«في السنوات الأخيرة، مع صعود القوة الوطنية الشاملة للصين والمكانة الدولية التي حظيت بها، كان هناك الكثير من المناقشات الدولية والدراسات حول «إجماع بكين» و»نموذج الصين» و»طريق الصين». من بين هذه الدراسات لا يوجد نقص في الثناء. يعتقد بعض الأكاديميين الأجانب أن الوتيرة السريعة لتنمية الصين جعلت النظريات الغربية موضع تساؤل. شكل جديد من النظرية الماركسية يقلب النظريات التقليدية للغرب» - [من خطاب للرئيس الصيني شي جينبينغ]
تعدّل الخطاب السياسي للدّولة الصينية حول التطوّرات على الصعيد العالمي، في ظل الانخراط المتزايد لها في مختلف شؤون دول الأطراف -أطراف النظام الرأسمالي العالمي- وخصوصاً بعد «مبادرة الحزام والطريق»، التي تمر الآن بمرحلة كمون نسبي وتغيّر في الأولويات.
لا يمكن القول إن النشاط الديبلوماسي والإعلامي الصيني أصبح يقترب من حيث الفاعلية والانتشار من السردية الغربية حول السياسة والأيديولوجيا وتشكيل مفردات الفكر والنظرة إلى العالم. ففي مقابل خطاب أيديولوجي رسمي في الداخل، يستلهم مفردات الحقبة الماوية تارةً، وما بعدها تارةً، ويقدّم رؤيته ضمن إطار الحزب الشيوعي، تحت عنوان يصر عليه الحزب كما يصر الإسلام على التوحيد، هو: الاشتراكية ذات الخصائص الصينية، إلا أن الخطاب الخارجي ديبلوماسي جداً، حقوقي ومنمق، بعيد من راديكالية الحقب السابقة، ومتخفف -بشكل أو بآخر- من الحمولة الأممية للأيديولوجيا الماركسية التي يعتنقها قادة الصين الشعبية.
ربّما ستعبّر استعادة هذه المفردة، «الأممية»، في الخطاب الرسمي الصيني عن انعطافة كبرى في الصراع الدولي في ظل اشتداد تنافس المسارات الاقتصادية بين الصين والنظام العالمي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية. اشتداد التنافس والحصار الاقتصادي لبعض القطاعات الرائدة، تدفع إلى مزيد من الاستقلال الاقتصادي للصين، وربما تحلل أميركا من جزء من روابطها الاقتصادية العميقة مع الصين، بحكم استفادة الأخيرة من معطيات العولمة وتفوقها في مختلف المجالات، وهو ما يمكن التعبير عنه بـ«فك الارتباط المعكوس ونهاية التخلف»، كما يقول الدكتور نايف سلوم.
نلحظ في تقرير نشرته وزارة الخارجية الصينية في شباط الماضي بعنوان «الهيمنة الأميركية ومخاطرها»، سعي السردية الرسمية الصينية لتحديد موقعها في العالم، وذلك بالضدّ من موقع الهيمنة الأميركية، الذي فصلته على خمسة مستويات (سياسية، عسكرية، اقتصادية، تكنولوجية وثقافية). فتعرية الهيمنة وتوضيح مخاطرها وإعاقتها للسلم والتنمية في العالم تضع الطرف المقابل، «الطرف الصيني»، بالضرورة في موقع النقيض من هذه السياسات. فالهيمنة الأميركية، كوريث للسياسات الكولونيالية الغربية في الحقب السابقة، هي استمرارية للأطراف التي حارب الحزب الشيوعي الصيني ضدها منذ النصف الأول من القرن العشرين.

(1) الهيمنة السياسية
يستهلّ التقرير عرضه بالعبارة التالية: «لقد طوّرت الولايات المتحدة كتاباً عن الهيمنة لتنظيم «الثورات الملوّنة»، والتحريض على النّزاعات الإقليمية، وحتى شن الحروب بشكل مباشر تحت ستار تعزيز الديموقراطية وحقوق الإنسان»، لينطلق في تفصيل أوجه الهيمنة الأميركية الخمسة، ومفاعيلها السلبية، ويفرد في القسم الأول -الهيمنة السياسية- عدة فقرات للحديث عن الثورات الملونة في أوراسيا، مدرجةً «الربيع العربي» ضمن السياق نفسه. أدرج التقرير «ثورة الورود» في جورجيا 2003 و«الثورة البرتقالية» في أوكرانيا و«ثورة التوليب» في قرغيزستان، وكذلك الإطاحة بالرئيس فرديناند ماركوس الأب في الفيليبين عام 1986، وغيرها من الأحداث في أميركا اللاتينية ومناطق أخرى، في إطار الفعل السياسي الأميركي لقلب الأنظمة تحقيقاً لمصالحها على حساب استقرار تلك الدول.
وأضاف التقريرُ «الربيع العربي» إلى هذه القائمة مع وصفه بالمدبّر، وبأنه جلب الفوضى وتمخض عن نتائج كارثية في تلك البلدان. لا تدرج الكثير من القراءات حراكات «الربيع العربي»، سواء منذ عام 2011 وصولاً إلى عام 2019، تحت بند الثورات الملونة، ولكن العنوان بحسب الخارجية الصينية يناسب المآلات السياسية والاجتماعية للبلدان التي جرت بها هذه الأحداث، وخصوصاً الفوضى والتحريض والنزاعات التي فتحت المجال لمزيد من النفوذ الأميركي، إضافةً إلى الحضور المكثف للدول الغربية وحلفائها في مختلف مفاصل هذه الوقائع. وما هو واضح أن الرأي الرسمي الصيني لا يتردد على الإطلاق في جعل الدور الأميركي-الغربي في هذه الحراكات هو عنوانها الأساسي، بغض النظر عن أي عناوين سياسية أو اجتماعية أخرى.

(2) الهيمنة العسكرية
في ما يخص المستوى الثاني، الهيمنة العسكرية، يستعرض التقرير التدخلات العسكرية الأميركية حول العالم، قديمها وحديثها، ويتحدّث عن الميزانية العسكرية الأميركية المتضخّمة، كذلك عن القواعد العسكرية المنتشرة في القارات المأهولة والتي بلغ تعدادها أكثر من 800 قاعدة، إضافة إلى استعراض عام لضحايا الحروب الأميركية وما تسببت به من دمار وموجات لجوء.
وكما تمّت الإشارة له سابقاً، فإن استعراض نتائج عسكرة الاقتصاد الأميركي يضع القارئ في موقع المقارنة بالضد مع السلوك الخارجي لجمهورية الصين الشعبية في هذا المجال. وهنا لا مجال للمقارنة، حتى المجردة منها، أي من دون الأخذ في الاعتبار طبيعة الحروب التي انخرطت بها الصين في جوارها المباشر، كالحرب الكورية ودعم الفيتنام والمناوشات المتفرقة مع الهند والضغط على تايوان من أجل استعادته للبر الصيني، وحتى التوترات الحدودية مع الاتحاد السوفياتي. فالمقارنة الكمية وحدها توضّح الفارق.
إنّ الخطاب النقدي وخطاب «السلب» حتى لو كان يستبطن التعريف بالنقيض قد يبادر مع تصاعد حدة الصراع إلى خطاب إيجابي يهتم بتوضيح النموذج الصيني كبديل


(3) الهيمنة الاقتصادية
ويقرن التقرير الهيمنة الاقتصادية الأميركية، في المستوى الثالث، بالنهب والاستغلال، في إشارة إلى تمركز النظام المالي العالمي حول الدولار الأميركي والهيمنة على مؤسسات الاقتصاد العالمي وصياغتها: «منذ أكثر من نصف قرن، تمتعت الولايات المتحدة بامتياز وعجز باهظين، من دون دموع، بفضل دولارها، واستخدمت تلك الورقة النقدية التي لا قيمة لها في نهب مصانع وموارد الدول الأخرى». «من دون دموع» هنا هي «من دون عمل ومن دون جهد». هذه الوضعية المتحكمة للدولار يجعلها علي القادري العامل الرئيس في «الريع الإمبريالي»، يقول: «فالعامل الرئيس في الريع الإمبريالي هي تلك السلطة التي تنقل أصول العالم بالدولار، وبهذا تكون الملكية الفعلية لأميركا».
ذلك يضاف إلى دور سياسات الديون والتحرير المالي المفروضة على الدول الفقيرة الذي يقرن عادة بالتضخم وتسرب رؤوس الأموال إلى الخارج. وبخصوص دول المركز الرأسمالي في هذا المستوى، هناك إشارة لافتة إلى اليابان وخصوصاً في اتفاق «البلازا» الذي فرض عليها وعلى ألمانيا الغربية وفرنسا والمملكة المتحدة في منتصف الثمانينيات، ورفع عملات هذه الدول أمام الدولار، مما قلص مزاياها التجارية في التصدير. هذا يضاف إلى سياسة العقوبات الأحادية على الدول «المتمردة»، الآن وفي السابق، كإحدى أدوات الإكراه والاحتواء.

(4) الهيمنة التكنولوجية
رابعاً، ربط التقرير الاحتكار التكنولوجي وسياسات الملكية الفكرية بسياسة إعاقة التنمية التي تتبعها الولايات المتحدة الأميركية تجاه الدول الأخرى. واستخدم المثال الياباني للمرة الثانية، من خلال الإشارة إلى عرقلة الولايات المتحدة الأميركية في الثمانينيات لصناعة أشباه الموصلات في اليابان، لتشرف هي على مفاصل سلاسل الإمداد الرئيسية فيها، وتحصل على الحصة السوقية الكبرى.
طبعاً، يختلف الموضوع بما يخص الصين، ويصبح أوسع وأكثر جذرية واستراتيجية، فالولايات المتحدة «تقوم بتسييس القضايا التكنولوجية واستخدامها كأدوات أيديولوجية»، في إشارة إلى شركة «هواوي» وما تتعرض له تكنولوجيا «الجيل الخامس» الصينية لشبكة الإنترنت من حصار وتضييق بحجة حماية الأمن القومي الأميركي والعالمي، وكذلك سلسلة القرارات الصادرة أخيراً التي تستهدف منع الصين من الوصول إلى التكنولوجيا المتقدمة في صناعة أشباه الموصلات وغيرها. كل هذا باسم حماية الديموقراطية الليبرالية.

(5) الهيمنة الثقافية
أخيراً، الهيمنة الثقافية ركن أساسي في الهيمنة الأميركية، وفقاً للتقرير، «القيم الأميركية وأسلوب الحياة الأميركي منتج مرتبط بأفلامها وبرامجها التلفزيونية ومنشوراتها ومحتواها الإعلامي وبرامج مؤسساتها الثقافية غير الربحية التي تمولها الحكومة. ومن ثم فهي تشكل مساحة ثقافية ورأي عام تسود فيه الثقافة الأميركية وتحافظ على الهيمنة الأميركية». تشكيل الرأي العام العالمي، والهيمنة على طرق التفكير، وإنتاج الأيديولوجيا، ترتبط بإدامة الموقع المهيمن للقوة العسكرية-الاقتصادية الأميركية. وهنا يشدد التقرير على دور هوليوود والأفلام الأميركية جنباً إلى جنب مع وسائل الإعلام الغربية التي تقولب أحداث العالم على قياس مصالحها عبر التغطية المتحيزة والانتقائية، ناهيك عن صناعة واختلاق الحدث أحياناً. كذلك وسائل التواصل الاجتماعي التي تُحكم أميركا والغرب قبضتها عليها وعلى تدفقاتها المعلوماتية لذات الغرض. طبعاً، لم يخف على صانع القرار الصيني طبيعة هذه الوسائل منذ بدايتها، لذلك رأينا إنشاء بدائل محلية عنها غير خاضعة للقبضة الأميركية.
ويؤكّد التقرير أن هذه الهيمنة الثقافية تضع في أولويتها استهداف البلدان الاشتراكية عبر التسلل الأيديولوجي وتمويل وسائل إعلامية وشبكات صحافية بعشرات اللغات، هدفها الأساسي التحريض والدعاية السلبية اليومية على هذه البلدان في سبيل عرقلة التطور السلمي لها.

خاتمة
إنّ التطور الاقتصادي للصين وتمدّدها على صعيد العالم، سواء عبر التجارة أو عبر مشاريع البنية التحتية الضخمة للربط الاقتصادي، كـ«الحزام والطريق»، يطرح تعديلاً في دور الصين وانخراطها في قضايا السياسة والصراعات الدولية. إنّ الخطاب النقدي وخطاب «السلب» الذي تبين فيه الصين الرسمية ضرر وخطورة هيمنة نموذج الهيمنة بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، حتى لو كان يستبطن التعريف بالنقيض، أي تبيان موقع الصين المناقض لهذا الأثر التدميري للسياسات الغربية، إنما قد يبادر مع تصاعد حدة الصراع واهتزاز الروابط الاقتصادية المتينة بين الصين والاقتصادات الغربية، إلى خطاب إيجابي يهتم بتوضيح النموذج الصيني كبديل، وليس فقط الاكتفاء بسياسات عدم التدخل المناقضة للتدخلات الغربية المدمرة. فخطاب الصين الداخلي مال أكثر في حقبة شي جينبينغ إلى التأكيد على الأيديولوجيا الاشتراكية كموجه أساسي للدولة والحزب كقائد للتنمية. فبحسب خطاب للأمين العام للحزب الشيوعي، شي جينبينغ، كان قد ألقي أمام اللجنة المركزية، خلف أبواب مغلقة عام 2013، وتم نشره على مراحل آخرها مطلع عام 2019 في المجلة الأيديولوجية الرئيسية للحزب «Qiushi»، وفق مجلة «Palladium» الصادرة في سان فرانسيسكو بتاريخ 31 أيار 2019، فإن الاشتراكية ذات الخصائص الصينية: «هي اشتراكية... وليست أي مذهب آخر». هي الاشتراكية الماركسية اللينينية وفكر ماو. وبالرغم من تأكيد شي جينبينغ أن طريق التنمية لكل بلد يجب أن يقرره شعب ذلك البلد، فإنه يرى أن نضج النظام الاشتراكي الصيني الذي سوف يتعزز مع الوقت، وكذلك تفوقه في مختلف المجالات، سيكون له تأثير متزايد على العالم. ويرى في الماركسية بديلاً يجب أن يثبت نفسه في الصراع الأيديولوجي مع النظريات الرأسمالية الغربية وفي المباراة الاقتصادية، كما قال لينين بعد انتصار الثورة البلشفية 1917 في روسيا.
* باحث سوري