مصطلح «الصناعة» يستدعي من الذاكرة مصطلحاً آخر في التراث العربي، وهو اصطلاح «الطبع». وقد تقدّم الأستاذ الدكتور شوقي ضيف بأطروحة لنيل درجة الدكتوراه إلى جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة اليوم) في النصف الأوّل من القرن الماضي بعنوان «الصناعة الفنية في الشعر العربي» عالج فيها قضية الطبع والصناعة وأثرها في الشعر. وإذا كان هذا في الأدب، فإن الأستاذ الدكتور كمال بشر أنتج كتاباً، ربما في نهاية القرن الماضي، بعنوان «اللغة بين الطبع والصنع»، وعالج فيه ما هو مطبوع في اللغة وما هو مصنوع. والحق أن الاصطلاح في جانبيه يحتاج إلى دراسة أخرى وهي صناعة الفهم. فإذا كانت الدراستان الماضيتان قد وضعتا في صناعة النص، فإن الاتجاه الذي أحاول الحديث عنه هو عن صناعة الفهم، وكيف تتم هذه الصناعة، وما هي آفاق الفهم التي يمتد خلالها نظر المتلقي.
وإذا كانت البلاغة العربية، أو البلاغة، قد عُنيت عناية فائقة بحال المتلقي، في رعاية مقامه، وكانت حساسة جداً في فهم رومانسيته، أو في فهم حساسيته المفرطة بغية عدم خدش أحاسيسه على مستوى الذوق أو الرضى، فإنه يمكن القول إن النص في العصر الحديث صار أكثر قوة وجرأة في إفشاء خطاب الصدمة. ولا ينفصل خطاب الصدمة عن شعار الحداثة، المتمثل في كسر «التابو» أو المحظور أو ما عرف في القضاء على سلطة الأب. ويمكننا القول في فهم ما تقدّم من حديث عن أفق من آفاق الخطاب بأنه مهاد ركين من أدوات صناعة الفهم، وربما أقول إن المطابقة لمقتضى الحال، أو بلاغة المقام، اللتين قام عليهما أس الخطاب قديماً، قد أصبحتا شبه منحسرتين في مستوى الخطاب أو خطاب الحداثة وما بعدها.
وربما شكل خطاب الصدمة الذي مورس في كثير من المستويات الاجتماعية والرسمية، علامة فارقة في تحولات الخطاب ومستوى بيّناً من مستويات صناعة الفهم. وقد وقعت مسؤولية تحرير الخطاب -تجاوزاً في اصطلاح تحرير- على عاتق مؤسسات رسمية ومؤسسات اجتماعية مدعومة دولياً مادياً ومعنوياً، من مؤسسات دولية بعيدة المدى، وفق خطط مدروسة لإفشاء هذه الظواهر اجتماعياً، وصناعة خطاب مغاير من داخل تلك المجتمعات عبر رفع شعارات عديدة منها الديموقراطية المغلفة، ومحاربة الفقر، وعبر نماذج من الشعارات ما كانت تجوز لولا فسحة «الحاجة»، فالحاجة وسد الحاجة هما جواز العبور إلى صناعة فهم آخر يجعل المتلقي لاهثاً وراء خطاب «النفعية» لا خطاب الاندهاش بمدى من الانفعال الراقي.
وإجمال القول، فإن هذا الفهم لا يبحث عن قدرة متفتقة من الخطاب، وتأملات كثيفة منتجة، بل هي صناعة لفهم محدود الاستيعاب أشبه بوجبة سريعة من وجبات «فاست فود» تسد رمق من أضنته ظاهرة الجوع، وصار يبحث عن حاجته ويبتكر الأساليب في سد هذه الحاجة.
والخطاب في زمن السرعة سرعان ما يتعدى إلى خطابات ثم يتشظى وينتثر حتى يصبح عسيراً بل عصياً على التتبع.
وإذا كان الخطاب قديماً يدور في فلك فخامة البناء وجودة السبك ويحاول الابتعاد عن الوحشي والغريب، فخطاب اليوم أقرب إلى المنفعة المباشرة أو التداولية. وحين يكون الخطاب منجزاً يراد التقيد به تكون لغته منتشرة وممتدة. إنّ الخطاب العالمي يمتلكه من يمتلك قراره المنجز، والخطاب منذ نحو نصف قرن قرارُ لا-تكوّن - بمعنى أنه صياغات تكوينية لا تكونيّة. وإذ نقول إن الخطاب العالمي منجز لأن من يتحكّم فيه يتحكّم في إفشاء اللغة التي يريدها في السوق. لأننا أمام حقيقة مذهلة تتحكّم في فهمنا الأشياء، وتقربها منّا وتبعدنا عن أشياء أخرى.
وهذا الخطاب العالمي يمتلك المال، السلطة، النفوذ، وهو قادر على حرف مسارات التفكير، وقبلها الفهم، عبر مؤسسات اجتماعية وإعلامية ومؤسسات الدول الرسمية، حيث يحتفظ بمقولة «قل ولا تقل» عبر مفهوم آخر، إذ يسلب هذا الخطاب فهمك ويحل مكان ما تفهم.
فدوّامة الفساد لديه تبدأ من إعطاب فهم الآخر أو الإلحاح على المحاولة حتى النجاح، فمن المقولات التي حاول هذا الخطاب تسويقها، وعبر ما أسمّيه الدلالة التكوينية -على سبيل التمثيل لا الحصر- اصطلاح «معاداة السامية». وبغض النظر عن رضانا على اصطلاح السامية والحامية، فإن الثقافة السامية -تداولاً- هي اصطلاح لغوي أو فئوي لغوي وهي أرومة تضم لغات عديدة، ومن أبرز تلك اللغات الحية فيها اللغة العربية، وأمّا العبرانية كادت تبيد كما بادت اللغات الأخرى، لكن اللغة العربية على نحو عامّ من أقدم اللغات الحية، وعلى نحو خاص تكاد تكون هي اللغة الحية من اللغات السامية.
غير أن هذا الخطاب الموصوف بسمات معينة أقدم ذكرُها، هو خطابٌ مصادر، وعنصري وكاذب ويمارس الكذب حد الصدق، أوهمَ العالم أن السامية هي العبرانية، وكاد يحوّل تلك الحقيقة اللغوية إلى حقيقة عرقية. وإذا كان زعم المؤرخين المحدثين نسبياً بأن السامية هي امتداد لجماعات تنزلت من سام بن نوح -عليه السلام- فتلك أقاويل فيها نظر، وإذا آمنّا بهذه المقولة فإنّ إيماننا بها يقف عند حد أو ينتهي في أنها حقيقة لغوية لا عرقية، وأن هذا العداء المزعوم هي ظاهرة مصطنعة عبر دلالة تكوينية لا تكونية.
وإذا استطاع الخطاب العالمي -وأقول الخطاب العالمي تجاوزاً- أن يحرف مسار الفهم تجاه أشياء ومارس إفهام العالم من خلال مسكوكات دلالية معينة، وإقناع جماعات من الناس بالترهيب والترغيب بمنجزات لغوية محددة في أن هناك عداء إلى السامية، فإنه لم يتورّع في عد من يدفع الظلم عن وطنه ويقاوم الاحتلال بأنه مخرب، واستطاع إعلام آخر أن يحرف الفهم في عد أولئك الذين يقطرون مواطنة صافية، ويحملون أرواحهم على أكفهم بأنهم أدوات دول أخرى.
وعلى مستوى آخر، مارس الخطاب الذي طلا علينا وعلى العالم مفهوم الشرعية الدولية، ومفاهيم تكوينية أخرى كمفهوم اللجوء الاجتماعي، الذي يتيحه إلى الأشخاص المخالفين للفطرة الإنسانية، وثمّة طائفة من المسكوكات التكوينية يطول ذكرها ويضيق هنا حصرها تمارس من قبل تلك القوى التي تختطف إفهام المتلقي وتستلبه وتحيل مداركه إلى أوهام.
ولذلك سيكون هذا الخطاب منجزاً لأنه يمتلك فاعليات تجعل ما يريد سارية المفعول بواسطة ما يمتلك من سلطات تقلب الحقائق عبر لغة ناعمة تلج إلى مساحات واسعة من المجتمعات.

* عالم لغوي بحريني