«سيّارة تحمل نقش السواستيكا، يقودها جندي أوكرانيهي نعشٌ على عجلات، يمرّ عبر الحقل
ففي القرب ولدٌ روسي، هو هوليغاني سابق
يقوم الآن بتوجيه صوارخ سميرش واوراغان»

[من أغنية شعبية روسية عن حرب أوكرانيا]

دبّ الذّعر في أميركا حين ظهر «منطاد التجسس الصيني» فوق ولاية مونتانا. لم ينتبه أحد للمنطاد فيما الرياح تجرفه لأيّامٍ مقابل سواحل آلاسكا، قبل أن يخترق كندا بطولها وعرضها، إلى أن دخل أجواء الولايات المتحدة وبدأ النّاس بتصوير تلك البقعة الغريبة في السماء. ثمّ تملّك المواطنين الذهول والمنطاد يمرّ من فوقهم من غير أن يتمّ اسقاطه؛ وهو ما تحوّل بسرعة إلى جوٍّ من «الرثاء الوطني»: «لقد انتهت أميركا»، «ها هم يرسلون مجساتهم فوق رؤوسنا ونحن لا نفعل شيئاً»، «كم أننا ضعفاء وعاجزون» (هناك شكّ كبير في أن يكون المنطاد هو حقّاً للتجسس، ولكن هذا لا يهم).
«صراع ثقافي» (جاكي تساي، 2015)

بعد أن قام سلاح الجوّ الأميركي بإسقاط المنطاد أخيراً، بعد أن قطع البرّ الأميركي بأكمله وأصبح أمام السواحل الشرقية للبلاد، رفع الجميع عيونهم إلى السماء بتخوّفٍ من البصّاص الآتي. خلال أيّامٍ من هذا الهيجان الإعلامي، أعلن الجيش الأميركي عن اسقاط أجسام طائرة أخرى ظهرت فوق كندا، لم يحدّد ماهيّتها ولكن البيان شرح أنّ مقاتلات سلاح الجوّ قد أُمرت باسقاطها «من باب الحرص». هنا ازداد الغموض وتكاثرت النظريات: هل أنت تعرف بالضبط ماذا أسقطت أم لا؟ وكيف تسقط جسماً يطير في الجوّ «من باب الحرص»؟ وخرجت هنا تعليقات ونكات من نمط أن اللقاء الأوّل بيننا وبين الكائنات الفضائيّة قد تمّ تفجيره عبر طائرة أف-15. ثمّ أعلن نادي هواة أميركي أنّ أحد مناطيده العلمية التي يستخدمها في استطلاع الأجواء قد فُقد واختفى من السماء في الوقت ذاته لإعلان الجيش الأميركي أعلاه.
أوّل ما خطر في بالي حين سمعت عن المنطاد الذي يتهادى في أجواء مونتانا هو أنّهم لا بدّ قد أرسلوه للتجسّس على مزرعة «آل دتون»، مزرعة «يلوستون»، في تلك الولاية الزراعية الضخمة والخالية من السكّان. مزرعة يلوستون هو اسم روائي مختلق في مسلسل أميركي يحمل العنوان ذاته يدور حول مزرعة بقر هائلة في مونتانا. المسلسل من بطولة كيفن كوستنر وهو من أنجح الأعمال التلفزيونية التي ظهرت في السنوات الماضية (إن كنتم تعرفون مسلسل «خلافة»، الذي ذكرته سابقاً، فإنّ النقاد يقولون أن «يلوستون» يشبهه ولكن مع رعاة بقر).
بالمناسبة، هناك شيءٌ يجب أن يُقال هنا عن أنّ كلّ ابداع في الحياة (الخطاب السياسي، حس الفكاهة لديك، الجديد في ما تقدّمه) لديه عمر افتراضيّ معيّن، يصبح من بعده مملّاً ومستهلكاً. توجد مقولة في النقاش السياسي أنّ أي نظرية تصبح سخيفة أو غير معقولة إن قمت بـ«مطّها» إلى حالتها المتطرّفة. من هنا، فإنّ هذا النوع من الحجج يعتبر «غير حلالٍ» في الجدال المنطقي العقلاني («أنت ضدّ الرأسمالية، إذاً أنت مع أن يجرّد الناس من كلّ ملكياتهم وأن نصبح عبيداً للدولة؟»، «أنت ضدّ السياسة الأميركية، إذاً تريدنا أن نفتح واشنطن؟»، «أنت لا تتفق مع مفهومي عن الجندر، إذاً أنت مع قتل المتحوّلين جنسيّاً؟»، إلخ). وهذا ينطبق بامتياز على الأعمال الفنيّة والتلفزيون: أي عمل تلفزيوني، مهما كان مبتكراً وجيّداً، سينحو صوب التسطيح حين يستطيل وتتوالى مواسمه، فتظهر عوراته وتبدو شخصياته أحادية الأبعاد وغير قابلة للتصديق (هذه شخصيات، في النهاية، اختلقها كتّاب تلفزيون من نمط تايلور شريدان، صاحب «يلوستون»، وليس تولستوي ودستويفسكي). أعطونا موسماً أو اثنين، ثمّ صمّموا نهايةً فنية تغلق الدائرة وتحترم عملكم، واتكلوا على الله. هذا، مع الأسف، من المستحيل أن يحصل في هذه الأيّام لأسباب اقتصادية هي التي تقرّر صناعة الفنون. حين ينجح عنوان ما (مسلسل، فيلم، لعبة)، فإنّ حافزك هو في أن تعتمد على شعبيته المضمونة لكي «تحلبه» إلى الحدّ الأقصى، بدلاً من خوض المخاطرة في ابتداع عملٍ جديد، ستبنيه وتتكلّف عليه وأنت لا تعرف إن كان الناس سيحبونه أم لا. مخاطرة الابداع قد أصبحت عالية الكلفة، ولا تناسب الستديو. سأعطيكم مثالاً بسيطاً عن اقتصاديات الفنون والترفيه والفارق بين اليوم والماضي: حين كنت مراهقاً أتعرّف على ألعاب الكمبيوتر (في القرن التاسع عشر) كان يكفيك فريقٌ من مبرمجين أو ثلاثة لكي يكتبوا (خلال أسابيع أو أشهر قليلة) لعبة كمبيوتر جيّدة ورائجة. اليوم، إن أردت أن تنتج لعبةً تنافس، فإنّ مجرّد الاوركسترا التي تستأجرها لكي تسجّل موسيقى اللعبة وأصواتها (إن افترضنا أنّك لن تكتب موسيقى أصيلة خصيصاً لها) ستكلّفك بين نصف المليون والمليون دولار.
لهذه الأسباب، فإنّ العناوين «المضمونة»، والجزء الثاني عشر من البرنامج المشتقّ من «لعبة العروش»، هو أغلب نوع الانتاج الذي يحيط بنا اليوم. نجح مرّةً في الماضي، منذ أكثر من عشرة أعوام، مسلسلٌ روائي تاريخي عن الـ«فايكينغز» فأغرقونا - مذّاك - بالفؤوس والأصباغ حتى قرفنا منها. هكذا تحوّل «حرب النجوم» من عمل أسطوري فريد، صنعه جورج لوكاس بحرفيّة وحبّ في أواخر السبعينيات، إلى سوبرماركت شرشوحي على طريقة «وولمارت». و«يلوستون» أيضاً قد دخل مع موسمه الخامس في مرحلة السخافة؛ وهو قد استولد، «على الجانب» كما أصبحت العادة، مسلسلين تاريخيين مشتقّين عنه. وسيكون له جزءٌ جديد في المستقبل يلعب فيه ماثيو ماكونهاي دور البطولة بدلاً من كيفن كوستنر - أي اننا سنعيش مع «يلوستون» ما تبقى من أعمارنا (الأجندة اليمينية والنيوليبرالية للمسلسل موضوعٌ آخر، ولكنها تقول شيئاً مثيراً عن أميركا).

أن تصنع واقعك
موضوع التلفزيون ليس ثانوياً في السياسة، وذلك ليس بمعنى أنّ التلفزيون يقلّد الحياة بل بمعنى أنّ الحياة تقلّد التلفزيون. سأشرح: بعيد هجمات 11 ايلول، نشرت أكاديمية أميركية بحثاً في العلوم السياسية يغطّي كيفية تقديم الإعلام الأميركي للهجمات وكيف استقبلها الجمهور. الحجّة كانت أنّ التغطيّة بكلّ تفاصيلها، من رواية الأحداث إلى المقابلات إلى سلوك المذيعين إلى الغرافيكس، كانت تتبع نمطاً سرديّاً محدّداً سلفاً ومألوفاً، هو النّمط السردي التقليدي للفيلم الأميركي وقوس أحداثه: لديك قوّة خيّرة، أميركا هنا، ليست كاملة وبلا أخطاء ولكنّها تحاول؛ ثم تتعرّض لهجومٍ من «الأشرار» الذين ينصبون لها العداء؛ وبعد كبوةٍ قصيرة يتخيّل الشرّ فيها أنّه قد انتصر، تجتمع قوى الخير لتهزمه، وتتعافى أميركا وتخرج من الامتحان أفضل وأكثر نضجاً مما كانت عليه. بحسب الدراسة، فإنّ التغطية التي خلقت التجربة الجماعية للأميركيين يومها، على مختلف القنوات، كانت تتبع مباشرةً هذا الخطّ السّردي: جوّ الانذار والألوان الفاقعة في الستديو في مرحلة «الانتصار الوقتي للشرّ»، شخصيات «الأشرار»، مثل أسامة بن لادن وصدّام حسين، تمرّ حول وجوههم ظلالٌ قاتمة، فيما صور المسؤولين الأميركيين ألوانها مريحة ومضيئة، كأنهم أبطال «رابطة العدالة».
الفكرة الأساس هي أنّه لا يوجد شيءٌ واضح، متسلسل ومفهوم، اسمه «أحداث» أو «تاريخ». في الواقع الحقيقي، نحن نختبر الأحداث بطريقة عشوائية وفوضوية لا منطق واضح لها، ثمّ نقوم - بعد ذلك - بإعادة سردها و«ترتيبها»، وننشىء بينها علاقات سببيّة، ونسبغ عليها معنىً وقيماً. ونختار، بالطبع، أموراً معيّنة نضمّها إلى الرواية ونقصي أو ننسى أو لا نرى أموراً أخرى. لا نحتاج هنا إلى فيلسوف مثل بودريار لكي يشرح لنا أنّ كلّ هذه التجارب الجماعية: الحرب في أوكرانيا، الثورة هنا وهناك، وصولاً إلى المنطاد والمواجهة القادمة مع الصّين، هي «واقعٌ» يتمّ «تصنيعه» وتقديمه كسلعة. ولكن الناس سيختبروه باعتباره قصّة حياتهم، وسباق الهيمنة هو حول من يقدّم الرواية الأقوى. لهذا السبب أيضاً، في الجدال اليومي العقيم، فأنا غالباً لا ألتفت إلى تفاصيل حجة المتكلّم حين لا تبدو عقلانيّة، بل أبحث مباشرة عن الأسطورة التي تحرّكه: العقدة التي تتحكّم به، تجربة الماضي التي حفرت وعيه، المصلحة ببساطة، «الفيلم» الذي يعيشه. بعد ذلك، لا يعود النقاش مثيراً للاهتمام: أنا يمكن أن أقدّم سرديّة أو حجّة معيّنة حول موضوعٍ معيّن، ولكنّني لن أدخل إلى عقلك حتى أقوم بتفكيك الخرافة التي زرعت في رأسك، أو ملاحقة عقد ماضيك وحلّها - أنا لأ أعرف ماذا حصل لك.
المسألة هي ليست أن «تويتر» سيغيّر موقفك و«يخدعك»، المسألة هي في أن تفكّر وتكتب على طريقة «تويتر»؛ أن تقولب عالمك ضمن مئتي حرف، وضمن نمط النكات والشتم والتنمّر والمجموعات الصغيرة


عندي نظريّةٌ هنا عن أنّ الوعي السياسي الجماعي قد مرّ بعمليّة «ضمور» مقصودة (de-skilling)، خلال العقود الماضية. فكرة العمل السياسي الشعبي والاندماج في الشأن العام هي في بلادناً أساساً عملية تاريخية بنت القرن العشرين. هذا العصر «الايديولوجي» شهد صعود أفكارٍ وهويات وسرديات جديدة حول الذات والماضي. في الوقت ذاته، كانت أعدادٌ هائلة من الناس تمرّ بعملية «تثقيف جماعي» وهي تكتشف ذواتها وتدخل، لأول مرة، مجال السياسة. تجارب حزبية يخوضها الشباب، نقاش مستمرّ في المقاهي والشوارع، أفكار تتلاطم وعليك أن تتعلّم أن تجادل خصمك، ضمن حلبةٍ محددة ووفق منهجيّةٍ معيّنة، لكي تقنع الناس الذين هم في المنتصف. أعتقد أن منهجية «الاعلام الجديد» في السنوات الماضية، وصولاً إلى الشبكات الاجتماعية، كانت تجهد باستمرارٍ لعكس هذه العمليّة واستبدالها بالشعبوية كممارسة سياسية. بعد أن كان الناس يجهدون لتحويل أفكارهم الفردية إلى خطابٍ للجماعة، عدنا إلى السياسة عبر التجربة الفردية والعواطف البدائية. الخطاب العاطفي، الصراخ والشتم باعتباره دليلاً على الأحقية، السرديّة المانويّة البسيطة التي تولد في لحظة، إلخ.
تغطية «الجزيرة» التدميريّة خلال مرحلة «الربيع» كانت الموجة الأولى، حيث يتمّ خلق واقعٍ عبر «شاهد عيان»، ويصبح من العيب أن تستفسر عن وقائع، أو تصيغ موقفاً خاصاً، وسط ابتزازٍ انساني يتشكّل كـ«فيلم» من الواضح فيه من هم الأشرار والأبطال. والجمهور متلقٍّ سالب، فلا يمكنك أن «تناقش» مثل هذا الضخّ، إمّا أن تقبل به كاملاً كما يأتيك من الدوحة أو تظلّ خارجه. الأمر ذاته ينطبق على «السياسة عبر السوشيال ميديا»، ما أقصده هو أن الحيلة الكبرى للقوّة هي ليست في أن «تهرّب» إليك صورة خاطئة حول ما يحصل في فييتنام، بل هو في أن تعوّد الجماهير على أنماطٍ معينة في التفكير والتخاطب وتصوير عالمها. منذ سنوات طويلة قرّر الفرنسي ليوتارد أنّ القوّة في العالم الحديث هي لمن يتحكّم بقنوات المعرفة والمعلومات وبنيتها التحتية، من يقرر بروتوكولات البثّ الفضائي ويتحكّم بتصنيف مواد الإنترنت أو يمتلك منصات «النقاش العام»، أي من يتحكّم بكيفية «صياغة» المعرفة، قبل أن ندخل في محتواها.
بمعنى آخر، المسألة هي ليست أن «تويتر» سيغيّر موقفك و«يخدعك»، المسألة هي في أن تفكّر وتكتب على طريقة «تويتر»؛ أن تقولب عالمك ضمن مئتي حرف، وضمن نمط النكات والشتم والتنمّر والمجموعات الصغيرة التي تقررها المنصة (السوشيال ميديا أيضاً، كما هو معروف، تعطي أي انسان الامكانية بأن يتخيّل نفسه أي شيء، خطيباً أو منظّراً أو عارض أزياء، ومن دون المقاييس «النخبوية» التي كانت تحدّد من يحقّ له الكلام ومن يملك المنبر؛ هذا في ذاته ليس أمراً سيئاً ولكن هذه العمليّة أيضاً تسمّم النّاس). الشعبوية، بالطبع، لها جاذبيتها في عالم اليوم: أيّ كان يحقّ له أن يشكك في حجةٍ تقدّمها، ولكن لا أحد سيشكّك في مشاعرك الخاصة، أو ذكرياتك العائلية، أو انفعالك وسبابك. المشكلة هنا، بالطبع، هو أنّ «الشعبوي الناجح» لن يكون صاحب الأحقية، أو التجربة العميقة، أو الألم الذي لا يطاق، بل سيكون صاحب الامتياز الطبقي والصوت العالي ووقت الفراغ - أو من يتمّ اكتراؤه لهذه المهمّة.

الفيلم الصيني
عودة إلى الحرب. أنا أعتقد، باختصار، أن الحرب في أوكرانيا ستميل مع الوقت لصالح روسيا، وإن استطالت (الافتراضات الخاطئة، الخسائر، التداعيات التي لن تنتهي للحرب، هذا موضوع آخر). السبب هو أن الحرب الحديثة، على قبحها وابتكاراتها، هي أساساً حرب موارد. لو نظرنا إلى الحرب العالمية الثانية، مثلاً، لوجدت أنّ الطرف الذي تفوّق في حشد الموارد هو دائماً الذي انتصر، بغض النظر عن التكتيكات والتكنولوجيا ونوعية المعدات، وذلك على كلّ الجبهات: في شمال أفريقيا، في المحيط الهادىء، في غرب أوروبا، وفي الشرق. وأنا أعتقد أن روسيا ستتمكّن من بذل مواردٍ في أوكرانيا تفوق امكانية البلد الأوروبي وحلفائه الغربيين. الامكانات هنا، أساساً، هي بالمعنى البشري وخزين المقاتلين ولكن، حتى في مجال معدّات القتال والذخائر والدبابات، بدأ الغربيون بمواجهة صعوبة في تزويد أوكرانيا بما يلزمها. هذا، بالمناسبة، ليس لأن الترسانات الغربية «هزيلة» وفارغة، بل لأن نمط القتال الغربي لا يستلزم أكوام هائلة من قذائف المدفعية والمدرّعات والذخائر التي هي عماد ساحة القتال في الدونباس. التأثير على العدوّ، في الحرب الغربية، يكون عبر سلاح الطيران، ودور المدفعية في الجيش الأميركي ثانوي، بل هو أدنى مراتب الجيش في الأهمية، يقتصر عمله على دعم ثاني أدنى مراتب الجيش - سلاح البرّ - حين يتقدّم لاحتلال المواقع بعد أن يكون الطيران قد حسم المعركة من الجوّ. «فنّ القتال» الغربي لا يلحظ أن تصفّ مئات قطع المدفعية أمام المدينة\الهدف، ثمّ تتبارز بالقذائف مع العدوّ لأشهر، قبل أن تتقدّم إلى النقطة القادمة.
حين نتكلّم عن موازين القوى والموارد، فلا مكان هنا لأساطير السياسة، السيف بلا شكٍّ أصدق إنباء. و«الفيلم الحقيقي»، نكرّر، لن يكون بين الغرب وروسيا، بل بينه وبين الصين. حين تراقب البرامج التلفزيونية والتحريض الاعلامي ضد الصين في العالم الغربي، من أستراليا إلى كندا، تفهم أنهم يخلقون «برنامجاً» جديداً وتجربةً جماعية تمهّد للحرب في المستقبل. أدهشني أن العديد من الأصدقاء يعتقدون أنّ الآلة العسكرية الروسيّة هي تهديدٌ أكبر من الصين (ربما بسبب سمعة الجيش السوفياتي، أو لأن التقدم الصيني سريعٌ للغاية وحديث). سأعطي مقارنة توضح الفارق بين القاعدة الصناعية للبلدين ووتيرة بناء البرامج العسكرية: منذ التسعينيات، تعرفون، خرجت أميركا بجيلٍ جديدٍ من مقاتلاتٍ «شبحية»، تمتلك جملة مواصفات سمحت بتصنيفها كطائرات «جيل خامس»، لا يمتلك الآخرون شبيهاً له. فهمت روسيا والصين وغيرها أن عليها اللحاق بأميركا، وقد سبقت روسيا الصين في تطيير طائرتها الأولى من الجيل الخامس (أوائل عام 2010، مقابل 2011 للمقاتلة الصينية). رغم ذلك، فإن روسيا قد أنتجت إلى اليوم، حوالي العشرين نموذجاً من طائرتها الجديدة، سوخوي-57، أي أن أغلبها نماذج اختبارية وقد لا نكون قد استقرينا بعد على نسخة شبه-نهائية. أمّا الصين، فقد انتجت ما بين 150-220 نموذجاً من مقاتلة جي-20 الشبحيّة (هم يخفون الأرقام، فقد تكون أعلى)، أي أنه قد أصبح لديها العديد من الأسراب العاملة، وعددُ كبيرٌ من الطيارين، وسلاح الجوّ يراكم منذ سنوات تراثاً عملياً وخبرةً في استخدام هذه الطائرات.

الحرب في أوكرانيا ستميل مع الوقت لصالح روسيا، وإن استطالت (الافتراضات الخاطئة، الخسائر، التداعيات التي لن تنتهي للحرب، هذا موضوع آخر). السبب هو أن الحرب الحديثة، على قبحها وابتكاراتها، هي أساساً حرب موارد


حتى نشرح وتيرة الصعود الصيني عسكرياً وتقنياً، وبدلاً من الدخول في تفاصيل (لأن الموضوع يتجاوز أن تقتني منظومة معيّنة، أو أن تصنع محرّكاً، إلخ)، سأقدّم الفكرة من زاوية تسلسلها الزمني. حتى أوائل الألفينات، كانت الصين بالنسبة إلى أميركا - عسكرياً - عبارة عن بلد عالم ثالث مع سلاح نووي. بمعنى أن السفن الأميركية كانت تجوب مضيق تايوان بحريّة، وطائرات التجسس تتلصص على حواف الصين، بل وتستفزّ الصينيين لأنها تعرف أنهم ليسوا قادرين على الدخول في مواجهة جوية فوق البحر، أو تقليدية تكون نتيجتها الاذلال المضمون (عام 2000، مثلاً، أسقطت طائرة صينية وقتل طيارها حين اصطدم بطائرة تجسس أميركية، ولم يتمكن الصينيون من فعل شيء سوى الاحتجاج، بل أجبروا على ردّ الطائرة الأميركية التي هبطت في مطارٍ صيني - بعد أن قاموا بتفكيكها، تقول الرواية).
حوالي عام 2004، ظهرت في الغرب - للمرة الأولى - تقارير عن «الخطر الصيني القادم» وتحليلات عن عقيدة صينية جديدة، عمادها «التحريم» (أسميت a2/ad). ما «أفزع» الأميركيين يومها كان طرح - مجرّد طرح - أن الصينيين سيمنعونهم من الابحار بحريّةٍ، على هواهم، في نطاقهم القريب («أصبح لدينا صاروخ مداه كذا، وهو قد يتمكن - مع ألف علامة استفهام - من اصابة حاملة طائرات في البحر، لم تعودوا في أمانٍ كامل»). أمّا اليوم، فإنّ ما أحاجج به هو أنّ الصين لم تعد تخطط لحربٍ «غير متكافئة» أو ردعية؛ بمعنى أن تختبىء ساعة الحرب في التحصينات والأنفاق وتحاول أن تقنص لهم طائرة أو سفينة. من يراقب استعدادات الصين وبرامجها بشكلٍ شمولي يفهم أن خطتها هي في أن تواجه أميركا، إن حصل ذلك، كنظير ومكافىء (peer). حتى أوضّح: هذا لم يتحقّق بعد، ولا أقصد أن الصين ستقدر على تحدّي أميركا في أي مكان. الفكرة هي أنها ستحارب واشنطن، أو أي توليفة من حلفائها، كنظيرٍ ضمن موقع وسيناريو محدّد. أي في بحر الصين الجنوب والشرقي ومضيق تايوان وصولاً، ربما في المستقبل، إلى سنغافورة. ماذا يعني أن تواجه أميركا كخصمٍ نظير؟ هو لا يعني أن الصينيين سيستنسخون تكتيكات الأميركيين ومعداتهم، بل ببساطة أنهم لن ينكفئوا وسيتنافسون على السيطرة على مجالات الحرب كلها: البرّ والبحر والجو والمجال الكهرومغناطيسي، ولن يتركوها للعدوّ من دون مبارزة عليها. حتى الاتحاد السوفياتي، في عزّه، لم يصل بالكامل إلى هذا الهدف، وفكرة أن الصين قد وصلت إلى هذا المكان خلال تلك الفترة القصيرة هو أمر مذهل بالمعنى التاريخي (لن نتكلّم عن كمية «الأدوات» التي تحتاجها هنا، والقاعدة الصناعية والتقنية، وعدد الصناعات والابتكارات المتشعبة التي يجب أن تتقنها لكي تدخل مثل هذه المنافسة). الفكرة الأساس هنا هي ليست في تكنولوجيا معينة أو حاملة طائرات، بل في منحنى الصعود ووتيرته، وهي تقول لنا بأننا سندخل قريباً، على مستوى العالم، في روايةٍ حربية.

خاتمة
كنت أقرأ رواية عسكرية أميركية كتبت في أواخر الثمانينيات، اسمها «الجيش الأحمر»، تتخيل الحرب العالمية الثالثة، وصداماً بين السوفيات و«الناتو»، ولكن من وجهة نظر جنود وضباط الجيش السوفياتي. في أحد فصول الرواية، يكون الهجوم السوفياتي منطلقاً بنجاح. الفرق المدرّعة قد اخترقت الجبهة الغربية حيث أرادوا الاختراق وهي تشاغل الأميركيين حيث يريدون المشاغلة. الخطّة تسير كما يجب، وقد عبر السوفيات نهر الـ«ويسر» وهم يقتربون من الراين. في الوقت نفسه، الخسائر مرعبة، عشرات آلاف الجنود يقتلون في أيام، هانوفر والمدن الألمانية تحترق كمشاعل، واللاجئون البائسون يملأون الطرقات. في لحظة استراحة في مركز القيادة، يأخذ قائد الجبهة السوفياتية، الجنرال مالينسكي، مساعده جانباً بعد أن استعرضوا الوضع. يقول الجنرال ما معناه: «أنت تعرف، أيها الرفيق، أن هذه الحرب لم تكن خياراً لنا، بل كانت اجبارية ولا يمكننا حتى تأجيلها. هم كانوا يهزموننا من دون اطلاق طلقةٍ واحدة، عبر الاقتصاد والتكنولوجيا، وعبر سيطرتهم على أغلب العالم وموارده. هذا المجال، التضحية والدبابات، هو الساحة الوحيدة الذي نملك فيها تكافؤاً ما».
الرواية بسيطة ومسلّية، كتبها جنرال أميركي اسمه رالف بيتيرز، ولكن المثير في هذا المقطع هو في دقّته غير المقصودة؛ أن يفهم جنرال غربي خيارات السوفيات أفضل من السوفيات أنفسهم، الذين كانوا يسيرون في طريق البريسترويكا وتفكيك كيانهم. المحزن هنا هو أنّ سقوط الاتحاد، وتفكيك الامبراطورية، وانهيار الاقتصاد، وتشريد شعوبٍ كاملة، واشتعال حروب وكراهيات، هذا كلّه لم يمنع الحرب ويجنبهم خيارها الصعب. هم قد اضطروا في نهاية الأمر إلى خوضها ولكن من موقع ضعفٍ مقارنةً بالماضي. بدلاً من أن تقاتل في ألمانيا الغربية أنت تحارب في عمق دارك. وبدلاً من أن يكون الأوكران والمجريين والبولنديين حلفاء يقاتلون معك، فهم أعداء يحاصرونك. كما يقول حسن الخلف، فإنّ هذه، في النهاية، هي حربٌ بين «أبناء السوفيات»، شعوب كانوا مواطنين سوية في بلدٍ واحد قبل عقود، فأصبحوا أعداء تاريخيين يتقاتلون. ما هو شكل النصر الذي يمكن أن تحرزه في حربٍ كهذه؟ وأي رواية سنكتب عنها في المستقبل؟
أن تفهم واقعك بنقدية هو أن تفهم الخيارات الصعبة حين تقدّم نفسها لك. من الواضح أن الغربيين، وهم يراقبون الصين، لا يريدون تكرار خطيئة السوفيات. والروس اليوم يدفعون أثمان الماضي ويحاولون كتابة رواية جديدة. المهمّ ما نتعلّمه من هذه القصص المحزنة؛ أن يكون في بلادنا، أيضاً، من يفهم هذا الدّرس.
* كاتب من أسرة «الأخبار»