومة الاحتلال. وهذا العلم مبني ليس على الكتب العسكريّة المُترجمة (أشكّ في ان تكون هناك إشارة إلى كلاوتسفتز في كتب التدريب في الحزب) وليس على المناهج النظريّة، بل على التجربة العمليّة التراكمية في مقاومة الاحتلال في لبنان.
وتظهر الفائدة من تجربة المقاومة في القدرة على انتقالها إلى غزة، أو إلى الضفّة في حال تحرّرها من سلطة أوسلو الرديفة للاحتلال. و«سامي شهاب» (لماذا ظلّ اسمه بعيداً من الإعلام وهو الذي كان يستحق التكريم والتبجيل؟) لم يكن سائحاً في مصر، ولم يقصد القاهرة لتفقّد أحوال شارع الهرم. «شهاب» أستاذ أكاديمي متخصّص في المقاومة وأشرف على نقل مناهجها التدريسيّة وتدريباتها ووسائلها وتقيّناتها إلى غزة.
إن القدرة على 1) التلاقح الجدلي بين الممارسة والنظريّة في جنوب لبنان و2) التلاقح بين تجربة جنوب لبنان وغزة يرسم ملاحم مرحلة جديدة من شيوع مدرسة علم المقاومة المتنقّلة، وهذا ما يخيف العدوّ. إن ما عبّر عنه جنود العدوّ في بداية الغزو البرّي يلخّص الفكرة: ذهل جنود العدوّ لأن جنود المقاومة في غزة «يقاتلون مثل حزب الله».
لعلم المقاومة أصول وقواعد باتت معروفة في جانب، وغير معروفة في الجانب الآخر. والحفاظ على السريّة هو أهم مخزن للمقاومة وكان واحداً من عناصر الفشل الذي لحق بتجربة منظمة التحرير في لبنان. السريّة لم تكن يوماً من خصال ياسر عرفات وصحبه لأن حب الأضواء والإعلام كانا سمة انطلاقة حركة «فتح» (مع ان هناك قادة من حركة «فتح» قاوموا هذا الإغراء وحاولوا عبثاً الحفاظ على السريّة: ليس أبو داوود مثلاً من مدرسة أبو الزعيم أو خالد الحسن نفسها).
هذا لا ينتقص البتّة من الشجاعة والبسالة التي حكمت أداء الكثير من مقاتلي (وحتى مقاتلات) المقاومة الفلسطينيّة في لبنان. وكان هناك بطولات معروفة في معارك متعدّدة في لبنان في مواجهة العدوّ الإسرائيلي، لكن تلك كانت بطولات متفرّقة وعفويّة في كثير من الأحيان. كان مقاتلي المقاومة من الأشدّاء الشجعان لكن القيادة لم تكن في وارد بلورة مقاومة فعّالة. إن التقصير في مواجهة إجتياح عام 1978 كان يجب ان يكون حافزاً لمواجهة 1982، لكن عرفات لم يتحضّر، وكان يتهكّم من الذين حثّوه على التحضّر. إننا امام تجربة جديدة في المقاومة وأمام فصل جديد في الصراع مع العدوّ الإسرائيلي. تغيّرت صورة "الجندي الذي لا يُقهر": أزالته واقعة المقاوِم الذي لا يُقهر. إن ثقافة النفط والغاز هي مناقضة لكل مدرسة المقاومة لكن جيلاً عربيّاً جديداً ينشأ على فعل مواجهة مع العدوّ لا يمكن له إلا ان يزيد من التفتّت المستمّر في بنية العقيدة العسكريّة له. إن الإستهانة بعدم قدرة العدوّ على حسم المعركة لصالحه في 2006 وفي 2012 وخصوصاً في 2014 يجب ان يُقلق قادة العدوّ، بالرغم من دعاية فاشلة عن العكس. العدوّ في مأزق إستراتيجي تاريخي، لكن إعلام العرب لا يريد ان يعترف بذلك، حرصاً منه على المصالح القوميّة... للعدوّ.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)