ثمة حكمة قديمة ومجربة هي عصارة التجربة الإنسانية في أسوأ اختراع أنجزته البشرية، أي الحرب، تقول: «لا يجوز تغيير الخيول خلال المعركة». ومن تاريخنا نتذكر أن خالد بن الوليد طبّق هذه الحكمة حين أخفى قرار الخليفة الفاروق القاضي بعزله من قيادة جيوش الفتح العربي الإسلامي خلال معركة اليرموك، ثمّ نفذ القرار فور انتهاء المعركة بانتصار جيشه وهزيمة الرومان وسلم القيادة للصحابي القائد أبي عبيدة بن الجراح.
ومن التاريخ الثوري الحديث، طبّق الزعيم الشيوعي ماو تسي تونغ هذا المبدأ أكثر من مرة خلال الحروب التي خاضها في حرب تحرير الصين وبناء جمهوريتها الاشتراكية، ولكنه كان قاسياً مع القادة المتخاذلين بعد انتهاء المعارك، وآخر من أخذ بهذه الحكمة وطبقها عملياً خلال اجتياح العدو الإسرائيلي للبنان في ثمانينيات القرن الماضي هو الزعيم الفلسطيني الراحل أبو عمار، ياسر عرفات، حين طُلب منه على نطاق واسع تغيير قيادته العسكرية بعد اختراق الجيش الصهيوني لدفاعات المقاومة الفلسطينية خلال اجتياح آب سنة 1982 وبلغ العدو مشارف بيروت، فأعاد عرفات صفوف دفاعات المقاومة الفلسطينية والقوات الوطنية اللبنانية وأبقى على القيادات العسكرية في مواقعها خلال المعركة وصمد في بيروت صموداً أسطورياً طوال سبعين يومياً من الحرب الضروس، خسر فيها العدو باعتراف معاهد استراتيجية 3517 عسكرياً بين قتيل وجريح وأسير وأسقطت 6 طائرات مقاتلة وعمودية ودمرت 180 دبابة ومدرعة، واعترفت إسرائيل بمقتل 332 عسكرياً من جيشها إضافة الى آلاف الجرحى.
اليوم، في ذروة المعارك التي يخوضها الجيش العراقي والدولة العراقية ككل، مدعومة بقطاعات مهمة من المجتمع العراقي، تخوض الكتل السياسية الفاسدة، بما فيها الكتلة المهيمنة على الحكومة، أي كتلة دولة القانون، حرباً سياسية جانبية، موضوعها بقاء أو إقصاء رئيس الحكومة واستبدال شخص آخر به، ترضى به قيادات هذه الكتل. لسنا في وارد الدفاع عن المالكي وحكومته ولا عن حكم المحاصصة والعملية السياسية الطائفية التي يقودها، والتي أدت إلى هذا الواقع المأسوي (مجازر وتهجير وتقسيم فعلي للبلاد وفساد وفوضى... إلخ) وقد كنا – أعني كاتب هذه السطور ومن يشاركه قناعاته ومواقفه السياسية – طوال عمر هذه التجربة الفاشلة ندعو إلى إنهائها كلها علناً، وليس لإنهاء فترة حكم المالكي فقط، ولكن الأمر الذي يقاتل من أجله الساسة من جميع الكتل اليوم خطير جداً وسيؤدي الى تعميم الحرب الأهلية وتقدم التحالف التكفيري البعثي عسكرياً، إذْ إن إقصاء المالكي سيستتبعه بالضرورة إسقاط أو تساقط المؤسسة العسكرية والأمنية التي يُتَّهم المالكي بتركيبها بناءً على مصالحه ومصالح حزبه وكتلته، وهذا صحيح ومدان وطنياً، ولكن هذا السقوط أو الإسقاط سيعني اندلاع القتال في بغداد نفسها والسيطرة على مدن عراقية عديدة أخرى بعد إقصاء المالكي وفريقه مباشرة وسيعتبره التحالف التكفيري البعثي انتصاراً له، وهو محق في ذلك.
وحتى إذا لم يحدث ذلك بهذه الصورة، بل بصورة أخف وطأة، فإن القيادة البديلة للمالكي ستنطلق من الصفر وستكون تحت رحمة الابتزازيين من الساسة وأمراء الحرب كلهم ومن جميع الطوائف.
إن الحكمة والحرص على العراق وشعبه يستدعيان اليوم التخلي عن المناكفات والمؤامرات السياسية والتناحر والشخصنة في النظر إلى الوقائع والأشخاص والعناوين والتطورات والخلافات بين الكتل والشخصيات السياسية وتأجيل مسألة تغيير قمة السلطة التنفيذية وفي مقدمتها المؤسستان السياسية والأمنية، وهذا لا يعني السكوت عن الذين سبّبوا هذه الهزائم المنكرة وهذه المآسي والخسائر، وسيكون من اللازم والواجب فتح ملفات هذه الحرب بعد القضاء على الخطر الوجودي التكفيري البعثي الذي يتهدد العراق وشعبه كله ومحاسبة كل المسؤولين ومساءلتهم، وفي مقدمتهم نوري المالكي وكابينته الحاكمة. أما مخاوف البعض من هزيمة داعش وحلفائها في هذه الحرب لأنها من وجهة نظرهم ستعني انتصاراً للمالكي، فهي مخاوف مرَضية وأنانية ولا تعني سوى الوقوف عملياً في جانب داعش وتأخير هزيمتها أو منعها.
لنتذكر جميعاً أن المالكي وإخوته الأعداء في العملية السياسية من طينة واحدة، وأنهم جميعاً زائلون، أما العراق فينبغي أن يبقى... وسيبقى بقوة وعزم الشرفاء ممن ينكرون ذواتهم من أجل شعبهم.
* كاتب عراقي